لقاء تواصلي لوسيط المملكة لتعزيز التفاعل المؤسساتي    "هيئة النزاهة" تطلق استراتيجيتها الخماسية 2025-2030 لتعزيز مكافحة الفساد    طاقة الأمواج .. مجلة أمريكية تبرز التقدم التكنولوجي الهام في المغرب    دراسة: ضعف حاسة الشم قد يكون مؤشرا مبكرا على أمراض خطيرة    2025 تقترب من السنوات الثلاث الأشد حرا    استقبال سفن جديدة متجهة لإسرائيل يجدد المطالب بمنع رسوها في موانئ المغرب    فيفا يعتمد استراحات لشرب المياه أثناء مباريات مونديال 2026    رونار: المغرب أصبح اسماً يرهب الكبار.. والبرازيل نفسها تحسب له ألف حساب    مانشستر يونايتد يتفوق برباعية على وولفرهامبتون    12 سنة سجناً وتعويض ب 32 مليار سنتيم للمدير السابق لوكالة بنكية    مخططات التنمية الترابية المندمجة محور ندوة علمية بالمضيق    تعميم نموذج المجموعات الصحية دون حصيلة تقييمية يفجّر غضب النقابات    2025 تقترب من السنوات الثلاث الأشد حرا    بعد ستة عقود من أول لقاء..المغرب وسوريا يلتقيان في ربع النهائي    مباراة إيران ومصر تتحول إلى جدل حول المثلية في كأس العالم 2026    لاعبو فنربهتشه وغلطة سراي في قلب تحقيقات فضيحة التحكيم    وزراء اللجوء في الاتحاد الأوروبي يتفقون على قواعد جديدة لتسريع ترحيل طالبي اللجوء    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الأخضر    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يسلط الضوء على أشكال العنف الرقمي ضد النساء    هزة أرضية متوسطة القوة تضرب قبالة سواحل الحسيمة    مكتب الصرف.. تسهيلات جديدة لإنجاز عمليات صرف العملات بواسطة البطاقات البنكية الدولية    قراءة سياسية وإستشرافية للزيارة الملكية لدولتي الإمارات ومصر و هندسة جيوسياسية عربية جديدة.    "جيل Z" يعودون للشارع غداً الأربعاء دفاعاً عن "الحرية" و"الكرامة"    دخول قانون المسطرة الجنائية الجديد حيز التنفيذ    مصرع 3 عمال فلاحيين في انقلاب سيارة على الحدود الترابية بين جماعتي أولاد عمران واليوسفية    الصين تعدم مسؤولا مصرفيا كبيرا سابقا أُدين بالفساد    مقتل 67 صحافياً خلال سنة واحدة    بث تلفزيوني وإعلانات.. عائدات المغرب تقدر ب22.5 مليون دولار من "كان 2025"    أكبر تسريب بيانات في كوريا الجنوبية يهز عملاق التجارة الإلكترونية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    المندوبية السامية للتخطيط: دخل الفرد بالمغرب يقارب 29 ألف درهم    السكوري يؤكد فقدان 15 ألف مقاولة خلال ال8 أشهر الأولى من 2025    أطر التعاون الوطني في ال"CDT" يحتجون على تأخر النظام الأساسي    السكوري يؤكد أن قطاع التكوين المهني يواجه صعوبات خاصة    "مراسلون بلا حدود": إسرائيل أسوأ عدو للصحفيين وأكثر دولة قتلا لهم    دراسة تكشف فوائد الذهاب للنوم في التوقيت نفسه كل ليلة    4 قطاعات تستحوذ على 66% من أحجام الاستثمارات الأجنبية في الأدوات المالية    كيوسك الثلاثاء | عودة "أوبر" إلى المغرب تعيد إحياء النقاش حول اقتصاد المنصات الرقمية    طنجة.. استنفار سكان إقامة بعد انبعاث دخان من مطعم في الطابق الأرضي    الكاف تعلن عن شعار "أسد ASSAD "... تميمة لكأس أمم إفريقيا المغرب    المشروع الاتحادي : إعادة الثقة إلى السياسة وربط المواطنة بالمشاركة الفاعلة    الإدارة تتغوّل... والبلاد تُدار خارج الأحزاب وخارج السياسة    الدورة الرابعة لمهرجان مكناس للمسرح : مكناس خشبة لمسارح