توفي منذ أيام أحد قادة الانقلاب العسكري ضد الديمقراطية الاسبانية الناشئة، وهو الجنرال ألفرنسو ترمادا، ثالث ثلاثة قادوا العملية بجانب الكولونيل طيخيرو مولينا، وميلانس ديلبوش. بهذه المناسبة ننشر تفاعل الملك مع الحدث. في الثالث والعشرين من شهر فبراير 1981، أي بعد خمس سنوات على موت فرانكو وتولي خوان كارلوس عرش اسبانيا كاد تحرك عسكري لقدماء الفاشيين أن يزج باسبانيا في حرب أهلية تذكر بما عاشته البلاد سنة 1936. لكن في ذلك اليوم استطاع خوان كارلوس إنقاذ الديمقراطية وحصل بذلك على احترام شعبه أولا، ثم العالم من بعده. في هذا الكتاب الذي ألفه خوصي لويس دو فيلا يونغا، قبل الملك خوان كارلوس لأول مرة التعاون من أجل كتابة سيرته، وذلك بالحديث الحوار عن أهم اللحظات التي طبعت حكمه وحياته الشخصية? وما من شك أن هذه المذكرات الحوارات مع الملك تكتسي أهمية كبيرة من الناحية التاريخية، بالإضافة الى أنها تصف تجربة فريدة تتعلق بممارسة أكبر سلطة في البلاد? فخوان كارلوس يفسر الكثير من قراراته ويطلع القارئ على مخاوفه وشكوكه ولحظات فرحه أو عزلته? وكل ذلك باعتماد حرية مذهلة في الحديث... تكشف عن الوجه الخفي لذلك الرجل الاستثنائي الذي أعطى للملكية وجهها العصري والحداثي. أما كاتب السيرة (المشتركة!) فهو من مواليد مدريد 1920 له عدة مؤلفات تجاوزت عشرين كتابا من الرواية الى التأريخ والمذكرات، كما أن أسلوبه الشيق في الكتابة يجعل منه مؤلفا محبوبا، ذكيا وعميق الكتابة دون البحث عن «فخفخة» اللغة أو «تسلقية» الأسلوب! في هذا الجزء من السيرة يتحدث الملك عن الانقلاب والعسكر. همس لي مساعد الملك - وهو ضابط بعينين شديدتي الزرقة - بان هذا الاخير قام هذا الصباح ببعض الخطوات دون الاستناد الى عكازتيه? وانه رائق المزاج» وفرحت للامر لان مزاج الملك له تأثير كبير على مجريات عملي? فهو عندما يكون منشرحا يتحدث باسهاب ويلح على التفاصيل وعندما يكون منشغل البال يتأثر لذلك حديثه? بمجرد ان دخل مكتبه، ابتسم الدون خوان كارلوس في وجهي ابتسامة عريضة: لم تكن عكازتاه موضوعتين ارضا، بالقرب من اريكة بل مسنودتان الى كرسي بعيد قليلا ما? ومن الواضح ان الملك يتمرن عندما يكون وحيدا على المشي عبر القاعة التي يقضي فيها اطراف نهاراته? - عم تريد ان تتحدث اليوم؟ كانت نبرة حديثه واضحة ومطمئنة، ومن الواضح ان البحري صاحب العينين الزرقاوين لم يخطئ فمزاج الملك رائق جدا? عندما تحدثنا في السابق عن مرور جلالتك بمختلف الاكاديميات العسكرية قلت لي شيئا وشم ذهني? - ماهو هذا الشيء؟ لقد قلت لي: لو لم يكن لي اصدقاء مخلصون في الجيش، هل تظن انني كنت سأقوم بما قمت به ليلة انقلاب طيخيرو ميلانس»? -نعم اذكر ذلك، فهل فوجئت؟ - لا سيدي، بل هذا جواب عن سؤال كنت سأطرحه عليك ولم يعد له سبب وجود الآن? - كنت سأسألك هل التكوين العسكري الصارم صرامة التكوين الذي تلقيته كان فعلا ضروريا لممارسة مهنتك كملك؟ - اعتقد ان احداث 23 فبراير 1981 افضل جواب يمكن لي ان اقدمه? فقد انصاع لي العسكريون ليس فقط لانني واحد منهم، بل ايضا وخصوصا لانني كنت القائد للقوات المسلحة? والا اي سلطة كنت سأمارس على هؤلاء الرجال الذين كان العديد منهم يعتقد عن حسن نية بأن اسبانيا ذاهبة نحو الهاوية وكان مستعد للدخول في دورة العنف التي تجسد الفخ الذي نصبه لهم ارهابيو «ايطا» الباسكية؟ من كان سيتعامل معي بجدية لو لم ارتد بذلة الجنرال لاتوجه اليهم عبر كاميرات التلفزيون؟ ليلة 23 فبراير 1981 لم يعد الدون خوان كارلوس بالنسبة لملايين الاسبانيين الرجل الذي خلف فرانكو «بصفة ملك» بل صار ملك اسبانيا بالكامل? فقد اكتشف الاسبانيون في تلك الليلة المأساوية بان الدون خوان كارلوس يملك المزايا الثلاث التي تميز آل بوربون: فقد كان صاحب عقل راجح وذاكرة وشجاعة» شجاعة هادئة يلتقي فيها الصبر والجرأة: أواليقين بصحة افعاله? قال لي خوان كارلوس - انه لمن المزعج بالنسبة الي ان اسمع من ينعت انقلاب ميلانس وطيخيرو ب «انقلاب الاوبريت» فهو لم يكن انقلاب اوبيريت الا لانه فشل! لكن ما الذي كان سيحدث لو ان هؤلاء الناس نجحوا في انقلابهم؟ لا أنا ولا انت كنا جالسين اليوم نتبادل الحديث. - اياما قليلة بعد فشل الانقلاب العسكري نشرت صحيفة - اظنها تيمبو لائحة لمئات الاشخاص - سياسيين، صحافيين، ممثلين، كتابا بل حتى عسكريين كان الانقلابيون ميلانس وطيخرو اقسموا باغتيالهم هم 48 ساعة التي تعقب فوزهم. وقد كان اسمي في مكانة «لائقة» ضمن اللائحة. سألني الدون خوان كارلوس - اين كنت ليلة الانقلاب؟ - هنا بمدريد يا سيدي. كنت ببيتي في زقاق لامستيليانا، وقد علمت بما وقع في البرلمان عبر الراديو، وفيما بعد بقليل اخبرتني زوجتي العائدة من محل حلاقتها بانها صادفت في الشارع العديد من الشاحنات الملأى بالحرس المدني. سألني الملك: ألم تفكروا في اللجوء الى مكان ما؟ (بعد محاولة الانقلاب) - لا سيدي، ودون ان تستفسرني فأنا بالرغم من قلقي، لم أصدق أبدا في نجاح هذا التمرد، فقد انتظرت مثل اسبانيين آخرين ان تتحدث جلالتك على أمواج الإذاعة او التلفزيون?? وهل تعلم ما الذي جمد الدم في عروقي؟ إنه الاستماع، لساعات متتالية طويلة، للموسيقى العسكرية لسنة 1963، كنشيد اللفيف الخ? ورأيت وقتها اسبانيا تقفز أربعين عاما الى الوراء! وأذكر أيضا انني اتصلت هاتفيا بصديقي إنريكي مينيسيس، وهو صحافي له تجربة طويلة في الحروب الاهلية والقبلية من كل نوع? - وقد أثارت كلمة «قبلية» ابتسامة الملك ، الذي كان ينصت إلي باهتمام? - سألت إنريكي عن رأيه في الوضع، فأجابني ببرود? «لن يحدث شيء، فقد نسوا الاستيلاء على معمل تكرير البترول، وبدون بنزين لا نربح الحروب»? بالكاد ابتسم الملك ثم غير لهجته قائلا: -لقد فاجأ انقلاب ميلانس وطيخيرو الجميع???» كان على صواب، بل ان الانقلاب فاجأ حتى الذين كان المفروض فيهم ان يتوقعوه، وفي اسبانيا نخطىء دائما بعدم إصاخة السمع الى قعقعة السيوف ? لقد كان خطأ عدم التعامل بجدية مع عملية كالاكسيا بالقول أنها انقلاب تافه قام به رفاق سلاح قدامى عرفوا علانية بأنهم اشخاص لايعجبهم العجب ولا الصوم في رجب? لقد كان الامر، في مجمله، نوعا من التمرين العام على انقلاب 23 فبراير? وعملية كالاكسيا سميت بهذا الاسم لأن المتآمرين كانوا يجتمعون في كافتريا كالاكسيا - التي كان خلفها الليوتنان