المغرب يجدد التزامه بنظام عالمي منصف للملكية الفكرية في اجتماع الويبو بجنيف    في بيان المؤتمر الإقليمي السابع لأكادير إداوتنان دعا إلى توحيد الصف واستنهاض كافة الطاقات من أجل استعادة الريادة تنظيميا وسياسيا بالإقليم    لوكا مودريتش يعزز صفوف ميلان الإيطالي    لماذا يغيب "اللواء الأزرق" عن شواطئ الحسيمة؟    استمرار ‬ارتفاع ‬أسعار ‬الأسماك ‬والخضر ‬والفواكه ‬يزيد ‬من ‬إثقال ‬كاهل ‬المغاربة    نزار بركة يؤكد من العرائش: اهتمام خاص بقطاع الموانئ والنقل الجوي بجهة الشمال    المغرب ‬يواصل ‬تعزيز ‬صمود ‬المقدسيين ‬في ‬مواجهة ‬الاحتلال        تشيلسي يختبر صلابة فلومينينسي في نصف نهائي كأس العالم للأندية    قطاع الإسمنت بالمغرب يسجّل أداء إيجابيا في النصف الأول من 2025    العمراني: دفاعنا عن تطوان التزام أخلاقي يسبق الممارسة السياسية وجلبنا للإقليم مشاريع هامة    توقعات احتياجات الخزينة تتراوح بين 12 و12,5 مليار درهم في يوليوز الجاري    جواد الزيات يعود لرئاسة الرجاء الرياضي لكرة القدم    عودة المياه بشكل طبيعي إلى إقامة النجاح بسلا بعد تدخل عاجل    جمود في مفاوضات الدوحة بشأن وقف إطلاق النار في غزة    مبابي يسحب شكوى المضايقة الأخلاقية ضد سان جرمان    عواصف وأمطار غزيرة تتسبب في فيضانات وانهيارات أرضية بعدة مناطق بإيطاليا    مجلة أوليس الفرنسية: المغرب يجذب بشكل متزايد كبار المستثمرين    المغرب وألمانيا يبحثان الارتقاء بعلاقتهما إلى "شراكة استراتيجية"    توقعات أحوال الطقس غدا الأربعاء    وفاة الطالبة آية بومزبرة يُخيم بالحزن على قلوب المغاربة    المغرب يكثف جهود الإنذار والتوعية من مخاطر موجات الحر            بورصة البيضاء تبدأ التداول بالتراجع    بايرن ميونخ على أعتاب توجيه ضربة لبرشلونة الإسباني في الميركاتو الصيفي    إلغاء مباراة المركز 3 بمونديال الأندية    "كان" السيدات.. المنتخب المغربي يختتم تحضيراته تأهبا لمواجهة الكونغو في ثاني الجولات    مقتل 5 جنود إسرائيليين بكمين لكتائب القسام في شمال قطاع غزة    شرطة السياحة بأكادير تؤكد قانونية تدخلاتها ضد الإرشاد العشوائي    أمريكا تلغي تصنيف هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية أجنبية    بعودة حنان الابراهيمي.. سعيد الناصري يصور "تسخسيخة"    مؤسسة منتدى أصيلة تسدل الستار على الدورة الصيفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي ال46 (صورة)    بتوجيه من نظام تبون.. مدرب الجزائر يُجبر على إخفاء اسم المغرب من شارة كأس إفريقيا    تهديدات بفرض رسوم جمركية جديدة على دول "البريكس".. كفى للحمائية غير المجدية    بنعلي: غياب تمثيلية الجالية غير مبرر    حضره ممثل البوليساريو.. محمد أوجار يمثل حزب أخنوش في مؤتمر الحزب الشعبي الإسباني    ممارسة الرياضة بانتظام تقلل الشعور بالاكتئاب والتوتر لدى الأطفال    أوزين: الصحة تنهار وشباب المغرب يفقد ثقته في الدولة    حزب "فوكس" الإسباني يهاجم معرضًا مؤيدًا للبوليساريو: ترويج لعدو إرهابي قتل مئات الإسبان    مهرجان ثويزا يشعل صيف طنجة بالفكر والفن والحوار    بلاغ إخباري حول تجديد مكتب جمعية دعم وحدة حماية الطفولة بالدارالبيضاء    التوقيع على مذكرة تفاهم بين المغرب والمنظمة العالمية للملكية الفكرية للحماية القانونية للتراث الثقافي المغربي    ارتفاع الفقر في فرنسا إلى مستويات غير مسبوقة منذ 30 عاما    حين تصعد وردية من رمادها وتمشي فوق الخشبة    لقاء تواصلي أم حفل فولكلوري؟    فتح باب الترشيح لانتقاء الفيلم الطويل الذي سيمثل المغرب في جوائز الأوسكار 2026    المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا بالرباط .. باحثون من أزيد من 100 بلد يناقشون «اللامساواة الاجتماعية والبيئية»    حق «الفيتو » الذي يراد به الباطل    دراسة ألمانية: فيروس التهاب الكبد "E" يهاجم الكلى ويقاوم العلاج التقليدي        التوصل إلى طريقة مبتكرة لعلاج الجيوب الأنفية دون الحاجة للأدوية    دراسة: ليس التدخين فقط.. تلوث الهواء قد يكون سببا في الإصابة بسرطان الرئة    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الزطاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 03 - 2010

عبد الأحد السبتي، بين الزطاط وقاطع الطريق. أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2009.