العالم    سطات.. انطلاق فعاليات الدورة 18 للملتقى الوطني للفنون التشكيلية «نوافذ»    سليلة تارجيست سهام حبان تنال الدكتوراه في القانون بميزة "مشرف جدا" مع توصية بالنشر    مخالفة "أغنية فيروز" بتازة تشعل الجدل... مرصد المستهلك يندد والمكتب المغربي لحقوق المؤلف يوضح    منظمة التعاون الإسلامي تراهن على "الوعي الثقافي" لتحقيق التنمية البشرية    المغرب لن يكون كما نحب    مغربيان ضمن المتوجين في النسخة العاشرة من مسابقة (أقرأ)    علاج تجريبي يزفّ بشرى لمرضى سرطان الدم        إعلان الحرب ضد التفاهة لتصحيح صورتنا الاجتماعية    فيلم "سماء بلا أرض" يفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيلم " أندرومان .. من دم و فحم " .. قراءة تحليلية لمفارقات المغرب العميق

قبل الشروع في تقديم هذه القراءة التحليلية لمفارقات المغرب العميق كما يتمثلها ، إبداعيا و فنيا ، فيلم " أندرومان من دم و فحم " لمخرجه عز العرب العلوي ، أود أن أشير أن هذا الشريط السينمائي الرائع يتناول قضايا الاقصاء و التهميش في أبعادهما الإنسانية و الروحية بطريقة تتحاشى الابتذال ، غايتها هو أن تسلك طريق التعبير الجمالي البسيط الذي ينفذ خطابه في القلوب دونما حاجة إلى تكلف في التعبير الدرامي ، مدفوعا برؤية المخرج الخاصة لظواهر و كوامن الأشياء .
وهذه الملاحظة الأولية تجعلنا نعتبر أن اختيار عز العرب العلوي " اندرومان من دم و فحم " كعنوان لفيلمه كان اختيارا صائبا ، لأن ذلك يعني ، في نظرنا ، إقامة علاقات تقابلية بين الطبيعة من جهة و الإنسان و ثقافته الموروثة من جهة أخرى . فينبغي التذكير أن " أندرومان " هو اسم يعني الشجرة باللغة الأمازيغية ، و في نفس الوقت هو اسم لفتاة أمازيغية شاء لها قدرها أن تلعب، منذ ولادتها ، دورا ذكوريا استجابة لأعراف و تقاليد بالية نجدها قد أقصت النساء في المجتمع الأمازيغي من الحق في أراضي الجموع .
. أما اختياره لمنطقة بولمان القابعة في أعالي قمم جبال الأطلس ، فإنه يعني ذلك اختيار فضاء يغري بجمالياته الطبيعية الخلابة ، و يكشف عن أسرار يحبل بها وسط اجتماعي و ثقافي معبر عن مغرب عميق .. مغرب المفارقات و العجائب ، حيث تطفو على مسرح الأحداث الوضعية المزرية للمرأة القروية ، و كأنه بذلك يضعنا ، كمتلقين ، في مفارقة جامعة بين الحس الجمالي و القساوة كما نسجتها منذ قرون أعراف و قواعد سلوكية بالية .
و الفيلم ، كما سنرى عند تحليل مشاهده الأكثر جمالية على مستوى التلقي و مستوى التقنية و مستوى التعبير ، هو حمولة سيميولوجية تفيض بالمعاني تنعش الذاكرة و الوجدان و توقض في الأعماق الرغبة في التأمل و تتبع أدق التفاصيل في المقاطع الفيلمية القوية .
فإذا تأملنا بعض المشاهد سنجد مايلي :
1 - منذ البداية ، يدخلنا فيلم " أندرومان من دم و فحم " إلى هذا العالم الداخلي لقرية نائية من قرى المغرب العميق . عالم تمتزج فيه أصوات الطبيعة بكل عفويتها و انطلاقتها الصباحية بصوت الإنسان المنسي و المقهور ، الذي يحمل في طياته هموم كثيرة متراكمة ، مثقل بسلطة العادات و التقاليد و جبروت الأعراف و القواعد الاجتماعية البالية . إنه صوت بطل الفيلم " أوشن " ، ذو النبرة العنيفة و الخشنة ، يحث ابنه " أندرومان " و ابنته " رقية " على الإسراع في المشي و السير قدما نحو الغابة ، قبل أن يفطن بهم حارس الغابة " بوغابة " و معاونه، أو أحد عيونهما المبثوتة في كل أرجاء الطريق المؤدية للغابة .