كولونيل في الحرس المدني انطونيو طيخيرو والقبطان سايينز دو اينيستريا ، الذي اغتاله كوماندو من «إيطا» في سيارته - كان هدفها الهجوم على قصر المونكلوا (قصر رئيس الحكومة) بواسطة مائتي رجل وإلقاء القبض على أدولفو سواريس واعضاء من حكومته اثناء انعقاد مجلس الحكومة? واعتقال الحكومة بكاملها كانت الفكرة المحورية لدى طيخيرو وهاجسه? وعملية كالاكسيا كانت ستقع والملك خوان كارلوس في زيارة رسمية الى المكسيك ، واعتقد طيخيرو وشركاؤه ان الملك سيزكي العملية بعد عودته?? ولم تكن فكرة كارلوس تقضي فقط باعتقال سواريس ووزرائه بل كان يريد اهانتهم ايضا? وعندما قام فيما بعد بالاستيلاء على البرلمان بحراسه، أهان اسبانيا كلها، بإخباره اعضاء الحكومة ومجموع النواب على التمدد أرضا تحت مقاعدهم? - ماهي الاسباب في نظرك سيدي التي دفعت العسكريين?? - بعض العسكريين، قال الملك مصححا? - بعض العسكريين إلى إشهار سيوفهم؟ تمتم الملك شاردا وقال: - الاسباب؟ كانت الاسباب عديدة، فبالنسبة لهؤلاء الناس الذين يعيشون في عالم خاص بهم، عالم مغلق، لم يعدموا الاسباب للإحساس بالقلق??منها الاغتيالات شبه اليومية التي تقوم بها إيطا، استقلالية اقليم الباسك، الاستقلال «المهذب» لكاطالونيا?? الخ? وبالنسبة للجيش لم تكن وحده اسبانيا قابلة للنقاش? - تذكر - قال الملك مخاطبا بأن فرانكو وهو على فراش الموت أمسك بيدي بين يديه وقال لي: «الشيء الوحيد الذي أطلبه ، منك يا سمو الامير هو الحفاظ على وحدة اسبانيا» - الى أي حد تتماهى مع العسكريين؟ فاجأ السؤال خوان كارلوس لحظة معينة قبل ان يستدرك بسرعة? - بقدر ما يتماهى معهم واحد، مثل، يعرفهم ويحبهم، فأنا أعرف طريقة تفكيرهم وكيف يكون رد فعلهم عندما يدفعون الى اليأس، فقد مر الزمن وأصبح كل زملائي تقريبا ضباطا سامين وجنرالات، كثيرون منهم يوجدون الآن في قمة الهرم وهم مثلي متقدمون في السن، ولهذا لكي أظل على علم بما يفكر فيه اليوم الضباط الشباب، ألجأ في الغالب الى رفاق ابني، أمير اسبانيا? - هل تختلف عقلية هؤلاء الضباط الشباب اختلافا كبيرا عن عقلية من يكبرونهم سنا؟ - نعم، كثيرا، فهم أكثر انفتاحا وحبا للاطلاع على تحولات العالم? فلم يعودوا يضعون الديمقراطية او الملكية موضع تساؤل، وأنا أقوم بكل ما في وسعي، كملك وقائد عام للقوات المسلحة، كي يدرك الناس ويسلموا بأن الجيش أيضا جزء من الشعب، وأحاول بمعية القيادة العامة أن أنهي واقع «الغيتوات» العسكرية أي اعطاء الجنود إمكانية العيش كأناس عاديين وليس في أحياء لايسكنها سوى العسكريين? لقد كان من يقول بأن على العسكريين ان يعيشوا وسط الشعب كما يعيش السمك في الماء? وكان على حق على الاسبانيين ان يكفوا عن اعتبار العسكريين، مثل سكان كوكب آخر? ومن الغريب - حتى ولو بدا هذا مفارقة - فقد ساعدنا الإرهاب حيث اضطررنا الى توزيع العسكريين على مناطق متعددة حتى يظلوا هدفا سهلا لواضعي القنابل? من اجل يا خوصي لويس لقد تغير العكسريون كثيرا في السنوات الاخيرة? فهم أكثر اهتماما ممن سبقوهم بالتاريخ والجيو سياسية واللغات الاجنبية? سألت الملك الدون خوان كارلوس: - ألديك اتصالات مستمرة مع الضباط الشبان؟ فأجابني: + ليس بالقدر الذي أحب، لكنني كلما زرت كتيبة قرطبة مثلا، أو باداخون إلا تناولت الغذاء مع الضباط أو دعوتهم الى أن يحدثوني عن مشاكلهم وطموحاتهم، والأمر ليس سهلا دائما، ذلك بالضبط لأنهم شباب، يتحرجون في الحديث إليّ بحرية، لذلك ألجأ الى الأمير وهو ضابط بدوره يعرف مشاكل زملائه الشباب? - بخصوص الدون فيلبي، لقد دفعت به الى متابعة دراسة الحقوق؟ + نعم، ثم دروس في الاقتصاد ?? فما ضر أحدا أن يكون له مساران ?? دفع الدون خوان كارلوس بالكرسي لكي يغير من وضع ساقيه ثم أضاف: - عليك أن تعلم أن الأشياء تتغير بسرعة في العالم العسكري، فأنا ملك تلقى تكوينا عسكريا صلبا ويمكنني أن أقاتل وأنا على بينة، من حل مشاكلنا، وأهمها بطبيعة الحال نقص المال، فأنا أريد أن أجعل من قواتي المسلحة مؤسسة أكثر تكيفا مع تيارك العالم المعاصر، فقد اعتدنا مثلا منذ احتلال اسبانيا من طرف وحدات نابليون على أن نضع على رأس كل منطقة جنيرالا يتوفر على جيشه الخاص، بمعنى من المعاني ?? + سادة حرب؟ + يجب ألا نبالغ، إننا نريد ببساطة أن يكون الجيش تابعا أقل ما يمكن للجنرالات، وأكثر ما يمكن للقيادة العامة للقوات البرية، تلزمنا وحدات أقل عددا وأكثر سهولة في الحركة، والوحدتان اللتان بحوزتنا الآن: فرقة المظليين والفرقة الجوية - ترضيانا تماما ?? أما الوحدات الكبرى فإنها تعمل جيدا نظريا لكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار جغرافيتنا وعقليتنا على الخصوص فإن الوحدات الصغرى هي التي تعمل بشكل أفضل، ولتلخيص هذه المسألة في بضع كلمات لنقل بأنني أفضل فعالية داوود على قوة جالوت? - هل واجهت إبان هذه التغييرات مقاومة كبيرة؟ + نعم ?? لبعض ما? - لاشك أنها كانت من فعل ضباط متقدمين في السن? + لماذا الانكار! - نحن الشيوخ، نكون أحيانا عالة ?? + أقول بالأحرى أن هناك أناسا مازالوا شبابا لكن يخافون كل جديد مما يجعلهم شيوخا قبل الأوان ?? بدا أن الملك يمسح بيده ذكرى أشياء مزعجة قديمة وواصل كلامه: - إن هدفنا اليوم هو إخراج الجيش من المدن الكبرى، والحال أن تنقيل كل هؤلاء الجنود يتطلب مالا كثيرا، إذ أن الترحيل الى باداخون للفرقة التي كانت ضمن وحدة المدرعات «اكوراسادا برونيتي» تطلب صرف 14 ألف مليون بسيطة? + نعم، لكن لا أحد بإمكانه أن ينكر بأن تواجد «أكوراسادا» على بعد بضعة كلمترات من مدريد يمثل خطرا دائما بالنسبة للسلطة القائمة في حالة معارضتها من طرف الجيش? هز الملك رأسه وقد نفد صبره? - لقد قضيت جزءا من وقتي محاولا أن أنزع الشكوك الأبدية التي يثيرها الجيش في اذهان العالم السياسي، وهي شكوك لا أساس لها فأنا أعرف العسكريين وأعلم بأن بالإمكان الثقة فيهم، شريطة التعامل الواضح معهم، لكن السياسيين عموما يحتاطون من العسكريين، والحال أن هؤلاء الأخيرين يفكرون بشكل مختلف، وهذا كل ما في الأمر، ولابد من بذل مجهود لفهمهم ??»