يتموضع كتاب عبد الأحد السبتي في سياق تجاوز الإسطوغرافية الجامعية على النحو الذي تظهر به في الدراسات الأساسية من رسائل وأطروحات ذات البناء التقليدي، وإخراج البحث التاريخي من التناول المعطياتي، والتناول الأرشيفي، والتناول الوطني، وفتحه على التفسير، وذلك بالتنبه إلى قضية المجال كإشكالية رئيسية، واستثمار مفاهيم جغرافية وأنثروبولوجية لرصد بنيات المغرب قبل الاستعمار، أي تلك التي ورثها منذ العصر الوسيط، على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وهذا التموضع يتخذ من التركيب إطارا للدراسة.
وفي واقع الأمر، إن عملية التركيب هذه هي التي مكنته من فتح أفق عريض من الوجهة المعرفية، وجعلت الكتاب، برأيي، يحتل مكانة أساسية، ليس فقط في حقل التاريخ، وإنما أيضا في حقول معرفية أخرى، وفي طليعتها الأنثروبولوجيا والجغرافيا.
وفي هذا السياق نستحضر ما قاله المؤرخ الفرنسي مارك بلوك (Marc Bloch) عندما تحدث عن التركيب التاريخي، كونه يسدي خدمات أهم من الكثير من المونوغرافيات ، وأيضا كونه يمنح للتاريخ مكانة بارزة بين العلوم الاجتماعية. فإذا كانت المونوغرافيات تمنح إمكانية فهم القضايا المحلية، ومن ثم الأخذ بالأدوات الضرورية لفهم القضايا ذات البعد المجالي الأكثر سعة، فإن المنحى التركيبي يبقى ذا فائدة معرفية كبيرة لأنه يوسع منظار المؤرخ، ويحفزه على مراجعة المسلمات وصياغة الفرضيات وتغيير مسارات الفهم والتأويل، ومن ثم توجيه الدراسات.
ولعل التمفصل الرئيسي لهذا التركيب يتجلى في معالجة إشكالية التاريخ الاجتماعي للمغرب عبر موضوع تنجذب حوله قضايا كبرى، وتظهر فيه التقاطعات الاجتماعية والسياسية والثقافية.
لقد ركز عبد الأحد السبتي على ظاهرة اجتماعية، هي «الزطاطة»، لكتابة تاريخ اجتماعي تنعكس فيه التمفصلات المهيكلة للبناء الاجتماعي: المعرفة والسلطة، والمادي والرمزي، والمركز والهامش، وحدَّدَ، في المنطلق، دلالاتها التاريخية والاجتماعية. فالزطاطة تعني في الأصل، إلى حدود التدخل الاستعماري في المغرب «ما يؤديه المسافر لمن يخفره ويحميه في الطرق غير الآمنة التي يرتادها اللصوص والقطاع»، لكنها دلالة متغيرة في الزمن. فهي مؤسسة اجتماعية وسياسية ذات أساس تاريخي، وذات امتداد اجتماعي أيضا، من حيث الدلالة الاستعارية. فبعد الاستقلال، وبفضل «عملية استعارية تنتمي إلى معجم الرشوة» نجت الكلمة من الضياع، ودخلت في نسق معجمي يحيل إلى ممارسات يومية، إدارية - مخزنية بالدرجة الأولى، إلى ظاهرة اجتماعية، إلى سلوك ثقافي، أو يحيل إلى استعمال عامِّي يستند إلى «الخبرة العَمَلية، والقدرة على إيجاد المخرج المناسب في الظروف الصعبة»، وهذه الدلالات العامية قد نلتقي بها أحيانا حتى في الخطاب الصحفي والسياسي.