" إيوى تحرك " : يخترق هذا الصوت عذرية صباح جميل على أهبة الاستيقاظ على إيقاع صوت الديكة و أصوات الطبيعة الأخرى ..إنه صوت لا يطلب إلا لكي يأمر أو ينهر بلكنته الأمازيغية التي يمتزج فيها التسلط بالخوف من شيء ما خطير مرتقب قد يحدث بين الفينة و الأخرى . صوت لا يضاهيه إلا صوت آخر مواز له و متماه معه في نفس اللآن ، تنقله لنا بأمانة فنية كبيرة موسيقى الفيلم التصويرية .. صوت مكتوم يشبه الأنين ل" أندرومان / الشجرة " و ل " أندرومان / الإنسان " . فكلاهما يتعرض للقهر و الظلم .. فأندرومان الأولى تتعرض للقطع ، و أندرومان الثانية تتعرض للطمس في هويتها الجنسية . الجرم ، إذن ، مزدوج الصورة .. لكنه موحد في هدفيته : استئصال الطبيعة كمادة خام ( أندرومان /الشجرة ) و الطبيعة الإنسانية كروح ( أندرومان / الإنسان) .
يحاول مخرج الفيلم عز العرب العلوي ، منذ الوهلة الأولى ، أن يشدنا إلى فيلمه ليجعلنا نكشف بسهولة ، عبر هذه النبرة الصوتية لبطل الفيلم " أوشن " نوعا من جبرية يعاني منها إنسان المغرب العميق .جبرية قاسية و مؤلمة لا يعادلها في القسوة سوى هذا المكان الممتد الجاثم على الصدور و الكاتم للأنفاس . كل هذا يظهر في الفيلم مصحوبا بموسيقى تصويرية جد رائعة ، جعلت من نغمة آلة العود صوتا شجيا يحاكي ، هو الآخر ، شجن كل من هذه الطبيعة المدمرة و هذا الإنسان المقهور .
2 - و من زاوية أخرى ، لا تقل جمالية على المستوى التقني و التعبيري ، عن هذه الزاوية ، اختار مخرج الفيلم أن يستيقظ صباح تلك القرية النائية على إيقاع الطبيعة و الإنسان : إيقاع ثغاء الخرفان و هي في المرعى ، و إيقاع راعي القرية " محند " و هو ينحت إطارا خشبيا مربع الشكل ذو واجهتين رسم على الأولى عصفورا و رسم على الثانية قفصا حديديا. فإذا ما تم تحريك الإطار الخشبي بسرعة و بشكل دائري بواسطة خيطين متصلين به عن طريق ثقبين محدثين في ذلك الإطار ، فإن الرسمين يتحدان ، بفعل الدوران ، في رسم واحد و يظهران للعين بشكل تمويهي و خادع على شكل صورة واحدة يظهر فيها العصفور و كإنه داخل القفص .