? أحس دوما متى يكون الملك موزعا بين الرغبة في الحديث والحاجة إلى الصمت، غير أن حالات الصمت لديه غالبا ما تكون لها نفس دلالات الكلام? لقد سبق له أن أجابني مرات عديدة عندما كانت أسئلتي بخصوص ليلة 23 فبراير (الانقلاب) تصبح أكثر دقة، ليس دوري أن أصدر آراء شخصية بخصوص الوقائع التي سبق للمحكمة العسكرية أن أصدرت حكمها فيها، لكني أعلم مثلا - إذ هناك تسربات حتى في القصور الملكية - بأنه عندما اتصل هاتفيا بالجنرالات الكبار، الواحد تلو الآخر ليسألهم عن تحديد موقفهم من الانقلاب أجابوه كلهم «أنا تحت امرة جلالته الملك للقيام بما يلزم»، ويمكن أن نترجم هذا الجواب ب «إذا دعمت عملية ميلانس وطيخيرو فأنا معك، إذا كنت ضد سأساعدك على ضرب هؤلاء»، هذا المفتاح يفتح كل الأبواب الكبرى على السؤال الذي طرحه ليلتها الكثير من الاسبانيين طوال الساعات التي سبقت ظهور العاهل على شاشات التلفزيون، هل الملك مع أو ضد الانقلاب؟ لنعد إلى الوراء، في الثالث والعشرين من فبراير 1981، والساعة تشير إلى السادسة مساء بالضبط، دخل اليوتنان كولونيل أنطونيو طيخيرو شاهرا مسدسه، يتبعه حراسه المدنيون مدججين بالسلاح، الى مقر البرلمان في اللحظة ذاتها التي كان فيها لاندينو لابيلا، رئيس البرلمان يشرف على اقتراع الإسمى لتنصيب رئيس الحكومة الجديدة، صعد طيخيرو - صاحب جسد يثير السخرية - الأدراج القليلة التي تصل به إلى مستوى الرئيس لابيلا، ثم صرخ: - انبطحوا! الجميع، أرضا! وقف الجنرال غوتيريث ميادو وهو رجل هش بملامح رجل مثقف كملسوع وواجه الحراس الذين وجهوا إليه رشاشاتهم: - ضعوا أسلحتكم حالا! فكان جواب طيخيرو: + نحن لانتلقى أوامر إلا من الجنرال! ثارت حفيظة غوتييريث ميادو: - أي جنرال؟ الجنرال الوحيد، هنا، هو أنا! طيخيرو، الذي لن تكفي فيه أي عبارة لوصف كم هو جلف - دفع بيده غوتييريث ميادو وصرخ من جديد: + لا أريد أن أرى الجميع منطبحا أرضا! انصاع له الوزراء والنواب كرجل واحد وقرفصوا أسفل مقاعدهم، فجلس غريغوريو بيسيس باربا بكل ثقله فوق الشاب فيليبي غونزاليث، فيما ظل أدولفوسواريس وسانتياغو كاريو، وحدهما جالسين في مقعديهما مصممين العزم على الموت بكرامة إذا تطلب الأمر ذلك? أما الجنرال ميادو فقد ظل واقفا ويداه على خاصرته على بعد بضعة أمتار من أدولفوسواريس، وقدزم شفتيه في حركة تنضج باحتقار كبير? أعلن طيخير و عبر مكبرات الصوت بأنه يتحرك «بناء» على أوامر الملك والجنرال ميلانس ديل يوتش، الجنرال قائد بلنسية، المدينة التي دخلها بدباباته، وإذاك بدأت ما وصفه في اليوم الموالي، انطونيو دي سينيوزا النائب البرلماني والرجل صاحب الثقافة الواسعة، وصفه ب «أطول ليلة في حياتي»? - قل لي يا سيدي، من بين كل هؤلاء الجنرالات القادة اتصلت؟ ألم يكن من بينهم من ظل في منتصف الطريق بين الوفاء والتمرد؟ رد علىَّ دون خوان كارلوس دون تردد: + ليس هناك منطقة وسطى بين الإخلاص والتمرد ?? والوحيد الذي أجاب عليَّ بشيء ما كان لي أن أقبله هو ميلانس ديل بوتش نفسه إذ صاح بصوت متألم:»يا جلالة الملك لقد فعلت هذا لإنقاذ الملكية!»? - انقاذها مماذا؟ + لم أسأله عن ذلك، وإلا كنا أضعنا الكثير من الوقت في تفسيرات تافهة، كان هناك أيضا الجنرال قائد جزر الكناري غونزاليث ديل ييرو الذي عندما أدرك موقف الملك في هذه القضية أجابه بكل بساطة «سأنفذ أوامر جلالتك ?? لكن للأسف!»? - هل يمكننا الشك في ملكية ميلانس ديل البوتش؟ + أبدا! - كان حسن النية إذن؟ + أعتقد بالأخص أنه كان ضحية تسميم ذكي، غير أنه لم يكن ينكر بأنه يكره كل التغيرات التي طرأت على اسبانيا، جملة وتفصيلا? ملكنا رجل غريب حقا، إذ لم يسمح لنفسه، في أي لحظة من لحظات حواراتنا، أن يدلي بحلم جارح في حق من أساؤوا إليه يمكن أن يجرحه? لكنه على حق عندما يلمح إلى أن ميلانس شخص محير، ففي إحدى الأمسيات عندما كان حول مائدة الكونت دوبرشلونة في شاليه لاموراليخا، صرح أمام ذهول الحاضرين «لن أتقاعد قبل أن أخرج أولا دباباتي الى الشارع»، لم يكن تهديدا فارغا لأنه حدث بالفعل في بلنسية ?? أما بعد هذا، فإن دباباته بعد انتشارها عبر المدينة توقفت، بكل أدب، أمام كل الأضواء الحمراء? هل طبيعة الإنسان هي التي تغلب تطبعه أم العكس؟ في حالة ملانس ديل بوتش لم يكن المشكل ليطرح، فظاهره مثل باطنه، طويل القامة، عريض المنكبين، حركاته متعالية ووقحة مثل حركات شخص لايحذوه شك، يعلو شفته العليا شارب رقيق مثل الشوارب التي أصبحت في اسبانيا دليلا على كل فاشستي يحترم نفسه، وهو رجل سلطوي أكثر منه مقنع، اشتغاله الفكري يمثل ثقل دباباته، ومن الممكن أن ميلانس قد آمن فعلا بأنه ينقذ الملكية بمساعدة طيخيرو، دون أن يدرك أن فعلته هذه - التي لاجدوى منها لعدم وجود ما يمكن انقاذه - كان يضع الديمقراطية وبالتالي الملكية موضع خطر حقيقي? لقد تردد كثيرا قبل أن ينفذ الأمر الذي أعطاه الملك بإعادة ذباباته الى ثكناتها، وعندما حدثه الملك رد ثانية في الساعة الرابعة صباحا لم يكن قد نفذ الأمر بعد، ومقابل ذلك اتصل بالكولونيل قائد القاعدة الجوية مانيسيس ليأمره بالانضمام إليه بطائراته المطاردة، فعمد الكولونيل المعني - وهو أحد زملاء الملك القدامى - الى الاتصال فورا بلا سرسويلا لكي يطلعه على الأمر، وقال الكولونيل للملك: «لقد شرحت للجنرال ميلانس ديل بوتش بأنني لا أتلقى أوامر القيادة العامة للقوات الجوية وإنه إذا ما تجرأ على الاقتراب بمانيسيس بدباباته، فإني قد وضعت طائراتي بشكل يجعلها تدافع عن مدخل القاعدة بواسطة الصواريخ»? وقال الملك: - اعلم أن هذا الكولونيل كان سيفعل ذلك، ولو تمت لكانت أول مرة تدخل فيها الطائرات المعركة ضد الدبابات دون أن تطير! ها أنت ترى يا خوصي لويس إلى أي حد أسعفتني تلك الليلة كوني املك أصدقاء وزملاء في سلاح الجو كما في سلاح البر? لم يكن الجيش برمّته وفيا للملك، كما كان هذا الأخير يعتقد أو على الأقل يتظاهر بأنه يصدق ذلك، إذ أن ميلانس بوتش، سليل عسكريين انقلابيين عندما يحين لهم الوقت لذلك. لم يكن هو الوحيد الذي يتآمر. فالانقلابات جزء من التاريخ الأسود لإسبانيا، منذ بداية القرن 19 الى حدود سنة 1936، كانت الانقلابات والتمردات والثورات حاضرة باستمرار: جنرال ما يدخل على صهوة جواده شاهرا سيفه الى بناية رسمية ويستولي على السلطة لمدة معينة، إلى أن يحل جنرال آخر محله، أحيانا كانت هذه الثورات تفشل فشلا ذريعا لكن قل ماكان المتمردون يقفون أمام فرقة الإعدام? فلاميلانس ولا طيخيرو كانا يقام بحياتهما يوم 23 فبراير، لأن عقوبة الإعدام ألغيت سنة 1978، والدون خوان كارلوس على حق عندما يقول بأن