نشرت صحيفة «أخبار اليوم» قبل أيام خبرا مفاده أن لجنة موازية -غير اللجنة الرسمية التي أنيطت بها مهمة إعداد مشروع الدستور الجديد- هي التي اشتغلت على بعض المواضيع الهامة من قبيل صلاحيات الملك والدين والهوية. الشخصيات المعنية بالخبر سارعت الى تكذيب ما ورد فيه وبعثت بيان حقيقة حول الموضوع، فيما استغربت الصحيفة «حدة» رد الفعل على خبر تراه عاديا. قد تتباين الآراء حول الطابع العادي أو الحساس للخبر، وحول مدى احترام الصحيفة لمعايير المهنية، وحول ما إذا كان رد الفعل متناسبا مع قيمة الخبر، غير أن الأمور تبقى، ولو من حيث الشكل، طبيعية تماما: صحيفة تنشر خبرا، والمتضرر يصدر بيان حقيقة حول الموضوع. ما دامت المسألة في هذه الحدود، فلا داعي للقلق. غير أن الحدث يعيد إلى الواجهة قضية شائكة ومعقدة هي قضية الصحافة والإعلام، وهي قضية ذات أبعاد متعددة، تمس مواضيع هامة كحرية الرأي، وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وأخلاقيات الصحافة، ودور الإعلام، والعلاقة بين الإعلام والسلطات العمومية. لجنة الأستاذ محمد العربي المساري المكلفة بقانون الصحافة والتي تشتغل منذ عام مطالبة بأن تساهم في الجواب عن هذه الإشكالية الصعبة. يجب ألا ننسى أن هموم و»حوادث» الصحافة وقضايا الإعلام والحريات ليست حكرا على المغرب، بل هي قضية مشتركة يصعب الحسم فيها حتى على الدول العريقة في الديموقراطية والممارسة الإعلامية. بريطانيا بلد له تقاليد إعلامية عريقة تمتد لأكثر من 300 سنة، فأول صحيفة صدرت في 1702! على مدى ثلاث قرون تطورت الممارسة الإعلامية بشكل كبير حتى باتت بريطانيا مرجعا عالميا و مضرب المثل في حرية الإعلام. الغريب أن الصحافة البريطانية تحتج منذ أسابيع بحدة لا مثيل لها بدعوى أن حريتها باتت مهددة بعد أن قررت الأحزاب السياسية مجتمعة (حكومة ومعارضة) خلق جهاز مستقل لتقنين الممارسة الإعلامية. كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد الذي يجعل بلدا عريقا في الديموقراطية والحريات يحار في التعامل مع الإعلام؟ لا بد من الاعتراف أولا بدور الإعلام البريطاني كسلطة رابعة في بناء الديموقراطية وتكريس الحقوق والحريات في بريطانيا. هذا دور تاريخي لا يمكن نكرانه، غير أن الإعلام اكتسب في بريطانيا حرية مبالغا فيها. السطوة التي صارت تتمتع بها الصحافة البريطانية جعلتها تتطاول على حقوق وحريات الأفراد باسم حرية الإعلام، ولو أدى ذلك إلى خرق القانون والتعدي على الحياة الخاصة. قبل عامين تفجرت فضيحة صحيفة «ذي وورلد أوف ذي النيوز» التي اختفت من حينها. الصحيفة التي كانت مملوكة لرجل الأعمال روبرت ميردوخ لجأت لممارسات غير مشروعة كالتجسس والرشوة لجمع أخبار ومعلومات شخصية مثيرة تهم ساسة وشخصيات وأسماء مشهورة ونشرها، ما جعل الصحيفة تكسب أموالا طائلة. التحقيقات أفضت الى محاكمة حوالي 100 شخص بينهم صحافيون ورجال شرطة وحتى مستشار لرئيس الحكومة. الفضيحة التي هزت بريطانيا وزعزعت الثقة في الإعلام دفعت الحكومة البريطانية في صيف 2012 إلى تشكيل لجنة من ستة أعضاء يرأسها قاضي مخضرم هو اللورد جاستس ليفيسون. اللجنة عُهد إليها بالبحث والتقصي في «ثقافة وممارسات وأخلاقيات الصحافة البريطانية». اللجنة أجرت دراسة شاملة واستمعت لمئات الشهادات، وأعدت تقريرا من ألفي صفحة، كان من أهم ما جاء فيه توصية بتأسيس هيئة مستقلة لتقنين العمل الإعلامي في بريطانيا. على أن تكون من صلاحيات الهيئة تلقي الشكاوي والحكم بغرامات قد تصل إلى ما يناهز 15مليون درهم في حق المؤسسات الإعلامية المخالفة لميثاق الأخلاقيات. الصحافة البريطانية في أغلبها عارضت بشدة تقرير القاضي ليفيسون، لكن الحكومة البريطانية قررت - مدعومة من المعارضة - تأييد ما جاء به التقرير وبدأت فعلا بتنفيذ توصياته. سيكون من المفيد للجنة المساري وهي تباشر وضع مشاريع قوانين تهم الصحافة في المغرب أن تستأنس بما جاء في تقرير ليفيسون وتقتبس منه بعض الأفكار الحكيمة. المثال البريطاني يؤشر إلى الصعوبة الخاصة التي تكتنف موضوع الصحافة والإعلام، ويحضنا على بذل جهد مضاعف لإيجاد صيغة وسطية تسمح من جهة للصحافة بالعمل بحرية ومهنية خدمة للقضايا الحقيقية التي تهم القراء، ومن جهة أخرى تتيح صيانة حقوق الأفراد والمؤسسات من كل مساس أو تشهير. وفي انتظار إيجاد حل للمعادلة الصعبة يجدر بالجميع التحلي بالمسؤولية واليقظة والصبر...