إنها لعبة بسيطة في تركيبتها المادية ، يعرفها أطفال المغرب العميق و غير العميق ، يستمتعون باللعب بها ، و في النهاية يلتهمون بنهم كبير مادتها السكرية الحلوة اللذيذة .. لكن ، إذا ما تأملناها جيدا في مستواها التعبيري ، سنجدها حمولة دلالية استطاع عز العرب العلوي في فيلمه توظيفها ، فنيا ، بشكل يجعل منها مادة قابلة للتأويل و مولدة للمعنى . إنها ، بتعبير آخر ، لعبة كاشفة لجدلية ما .. جدلية تقابلية بأوجه متعددة : وجه الحرية في تقابله مع العبودية .. وجه البياض رمز الطهر و النقاء و العفوية و البراءة ، في تقابله مع السواد لون الشقاء و البؤس و الحرمان و الإقصاء .. وجه الدم في تقابله مع الفحم
فبهذا التوظيف الجيد لهاته اللعبة، نستطيع أن نجزم في القول أن عز العرب العلوي قد نجح نجاحا كبيرا ، في مهمته الفنية ، و ذلك بمحاولته إخراج الراعي من دوره الضيق المعتاد ( رعي الأغنام ) و إدخاله في دور أسمى يشبه دور أبطال الميتولوجيات القديمة ، حين جعله شاهدا ، كما الأنبياء ، على واقع مغرب عميق تجذرت فيه السلطة الأبيسية حتى النخاع ، التي جعلت من الركود و التحجر أبرز سماتها .. ألم يكن جل الأبطال الميتولوجيين في الأول أناسا عاديين خاملي الذكر .. لكن مفارقات و تناقضات زمنهم قد حولهم من بسطاء إلى أنبياء زمانهم يحملون لأوطانهم رسالة تغيير سامية أساسها المحبة و السلام و السعادة؟ و سوف نكتشف نبل هذه الرسالة التي حملها الراعي ، بعد قبول هذا الأخير لدعوة فقيه القرية في تحمل مسؤولية إخراج نساء القرية من وضعية الغبن التي يعشنها ، إذ الأمر يقتضي الفوز في السباق الذي تقرر تنظيمه بقرار جماعي من مجلس القرية .
3 - لم يكتف عز العرب العلوي بتوظيف لعبة الجدليات التي نفخ في روحها راعي القرية و حاول تسليمها للطفلة " رقية " لكي تديرها وفق إيقاع زمن بنيوي رتيب ، لا مكان فيه للديناميكية و الصيرورة ، بل حاول أن يرسم تقاطعات بين دور الراعي و باقي الأدوار المركزية الأخرى .. يتعلق الأمر ببطل الفيلم المسمى قسرا ب "أندرومان " الحامل في دواخله لكل مفارقات المغرب العميق . " أندرومان " الحامل ، منذ الولادة لازدواجية قاتلة على مستوى هويته الآدمية .
فالصبح الجميل الذي ابتدأ به الفيلم ، لم يستيقظ فقط على إيقاع الطبيعة و تجلياتها التي أتينا ، لحد الآن على ذكرها : نهيق الحمار ، نعيق البوم ، صفير النسور في قمم الجبال ، ثغاء الخرفان ، صوت أوشن الخشن و العنيف ( كلمة أوشن تعني بالأمازيغية الذئب ) و نفخ الراعي الروح في لعبة الجدليات ، بل سيستيقظ أيضا هذا الصبح على إيقاع " أندرومان " الذي يحفر الأرض بنرفزية ظاهرة و كأنه يستخرج بدل التراب ، من قاع الأرض ، هوية ما .. دفينة .. لكائن ما يسكن دواخله . فعبر العنصرين الطبيعين التالين : التراب ، الماء ، و عبر الأداتين التاليتين المستعملتين كميكانيزمات تعبيرية : آلة الحفر و آلية الحفر ، استطاع مخرج الفيلم عز العرب العلوي أن يجعل من انبلاج ذلك الصبح كشفا لهوية " أندرومان " الحقيقية .
4 - لقد سعى المخرج عز العرب العلوي ، أكثر من مرة ،في فيلمه إلى تبيان كيفية تحسس " أندرومان " لهويتها الحقيقية ، و ذلك عبر لقطات جد معبرة :
- ففي المشهد الرائع الذي جعل وجهها يرى معكوسا في الماء أثناء جلبها للماء من المستنقع ، بدا الوجه ، في مرآة نفسها ، بارز الأنثوية .. لكن صدى ضربات فأس " أوشن " الموجعة للأشجار عكر صفوه فتلاشت بالتدريج تلك الأنثوية .
- أما المشهد الذي صور تأمل " أندرومان " لوجهها في المرآة ، و هي في غرفتها ، صحبة أختها " رقية فقد صورها " تتحسس بأناملها باروكة الشعر الموضوعة على رأسها الحليق أصلا ، و اللعب بظفيرتيه و الانتقال ، بعد ذلك ، إلى الحاجبين فالفم و الوجنتين و الانتقال إلى الصدر و تحسسه برفق ثم الضغط بقوة على الوجه لتغيير معالمه و محاولة قياس ثوب نسائي و الاستدارة بالجسم نحو اليمين و نحو اليسار و النظر ، مرة أخرى ، في المرآة لتحسس مدى ما تركته هذه الاستيهامات من أثر طيب على نفسيتها .