من الخطأ ألا يأخذ «انقلاب الأوبيريت» مأخذ الجد مثل انقلاب كافتيريا كالاكسيا، لأنه كان من الممكن أن ينجح مثلها في ذلك مثل انقلاب 23 فبراير فلا يجب أن نظن أن العسكريين وحدهم كانوا يتآمرون، إذ هناك مدنيون ينتمون إلى اليمين المحافظ بنكيون، رجال صناعة وبعض أمراء الكنيسة أيضا، كانوا يشجعونهم خفية تطاولهم ونفوذهم السياسي? هل عُرف المدنيون الذين ساندوا الانقلاب. هش الملك بيده، وكانت تلك حركته المفضلة عندما يريد تفادي سؤال يتطلب الكثير من الشرح: ل??? لا???? أو ندري ولا ندري? لم يأخذ الاجتماع الذي عقد في خاتيبة من 13 إلى 16 نونبر 1977 بين الجنرال ميلانس ديل يوتش وزميله كولوما كاليبغوس، جنرال قائد كاطالونيا والأميرال بيطادا بييغا الذي وصل مرفوقا بالجنرالين سانتياغو وألباريس أريناس? هذا الاجتماع بدوره لم يأخذ مأخذ الجد، وهو أكد ما كان العديد من الملاحظين يخشونه أي أن الجيش قلق ومتذمر جدا، فقد كان متآمرو ختيبا ينوون تشكيل حكومة «إنقاذ وطني» كان بإمكانها أن توقف إسبانيا نهائيا في طريقها نحو التقدم وإعادتها عنوة إلى عصر المغارات? لقد كانوا رجالا مصممين العزم على القضاء مع هذه الديمقراطية التي أعطت حسب رأيهم السلطة الى منهزمي 1936، وبدون الدون خوان كارلوس على رأس الدولة كان هؤلاء الرجال ربما أطاحوا بالحكومة القائمة? غير أن الملك، بالنسبة لهؤلاء كان عقبة كأداء، وقد كان منهم من فكر بأن نجاح الانقلاب ضد الديمقراطية يستوجب أولا التخلص من الملك، وبالتالي، فإن قتله لم يكن بعيدا? سألت الملك: - هل أحسست أحيانا بأنك مهدد...جسديا. تريد القول، إذا ما كنت خائفا من محاولة اغتيال محتملة! على كل.. فكر الدون خوان كارلوس قليلا قبل أن يضيف. لا أفكر أبدا في الموت، فلا يمكننا الحياة والخوف من الموت يسكننا، ولاسيما عندما يكون المرء ملكا لأنها مهنة غير مريحة. كيف يمكن اتخاذ القرار بعدم التفكير في الموت. لا أذكر اسم مصارع الثيران الذي سئل إن كان يحس بالخوف لحظة الدخول الى الحلبة، فأجاب: «إن الخوف من الخوف يمنعني من الخوف». كانت أنديرا غاندي التي ذهبت ذات مرة لمحاورتها بنيودلهي تستقيل كل صباح، أثناء «الدارشان» بحدائق إقامتها سافدار جانغ رود آلاف الأشخاص القادمين أحيانا من مناطق نائية من الهند، وكانت تتجول وسط هذه الحشود الحاشدة من الغرباء وقد حملت مظلة بيدها، تتحدث إلى هذا ثم إلى ذاك، وذات صباح سألتها: «ألست خائفا يا سيدي من أن يغتالك ذات يوم أحد هؤلاء المتطرفين الذين أقسموا على قتلك، فأجابتني أنديرا غاندي: «لم أفكر في هذا من قبل، لكن إذا اغتالوني، سيكون هذا قدري». وقد اغتالوها بالضبط في هذه الحدائق أليس كذلك. نعم، قتلها أحد حراسها الخاصين? لكل قدره..! همس قائلا الدون خوان كارلوس لقد كانت على حق». سألت الملك: هل تعرضت جلالتك لمحاولة الاغتيال؟ همهم.... لا! لكنني سمعت عن قنبلة وضعت تحت المنصة التي كنت ستجلس فيها أثناء استعراض عسكري. آه نعم..! في كورونيا، يبدو أنهم حفروا نفقا أسفل هذه المنصة ولكن... وضع الملك يده من جديد كما يحدث له عند طرق الذكريات السيئة. ... لم يسبق لي أن سمعت عن هذه القضية. قالها بصوت لامبال تماما? هل تحس جلالتك بأنك محمي جيدا من طرف مصالح أمنك؟ نعم، وهم يقومون جميعا بمجهود رائع، لكني أظن أن الأساسي في الأمن هو أن تثني من يريد الاقتراب منك بنية الاعتداء عن رغبته? ولا أحد باستطاعته أن يفعل شيئا ضد أحمق أو متعصب، والإرهابيون كلهم متعصبون? وعلى المرء أن يفكر في «البركة» أو الحظ الذي يسهر علينا أكثر من التفكير في الموت، ويجب أيضا التأكد من التصرف كما يليق في اللحظة التي يرتبك فيها الآخرون? فالدون الفونصو 13 أنقذ حياته عندما دفع بواسطة حصانه بالرجل الذي كان يسدد نحوه مسدسه، ولم يستطع المسكين شيئا ضد ارهابي الجيش الجمهوري عندما ضغط على الزر من على بعد مئات الأمتار من الباخرة التي سيفجرها، وكينيدي قتل أمام أعين العشرات من عملاء الشرطة الفيدرالية (إف?بي? آي) وكاد ريغان أن يقتل من طرف مختل عقليا أراد اثارة اعجاب ممثلة سينمائية كان يحبها، والحراس المكلفون بالسهر على أمني ينشغلون بحضوري في الأنشطة الرسمية المبرمجة من شهور أكثر من انشغالهم بالخرجات المفاجئة التي أقوم بها مع زوجتي الى المطاعم حيث لاينتظرنا أحد، وأظن أن أحسن طريقة لتفادي محاولات الاغتيال هي التصرف بطريقة مباغتة وهو أمر غيرهين، في مهنتي، فأغلب العسكريين الذين اغتالتهم ايطا اغتيلوا وهم يقطعون نفس الطريق التي اعتادوا على قطعها كل صباح، فلو أن الأميرال كاريو بلانكو لم يكن يذهب طوال سنوات لحضور القداس في نفس القاعة ونفس الكنيسة لكان من المحتمل أن يبقى حيا الى الآن. كان ذلك تسهيلا لمأمورية الارهابيين، لكن جلالتك كثيرا ما استمرأت خدعة رجال والإفلات منهم.». استند الدون خوان كارلوس على الأريكة وقهقه ضاحكا: آه، كم هي بعيدة تلك اللحظات! عليك أن تعرف ياخوصي لويس أنه كان رائعا ولاشك أن يتجول المرء في مدريد على متن دراجة نارية والخونة على رأسه لكي لايعرفه الناس، أحيانا كنت أ نزعها عند نقطة الضوء الأحمر فيستمر الناس حولي وراء مقود السيارة، تلك الأيام العز الجميلة!». تركت الملك للحظات سارحا في ذكرياته، وعندما خبت الابتسامة من على وجهه قلت له: لقد ابتعدنا نوعا ما عن موضوعنا، انقلاب 23 فبراير. أبدا، فالانقلاب بدوره كان محاولة اغتيال، ضد اسبانيا هذه المرة، والاسبانيون أنفسهم فهموا الأمر على هذا النحو، لأنهم تصرفوا كما كانوا سيفعلون أمام خطر حرب أهلية جديدة، قبل أن أظهر على شاشة التلفزيون، كان أعضاء اللجن العمالية (نقابة قريبة من الشيوعيين) يتصلون هاتفيا عدة مرات ليقولوا لي سنحرق أرشيفنا ونعود الى الحرب السرية!» وكنت أجيبهم «لاتفعلوا هذا أبدا، فأنا متحكم في مجريات الأمور!». وهل كنت متحكما حقا. نعم، لأنني كنت قد تحدثت الى أغلب القادة الجنرالات. ولم تشك في أية لحظة من اللحظات في اخلاص هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم رهن اشارتك «للقيام بما يلزم». أبدا، إذ لم تكن لدي أي سبب للشك فيهم. لم تكن الخبرة قوية الاقناع، بل هي نبرة شخص يرفض التشكيك في وفاءات يعرف أنها مضمونة بقدر متفاوت، إن الدرس الذي لقنه بعض الناس للدون خوان كارلوس ليلة 23 فبراير كان درسا قاسيا بما يكفي أدى الى زعزعة يقينيات ملك كريم وسخي.