ومن خلال مفهوم «الظاهرة الاجتماعية الكلية»، الذي صاغه عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس (Marcel Mauss)، والقائمة على أساس تناسبٍ ثلاثي الأبعاد، سوسيولوجي تزامني، وتاريخي تعاقبي، وفيزيو-سيكولوجي، تناول عبد الأحد السبتي قضية الزطاطة هذه التي تعبئ في آن واحد كامل المجتمع ومؤسساته. «فهي تكشف أساليب مختلف أنواع المؤسسات الدينية والقانونية والأخلاقية، وهي في آن واحد مؤسسات سياسية وعائلية. هذا إلى جانب المؤسسات الاقتصادية التي تفترض أشكالا خاصة من الإنتاج والاستهلاك، والظواهر الجمالية التي تنتجها هذه الوقائع والظواهر المورفولوجية التي تعبر عنها هذه المؤسسات» (ص 237).
إن ما يترقبه قارئ التاريخ من المؤرخ، سواء كان هذا القارئ محترفا أو مستنيرا، هو تفكيك الماضي وإشراكه في فهم هذا الماضي عبر موضوعات تتقاطع فيها القضايا والأسئلة، وتتعدد فيها مستويات قراءة النصوص وتأويلها. وتشكل هذه الرؤية المنهجية محطة مركزية في الكتاب.
وتظهر مسألة تقاطع القضايا والمستويات والأسئلة في كتاب عبد الأحد السبتي من خلال التركيز على السياقات السياسية والاقتصادية والثقافية، وتوظيف أجناس مصدرية متعدد، رحلية، وإخبارية، ومناقبية، وفقهية. وتعدد السياق هذا هو الذي أخصب موضوع الزطاطة ومَوضَعَه في ملتقى متعدد المسالك، إذ تفرعت منه المظاهر والحالات والأسئلة، وجعلت عملية التحليل تنتقل من تصنيف النصوص إلى تصنيف القضايا التاريخية والاجتماعية والثقافية، ومن تِبيان شبكة المسالك والطرق إلى استجلاء لغة تمثل التراب، ومن الكشف عن سياق الأحداث والوقائع إلى إثارة إمكانيات المقارنة والتنظير.
ومن القضايا الأساسية التي خضعت للمراجعة في سياق التقاطع المذكور، نذكر على سبيل المثال ثنائية «بلاد المخزن» و»بلاد السيبة» التي تظهر في كتب الرحلة الاستكشافية التي جمعت بين الوصف الجغرافي والثقافة الإثنوغرافية، خاصة كتاب شارل دو فوكو المؤَلَّف في نهاية القرن التاسع عشر. فعندما يتناول عبد الأحد السبتي قضية الانتقال من المجال إلى التراب التي تعبر عنها أشكال تأمين الطرق، فإنه يكتشف «قدرا كبيرا من المرونة، وتمفصلا معقدا بين التدبير المحلي والتدبير المخزني»، وهي أمور لا يمكن فهمها إلا بالتنبه للتشكيلات المجالية التي تحيل إلى «خصوصية مفهوم التراب في النسق المغربي التقليدي»، وهي محطات المسالك الطرقية، وثنائية المجال (الغرب/الحوز)، وظاهرة الأطراف والتخوم، ومسألة الطرف القريب من المركز.