- أما مشهد مجييء " العطار " البائع المتجول ، فقد كان جد معبر ، إذ صور انطلاق " أندرومان و اختها " رقية " جريا نحو باب المنزل ، عند سماعهما " لصوت " العطار " و هو ينادي على نساء القرية لاقتناء ما يعرض سوقه الصغير المتنقل على حماره من " حركوس " ، و سواك و ماء زهر وكحل و "غاسول " . كما صور كيف شدهما هذا العالم الأنثوي الغريب و الساحر ، المنبعث عبر ثقب الباب . لقد كان ذلك إيذانا باستيقاظ أنثوية " أندرومان " الغارقة في سبات القهر و الحرمان .
5 - " أندرومان " إذن ، ليس فتى كما تدعي ثيابه التي غلف مجتمع المغرب العميق جسمه الأنثوي بها ، بل هو تلك الفتاة اليافعة التي اختار لها جدها من أبيها ، منذ الولادة ، أن تلعب دور الذكر الذي سيضمن استمرارية إرث العائلة للأرض ، تحايلا على أعراف القبيلة التي تقتضي أن تحرم العائلات من إرث الأرض إذا لم ترزق بأبناء ذكور و رزقت بدل ذلك بإناث.
ففي داخل هذا السياق آنف الذكر ، يجب وضع اللقطة التي تصور سقوط " أندرومان / الشجرة " على والد " أوشن " و هلاكه على يديها ، تلك اللقطة التي حاول المخرج أن يخلق عبرها تواز بين الثنائيتين الميتافيزقيتين : الموت // الولادة .. ففي خضم النزع الأخير للجد المحتظر ينبعث من رماد الموت صوت " أندرومان / الجنين و صراخه .. لكنه انبعاث غير مكتمل .. ارتأى له عز العرب العلوي أن يكون انبعاثا جنينيا يخرج من رحم ضيق ليدخل في رحم أوسع .. رحم المغرب العميق ، حتى تأتي اللحظة الحاسمة التي تخلق من تراكمات المرحلة الآنية مرحلة مخاض جديدة من نوع آخر و تجعل من " أندرومان " إنسانا مكتمل الهوية قادرا على مواجهة تحدي التغيير في مجتمعه .
و الحديث عن هذه اللحظة الحاسمة .. لحظة التغيير و أخذ زمام المبادرة ، هو حديث عن لحظة تحول أنطلوجي ماهوي لكيان " أندرومان " ارتأى عز العرب العلوي أن يكون مرتبطا بدخول هذه الأخيرة في لجة عاطفية جاشت لما تهاوى جسمها في الماء و ارتسم أثر النهدين و برز على مستوى الصدر فوق الثياب المبللة ، ليعلن هذا التهاوي في الماء ، للراعي ، أولا ، و للعلن ، ثانيا ، أنثوية " أندرومان " .
6 - و من زاوية النظر لمأساة أخرى لا تقل خطورة عن مأساة " أندرومان " يصور لنا عز العرب العلوي الوضع الكارثي الذي تتخبط فيه الطفلة " رقية " . فحتى إن بدت ، ظاهريا ، فتاة مطواعة مرافقة لأبيها في رحلة عمله الشاق و القيام لرصد تحركات " بوغابة " و معاونه ، من أعلى الشجرة ، فهي، في العمق ، تمثيل حي و حقيقي لطفولة مغتصبة في مغرب عميق بمآسيه و إقصاءاته و مئال شخوصه .. هذا المعنى الدراماتيكي جعل من الطفلة " رقية " تلعب دور الشهيد / الشاهد من " أعلى رمزي " على جرائم مجتمع ذكوري لم يكتف فقط باستباحة هتك حقوق النساء ، بل أيضا هتك حقوق الطفلات و حرمانهن من ممارسة طفولتهن بشكل طبيعي .
