محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان. خبير في نزاع الصحراء المغربية. في خطوة لافتة تحمل في طياتها رسائل ديبلوماسية بليغة، دشنت سفارة فرنسا بالمغرب، اليوم الثلاثاء 27 ماي، مركزا جديدا ونوعيا لاستقبال طلبات التأشيرة بمدينة العيون، حاضرة الصحراء المغربية. ولئن بدا القرار تقنياوإداريا في ظاهره للبعض، فإنه في جوهره يعكس تحولا عميقا في تموضع باريس إزاء قضية الصحراء، ويفتح الباب أمام قراءات سياسية تتجاوز الإجراء الإداري لتلامس جوهر الصراع الإقليمي وميزان الشرعية الدولية. فرنسا التي ظلت تتحرك ولوقت قريب ، ضمن حدود ضبابية حيال النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، ترسل اليوم بأفعالها رسالة بالغة الوضوح وهي إعتراف عملي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية ، وتكريس للأمر الواقع الذي لطالما أكدته الرباط بدبلوماسية رزينة ونفس طويل. إنها خطوة بعاصمة الصحراء المغربية، تجسد بجلاء المقولة الشهيرة لمهندس السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر والذي قال بأن الشرعية الدولية ليست شيئا يعطى، بل شيئا ينتزع عبر القوة أو الواقع"، وهو الأمر الذي يعكس نجاح المغرب في فرض مشروعيته ميدانيا حتى باتت الدول الكبرى تتكيف مع معطياته على الأرض بصمت لا يقل بلاغة عن كل تصريح. فحين تختار دولة بحجم فرنسا أن تفتح مركزا قنصليا في مدينة تعتبرها الحزائر وصنيعتها بوليساريو "منطقة نزاع" ، فإنه إعتراف صريح بالشرعية السيادية للمؤسسات الوطنية بالصحراء المغربية، إنه تحدّ صارخ لأوهام الإنفصال ومناورات الجزائر . وقد أصاب جورج كينان حين قال: "الديبلوماسية هي فن استغلال الصمت، أكثر من فن استخدام الكلام"، إذ يبدو أن باريس قد اختارت أن تمارس فن الديبلوماسية بصمت ثقيل الوطء على خصوم الوحدة الترابية أو كما يتداول باللغة الدارجة المغربية " الدق والسكات ". خطوة فرنسا اليوم بالعيون المغربية ، تأتي كذلك في سياق إقليمي متوتر، تتكثف فيه تحركات الجزائر والبوليساريو لإعادة الملف إلى الواجهة الأممية، مستغلين التحولات الجيوسياسية الدولية. غير أن باريس، بافتتاحها مركز التأشيرات في العيون، تسقط أوراقا كثيرة من بين أيديهم، وتوجه إليهم صفعة ديبلوماسية مدوية تضاف إلى سلسلة من الهزائم الرمزية التي مني بها المشروع الانفصالي على أكثر من صعيد. وهنا يحق لنا أن نستحضر قول الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون: "من يملك الأرض، يملك الموقف، ومن يفرض الموقف، يفرض الاعتراف". فليس خافيا على أحد ، أن هذه الخطوة تحمل في طياتها مؤشرا على رغبة فرنسية في ترميم العلاقات مع الرباط بعد فترات من الفتور والتباعد. المغرب الذي أضحى لاعبا محوريا في الأمن الإقليمي وفي شراكات التنمية جنوب الصحراء، لم يعد يقبل الغموض أو المواقف الرمادية، وبات يطالب و بجرأة سيادية، بمواقف واضحة وممارسات ملموسة من شركائه التقليديين. ويبدو أن فرنسا استوعبت الدرس جيدا فالسياسة الخارجية ليست تعبيرا عن المشاعر، بل أداة لتحقيق مصالح الأمة فأدركت أن طريق النفاذ إلى المستقبل يمر عبر مواقف ملموسة تعكس توازنا جديدا للمصالح في نظام عالمي جديد . فإفتتاح المركز القنصلي الفرنسي لمنح التأشيرات ، ليس مجرد إجراء إداري، بل هو فعل سيادي بامتياز، يحمل في عمقه بعدا جيوسياسيا يعزز من الطرح المغربي، ويفرض وقائع جديدة على الأرض، ويكرس منطق الواقعية السياسية الذي بدأت كثير من الدول تتبناه باعتباره الطريق الأنجع لتسوية النزاع المفتعل بالصحراء المغربية . ختاما ، دأب المغرب دوما على صقل ممارسته الديبلوماسية بسياسة الصبر الاستراتيجي وحسن توظيف عناصر القوة الناعمة ومها هو اليوم يحتي ثمارها . فباريس اختارت أن تخاطب المملكة المغربية بالفعل لا بمجرد القول، والرسالة وصلت إلى الأعداء ، وفحواها أن سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية لم تعد موضع تساؤل، بل أضحت حقيقة يكرسها الواقع ، ويؤكدها الفعل، ويشهد بها الحضور الدولي المتزايد في عيون الصحراء المغربية.