سجلت الساعات الأربع والعشرون الأخيرة تطورًا سريعًا للأحداث، انطلاقًا من الضربة العسكرية الأمريكية النوعية على محطة فوردو النووية، بتدخل مباشر من طائرات B-2 المتقدمة وصواريخ طوماهوك، التي، رغم عدم تحقيقها لنتائج واضحة أو أضرار في النظام النووي الإيراني بسبب الإخلاء الاستباقي للمحطة، تضع علامات استفهام حول هذا الفعل: هل كان بتنسيق مسبق مع إيران لتفادي وقوع كارثة نووية؟ أم أن الأمر يتعلق بانتصار استخباراتي لإيران على أمريكا؟ هذه الضربة النوعية، التي أشادت بها إسرائيل لدرجة تنويه نتنياهو بالتدخل الأمريكي وتوجهه إلى حائط البراق في القدس للصلاة شكرًا لله على هذه المساعدة، قد تظهر أن إسرائيل أُنهكت وضعُفت بدخولها هذه الحرب التي لم تكن تتوقع أن تستمر كل هذا الوقت.كما أن هذه الضربة وسّعت مجال الحرب، كون الرد العسكري الإيراني على الهجوم الأمريكي لن يكون فوق الأراضي الأمريكية نظرًا لبعد المسافة، وإنما سيستهدف القواعد الأمريكية العسكرية في الخليج العربي والشرق الأوسط، وهو ما تم فعلاً بقصف إيران لقاعدة العديد المتواجدة بمدينة الوكرة القطرية. هذا الخرق لسيادة الدولة القطرية، واختراق أجوائها، والاعتداء على أراضيها، بقدر ما يشكل تنبيهًا وتهديدًا لباقي الدول الحليفة والصديقة لأمريكا، بقدر ما كسر دفء العلاقات التي عادت للنبض بين إيران ودول الخليج. فقد سارعت مجموعة من الدول العربية إلى التنديد بهذا القصف، ما يشكل خطرًا على العلاقات الدبلوماسية بين هذه الدول وطهران. كما أن هذا الهجوم كان له أثر اقتصادي مهم، أدى إلى ارتفاع فوري في أسعار البترول وكذلك أسعار الذهب. الذكاء العسكري الأمريكي تمكّن من تشتيت تركيز وجهود إيران العسكرية التي كانت مسلطة على إسرائيل، حيث تحولت لأهداف أخرى قد تُضعف من قوتها العسكرية.كما أن الخطة الدبلوماسية الأمريكية، المتمثلة في تحقيق السلام باستعمال القوة — حيث أنه بالقوة العسكرية يمكنك فرض السلام على الأعداء — قد أعطت أكلها، عندما أعلن دونالد ترامب أن الحرب ستتوقف بفرض الأمر الواقع، وهو ما خضعت له إيران وإسرائيل تحقيقًا لمصلحة الطرفين. فقد أنهكت هذه الحرب الطرفين عسكريًا وماديًا وسياسيًا، وكلاهما يريدان إيقاف الحرب، لكن الكبرياء السيادي يمنع أحدهما من أن يكون سبّاقًا للتوقف. بعد انتهاء هذه الحرب، التي لاحت بوادرها مع إعلان ترامب وقف إطلاق النار، رغم عدم استشارة الطرفين، سيستطيع كل طرف نسج سردية الانتصار. فإسرائيل استطاعت اغتيال العلماء النوويين والكوادر العسكرية من الصف الأول الإيراني، كما تؤكد رواية أمريكا بقضائها على المشروع النووي الإيراني بقصف مركز فوردو، وبالتالي فقد حيّدت التهديد الإيراني لها. في المقابل، تتمسك إيران بنظريتها في الانتصار بوصولها إلى العمق الإسرائيلي، واستطاعتها تعطيل الحياة في إسرائيل لأيام طويلة، وكسر صورة "البعبع" التي ظلت ترسمها في الساحة الدولية وخصومها الإقليميين. كما استطاعت الحفاظ على كبريائها المخدوش، والوقوف ندًا لند مع قوى عسكرية كبيرة مدعومة من أمريكا، وهو ما يحقق لها انتصارًا معنويًا مهمًا. خلال كل أطوار الحرب، كان هناك مؤشر كبير ودلالة واضحة على تغير في ميزان القوى العالمية؛ لعل أبرزها هو انتقال الاهتمام الجيو-استراتيجي من أوروبا كمحور للعالم إلى الشرق الأوسط كمركز عالمي جديد، ليس اقتصاديًا فقط، وإنما سياسيًا وعسكريًا أيضًا. فقد لاحظنا صمتًا يُحاكي صمت القبور في المواقف الأوروبية، وغياب أي تدخل أو وساطة دبلوماسية غربية كما كان في السابق، وإنما دول مثل تركيا وقطر والسعودية هي التي أصبحت تلعب هذه الأدوار. كما أن ترامب لم يعد يُعر هذه الدول أي أهمية. سواء تم احترام دعوة ترامب لوقف إطلاق النار أم لا، فإن هذه الأيام الاثني عشر الماضية ليست إلا معركة في حرب لن تنتهي ببساطة، وسيكون لتبعات ما بعدها آثار قد تُغيّر كليًا ما كان قبلها.