مجال للتاريخ: تاريخ المجال
فتح عبد الأحد السبتي، من خلال ظاهرة الزطاطة، مسلكا للبحث في تاريخ المجال. وفي واقع الأمر، انتقل بنا الباحث، عبر فصول الكتاب، ونصوصه، من تاريخ المجال إلى مجال التاريخ، ومن مجال التاريخ إلى تاريخ المجال. وبتعبير آخر، إذا كان صاحب الكتاب قد اتخذ من أمن الطرق قضية أساسية لتناول تاريخ المجال، تاريخ التراب الجغرافي بالمغرب في بعده الاقتصادي والاجتماعي والثقافي قبل دخول البنيات الاستعمارية الحديثة، فإنه جعل، من أمن الطرق، على نحو جدلي بيِّن، موضوعا خصبا للتاريخ، ونافذة واسعة لفهم هذا التاريخ.
ولا يفوتنا، ونحن نتحدث عن إشكالية الكتاب هذه، أن نشير إلى فكرة صاحب «مجلة التركيب التاريخي»، هنري بير (Henri Berr) وهو يقدم كتاب مؤسس الحوليات، المؤرخ لوسيان فيفر (Lucien Febvre) الأرض والتطور البشري، مقدمة جغرافية للتاريخ الصادر لأول مرة عام 1922، عندما قال أن موضوعا معقدا من هذا الطراز، يبحث في تاريخ المجال، يستلزم من الباحث أن «يكون جغرافيا مؤرخا، أو بالأحرى مؤرخا جغرافيا، بل وحتى عالم اجتماع، لأنه من دون شك، عندما يجعل المؤرخ من حقله المعرفي تصورا عريضا وعميقا، عندما يسعى إلى الجمع بين خيوط الفعل البشري، الخارجية والداخلية، مع الحفاظ على خصوصية دراسته، فإنه يرغب في توسيع عملية الفهم للوصول إلى فعالية كاملة. وتناول مثل هذا، على نذرته، من شأنه أن يجعل من العلاقات بين الإنسان والمجال إشكالية هامة جدا».
إن المجال مفهوم جغرافي بالدرجة الأولى. لكن العلوم الاجتماعية والسياسية تناولته تناولا أساسيا لفهم بنيات المجتمع وأطره الثقافية والقانونية. وفي حقل التاريخ يظهر المجال كعنصر مُحَدِّد في عملية بناء الدولة من حيث التشكل الترابي وتغير عناصر هذا التشكل عبر الزمن. وتبقى قضية المسالك ومحاور مرور البشر، من تجار وحجاج وجند، ومشاكل حركة المرور هذه، من أهم العناصر المساهمة في بناء المجال، ومن ثم في بناء شكل السلطة. فالطرق كما يقول لوسيان فيفر «تُنشأ الدول أو تحافظ عليها»7. كما يمنح التاريخ، في مستواه التدويني، أفقا آخر لإدراك المجال من خلال مفهوم الهوية وارتباطاتها بالتكييفات السياسية والثقافية على النحو الذي تظهره الأدبيات الإسطوغرافية.
وبناءً على هذه الأفكار، يبرز المجال المغربي في علاقته بالفعل البشري، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، في المظاهر الآتية:
وجود علاقة وطيدة بين نشأة الدولة المركزية من جهة، ومراقبة شبكات المسالك، من جهة ثانية، وهي علاقة تماثل بين طرق التجار وطرق الجند. ويتضح هذا الأمر منذ العصر الوسيط، وبالذات منذ الدولة المرابطية التي اتبعت في حركتها المحور التجاري المعروف ب «طريق اللمتوني» المنطلِق من الجنوب، مرورا بالدول التي تعاقبت على حكم المغرب فيما بعد، والتي تمحورت شبكات مسالكها في فاس التي التقت فيها الطرق الآتية من تلمسان وسجلماسة ومراكش، وفي مراكش التي التقت فيها الطرق الآتية من فاس وسجلماسة ورباط الفتح، وانتهاءً بالقرن التاسع عشر الذي استمر فيه موقع فاس ومراكش كقطبين رئيسيين، لكن مع «تغييرات واضحة في تفاصيل الشبكة الطرقية»، منها تزايد أهمية المسالك المحاذية للساحل الأطلسي.