" رقية " ، إذن ، هي الوجه الموجب ل" أندرومان " المحرومة ، منذ ولادتها ، من حقوقها الطبيعية كأنثى ، و قدتجسد ،في صفة كائن بشري يتمتع على الأكثر، بهويته الجنسية ، لكنها ، أيضا ، و في مقابل ذلك ، كليشيه سالب قد انطبع على صفحة من صفحات الإقصاء و التهميش الذي تعاني منه الطفولة في المغرب العميق . " رقية " تبعا لهذا المعنى ، هي " أندرومان معكوس " قد حتم عليها في مجتمع قروي ذكوري أن تستيقظ فجرا و تذهب كما يذهب الرجال للعمل . فإذا كان محرم على " أندرومان " الإفصاح عن أنثويتها لاعتبارات مصلحية اقتضاها اقتصاد مجتمع قروي معتمد على سواعد الذكور ، فإن " رقية " قد دخلت ، من حيث لا تدري ، في طابو مركب جعلها تحرم كأنثى من اللعب أو حتى من الهبوط من أعلى الشجرة ، مقر عملها ، من أجل قضاء حاجتها الطبيعية من تبول أو تغوط ، حتى لا يكون مصيرها الموت . لننتبه إلى تلك اللقطة الجميلة التي صورت ،ببراعة فائقة ، كيف تعرضت للتهديد بالقتل من طرف والدها " أوشن " بواسطة المدية ، لما طلبت منه السماح لها بالنزول من أعلى الشجرة بقصد التبول ، و ننتبه ، أيضا ، إلى تلك اللقطة التعبيرية الدراماتيكية التي صورت لنا " رقية " و هي ملقية فوق غصن الشجرة ، معانقة عناقا أبديا " أندرومان / الشجرة " حيث ظلت المسكينة ، الليل كله ، تكابد قساوة الطقس البارد و الماطر ، دون أن تبرح مكانها خوفا من تسلط و جبروت أوشن ، ذلك الكائن الذي حولته الأعراف إلى مسخ آدمي مسلوب الإرادة ، و أصبح ، بفعل ذلك ، رمزا تعبيريا عن مشروع أنثى لم يكتمل .
7 - أيضا ، من تجليات هذا المغرب العميق التي يؤشر عليها هذا الفيلم ، نجد ما يلي :
- ذلك المشهد الجميل و المعبر الذي يصور فيه مخرج الفيلم قدوم مندوب المخزن إلى القرية لأخذ صور للأهالي بغرض إعداد وثائق إدارية لهم ( الحالة المدنية ، بطاقة التعريف الوطنية ) . فقد تكفي تلك الأسئلة العفوية التي طرحها عيسى على المسؤول لمعرفة جدوى تلك الوثائق ، لنكتشف زيف الخطاب الرسمي في تبنيه خيار فك العزلة عن المغرب العميق .
- و ذلك المشهد الذي يصور ، بشكل كاريكاتوري ساخر ، صدمة الحداثة و أثرها على نفوس أهل القرية ، فكاميرا الفيلم كانت جد صادقة في نقلها لمختلف تمظهرات الوجوه أثناء تقابلها مع عدسة آلة التصوير .. فقد كان الكل يجتهد في أن يقدم مظهرا لائقا ليتمكن من تقمص وجه الحداثة الذي سيطلع في الصورة .. إنه " بنادم الفاخر " كما يحلو " لبوغابة " أن ينعت أهالي القرية في مجلس سكر ليلي ساخط على الأوضاع وسط الغابة ، لما صرخ صرخته اليائسة في وجه الخواء .. تلك الصرخة التي كشفت عن ألم دفين قادم من الأعماق لم يستطع " بوغابة " أن يزيحه عن صدره سوى بخيار مفتوح موقوف التنفي، ألا و هو تصويب بندقيته و إفراغ رصاصتها الوحيدة في دماغه ليرتاح من عذاباته .
8 - و أخيرا ، و بعد أن استنفذنا أغراض هذا التحليل ، يمكن القول أن عز العرب العلوي يشق ، عبر فيلمه " أندرومان من دم و فحم " طريقه بكل عزم و ثبات ، راسما بذلك سحنته الفنية المتميزة بفراداتها . فمنذ اللقطات الأولى يفرض عليك الشريط هيبته و شخصنته الفنية ، انطلاقا من الدخول ، عبر موسيقاه التصويرية الرائعة الى سردياته التي تجعل من الواقعي مادته الخام و من الغرائبي روحه التواقة إلى معانقة المدهش الممتع و الساحر .
عبد الجبار الغراز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.