وجود تحولات مجالية، رصدها عبد الأحد السبتي في الزمن، مركزا على المرحلة المرينية ودورها في التشكل الترابي للمغرب، وذلك بإبراز مجموعة من العناصر التاريخية: الدينية (هوية دينية مختلفة عن إيديولوجية الخلافة المشرقية)، والسياسية (تكون كيان سياسي قريب من نموذج الدولة المركزية، بالعلاقة مع الانشطار الثلاثي للمغرب الكبير)، والإسطوغرافية (إعادة تركيب الماضي بالاستناد إلى اللحظة الإدريسية كمرحلة تأسيس للدولة المغربية .
وجود ثنائية جغرافية ذات جذور تاريخية تعود إلى العصر الوسيط، وتتمثل في منطقة الغرب/الشمال، ومنطقة الحوز/الجنوب. الأولى تمتد من «أم الربيع إلى وجدة، مرورا بالسهول الأطلسية وسهل سايس، والثانية تمتد من «أم الربيع إلى أقصى سوس». وهذه الثنائية تبقى مُحَدِّدة على مستويات مختلفة، سياسية من حيث الصراع حول السلطة بين العصبيات أو بين الأمراء، وثقافية من حيث طقوس زيارة تهنئة السلطان التي كان يقوم بها العمال في المناسبات الكبرى. كما تظهر هذه الثنائية المجالية من حيث الممارسة السياسية على مستوى التقاطب بين مدينتي فاس ومراكش، كرستها «مؤسسة الأمير الخليفة» في القرن التاسع عشر، إذ جرت العادة بين السلطان والأمير إذا كان الأول بمراكش نهض الثاني لتحمل المسؤولية بمكناس وفاس والعكس.
وجود مفارقة جغرافية تتمثل في «ظاهرة الطرف القريب من المركز، والبعيد مجاليا عن موقع الهامش». وهي ظاهرة تهم مجموعة من القبائل، كما تهم عواصم البلاد المتعددة، أي عواصم الغرب: فاس ومكناس والرباط، وعاصمة الحوز: مراكش. ويتعلق الأمر، مثلا، بقبيلة غياثة القريبة من فاس، وقبيلة بني مطير القريبة من فاس ومكناس، وقبائل زمور وزعير والسهول القريبة من الرباط وسلا، وقبيلة الرحامنة القريبة من مراكش.
وتكمن أهمية الجهد المنهجي لعبد الأحد السبتي في تقديم شبكة من النصوص، الرحلية والإخبارية والمناقبية والفقهية، كحلقة أساسية في البحث، بحيث استأثرت بأربعة فصول من أصل خمسة. وتظهر هذه النصوص التي تتقاطع فيما بينها ك «أصوات تنتمي إلى بيئات وسياقات معينة، وتحركها رهانات وقيم وتصورات»، أطرت المجتمع ووجهت سلوكياته وممارساته، ك «وسائط تنقل إلينا أصداء الأحداث والأفعال». وقد عمل عبد السبتي، الذي سبق له أن تناول موضوعات أخرى، مثل المدينة، والشاي، من زاوية الكتابة عبر شبكة من النصوص، على إعادة استشكال هذه الأخيرة، من حيث الترتيب والقراءة والتأويل. وهذا الاختيار المنهجي، لا يخلو من تعقيد بالنسبة للقارئ بالقياس إلى تعدد النصوص واختلاف مرجعياتها وتنوع زمنياتها. لكن القارئ المتأني يستكشف أن ما يقترحه صاحب الكتاب هو «إعادة تركيب الصورة باعتبارها جزءاً من الواقعة الاجتماعية»، لأن «الصورة والمِخْيال يساهمان في تشكيل الظاهرة الاجتماعية». وهذا ما حاول تبيانه من خلال موضوع «فعالية» الرموز (ص 312).
وما أثار انتباهنا في شبكة النصوص المقترحة هي حوليات الدول والسلاطين التي جاءت في الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان «النظام والاختلال». ويغوص هذا الفصل في تاريخ الإسلام مستثمرا الخطاب المعياري المتمثل في الآداب السلطانية والسياسة الشرعية، وكيفية حضور مقولات هذا الخطاب في كتب الأخبار المغربية، ورصد التمفصلات القائمة بين الخطاب المعياري ومجريات الواقع، من خلال التركيز على حقبتين رئيسيتين في تاريخ المغرب، هما الحقبة الموحدية-المرينية والحقبة العلوية، خاصة عهد السلطان إسماعيل، وفترة القلاقل التي تلته، اللتان تتيحان إمكانية استكشاف صورة مركبة تحيل على ثنائية النظام والاختلال. وفي عملية الاستكشاف هذه اختار عبد الأحد السبتي نصوصا تتصل بلحظات معينة، بملابسات معينة، بانتقالات معينة: الانتقال من الصورة إلى ما وراء الصورة، وتتبع زواياها، بتعبير السينمائيين، من لقطة إخبارية إلى أخرى، من الممارسات إلى الحالات، من الكلمات إلى الدلالات، خاصة بالنسبة لعهد إسماعيل، وما تكشف عنه من سياقات، حدثية ومجالية ووظيفية. وأيضا الانتقال من تاريخ الحدث السياسي إلى تاريخ المخيال السياسي، من حيث «تكييف» الإخباريين لأخبار الدولة ومرجعيتها، كما يظهر مثلا من خلال «روض القرطاس» بالنسبة للتاريخ الوسيط.
وبالإضافة إلى قضية النصوص وما تفرزه من إمكانيات هائلة من حيث الفهم والتأويل، انصب اهتمام عبد الأحد السبتي، انطلاقا من مقاربة استرجاعية، على نقطتين رئيسيتين هما مراجعة طروحات المونوغرافيات، ومراجعة التحقيب.
بخصوص النقطة الأولى، يتبين أن تسليط الأضواء بطريقة استرجاعية على ما قبل القرن التاسع عشر، بالوصول حتى إلى الحقبة الموحدية-المرينية، مرورا بالحقبة العلوية، لاسيما حقبة السلطان إسماعيل، بالاستناد إلى كتب الأخبار، يُمَكِّن من إعادة النظر فيما جاءت به معظم المونوغرافيات التي غلب عليها هاجس الرد على الكتابة الاستعمارية، وغرقت في مقاربة وطنية دفاعية ومعالجة أرشيفية صرفة، ومن ثم التأكيد على أن «أوضاع القرن التاسع عشر في ميدان تأمين الطرق، لم تكن فقط وليدة المستجدات التي أفرزها التسرب الأوربي، بل هي جزء من بنية سياسية-مجالية بعيدة المدى» (ص 100). وبذلك تنقلب معادلة فهم تاريخ المغرب قبل الاستعمار، بالتعامل مع القرن التاسع عشر ليس على أساس رصد التحولات التي عرفها النسق الاجتماعي والسياسي التقليدي، من زاوية الفعل الأوربي، من حيث عمليات الضغط والتسرب والتدخل، وما أفرزته من أزمات واضطرابات واختلالات، لاسيما ما اتصل منها بتوتر العلاقة بين القبائل والمخزن، وإضعاف الدولة المركزية، وتزايد أعمال اللصوصية وقطع الطريق، ولكن بناءً على رصد هذا النسق، لرفع النقاب عن الظواهر والبنيات التي ورثها المجتمع المغربي على امتداد قرون عديدة.
أما النقطة الثانية المتصلة بالتحقيب، فتتمثل في مراجعة ما يعرف بالعصرين «الوسيط» و»الحديث»، والتعامل مع البعد الزمني بمقاربة استرجاعية تنطلق من القرن التاسع عشر كمحطة زمنية محورية، يتوزع منها التحليل ويلتقي عندها من جديد، بحيث تحفر الدراسة في الثوابت والمرجعيات الاجتماعية والثقافية التي تعود إلى العصر الوسيط. فرحلة «البحث عن نسق تقليدي مغربي، هي في نهاية المطاف رحلة تعود باستمرار إلى الوراء، بدون أن تؤدي إلى الإمساك بالنسق-المنطلق» (ص 260). والجدير بالملاحظة أن عبد الأحد السبتي ينتقل بالقارئ من الموحدين إلى العلويين، من العصر الوسيط إلى العصر الحديث، من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، بحركة رياضية كبيرة، تنم بطبيعة الحال عن استيعاب قوي للزمن، ولكن أيضا عن «صنعة» نادرة في كتابة التاريخ.
* جزء من دراسة يتضمنها الموقع الإلكترونيwww.ribatalkoutoub.ma


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.