تعد ظاهرة غسل الأموال من أهم وأخطر الجرائم المالية التي ظهرت في عصر الاقتصاد الرقمي والتي يطلق عليها في نظريات علم الإجرام بإجرام الياقات البيضاء وهي ترتبط بالجريمة المنظمة. وعرفت ظاهرة غسيل الأموال تطورات كبيرة ساهمت فيها الطفرة التي عرفتها وسائل الإعلام والاتصال والتطورات الحديثة المصاحبة لظاهرة العولمة وخصوصا العولمة الاقتصادية والمالية وهي ليست حكرا على الصعيد الوطني لكل دولة بل تتعداه لتكتسب الطابع الدولي. وقد قدر ميشيل كامدسوس Gamdessus الأموال التي يتم غسلها ب 600 مليار دولار، وفي تقديرات أخرى يتجاوز هذا العدد 800 مليار دولار. ويتم غسل ما يزيد على 350 مليار دولار سنويا في المناطق الحرة وحدها offshore financiers centre أي مليار دولار كل يوم. وهو ما يزيد على ثلثي الاستثمارات الخارجية في العالم. كما قدر صندوق النقد الدولي FMI الموجودات المالية للجنات المالية fiscaux Paradis بأكثر من 5500 مليار دولار سنة 1999 وهو ما يعادل 15% من الناتج الداخلي الخام العالمي PUBMو 11 مرة مداخيل كل الدول الإفريقية مجتمعة. وتعتبر جزيرة ناورو من أكبر الجنات المالية في العالم حيث يوجد بها أكثر من ألفي مصرف ومؤسسة مالية وهمية، علما أن مساحة الجزيرة لا تزيد على 12 ميلا وهي تعيش على موارد الرسوم المصرفية. كما أن مدينة ناسو عاصمة جزر البهماس تضم حوالي أربعة ألاف بنك شبه متخصص في تجارة السلاح. ويوجد بالمراكز المالية : * أكثر من ثمان مئة بنك.أكثر من ثلاثة ملايين شركة أغلبها بمثابة واجهات لعمليات مشبوهة أو أنشطة المافيا وتنتقل في هذه المراكز أكثر من 5500 مليار دولار من الأموال القذرة1 بينما تغذية وعلاج كل فقراء العالم لا تحتاج سوى إلى 13 مليون دولار سنويا أي أقل من 0,01% من المبالغ المتنقلة في الجنات المالية. ويرجع انتشار ظاهرة غسيل الأموال القذرة إلى عدة عوامل تتمثل في : 1- ظاهرة العولمة وما اقتضته من حرية التجارة والمعاملات والمعلومات وإزالة الحواجز التجارية بين الدول. 2- التحولات الالكترونية التي يتم استخدامها بواسطة العملاء أنفسهم دون رقابة من السلطات المختصة. 3- كثرة وتطور المراكز المالية في مناطق «الأوف شور» حيث تقل الرقابة المالية والمصرفية والقانونية على تلك المراكز فتوفر حماية مطلقة لسرية الحسابات وحماية للمجرمين من الكشف على أموالهم. 4- تطور أنظمة التحويل الالكتروني واستخدام شبكات الحاسب الآلي الكبيرة التي ترتبط بكافة الأسواق المالية والنقدية بحيث يسهل نقل أية أموال كيفما كان مقدارها من خلال المراكز الكبيرة في كافة أنحاء العالم. 5- زيادة حجم التجارة الدولية والمعاملات بين رجال الأعمال وما ترتب على ذلك من زيادة الطلب من البنوك على التوسع في استخدام الخدمات الالكترونية وهو توسيع قد يصاحبه استخدام غير قانوني لمثل تلك الخدمات. 6- نمو العلاقات بين البنوك مما يزيد من استخدام الحسابات المصرفية المتخصصة التي تستخدم بواسطة العملاء الأجانب أو البنوك المراسلة. * ظهور أشكال جديدة من أساليب الدفع مثل النقود الرقمية. وتعود ظاهرة غسيل الأموال إلى عهد قديم، حيث ارتبطت بأعمال القرصنة البحرية التي من أشهرها عمليات القرصنة التي قام بها « Every Henry» وعصابته في المحيطين الأطلسي والهندي استطاع هذا القرصان وعصابته من خلال هذه العمليات جمع أطنان من المجوهرات والذهب ثم قرر التقاعد والاستمتاع بغنائمه، حيث تسلل إلى قرية بإيد فورد «إحدى قرى مدينة دنفشير» الساحلية وعاش فيها باسم مستعار، وسعى إلى تحريك أمواله من خلال أعمال تجارية إلا أن أسلوبه غسل الموال لم يكن موفقا. ورفض المتعاملون معه سداد ما عليهم من ديون له. لم يستطع إبلاغ الشرطة بذلك خشية أن يكتشف أمره، وتصادر أمواله ففضل الصمت. وترجع عمليات غسيل الأموال بوسائلها الفنية الحديثة إلى سنة 1932، وحيث بوشيرت بشكل منظم بواسطة المدعو «Lansky Mery» الذي كان يمثل حلقة بين المافيا الأمريكية والمافيا الايطالية خلال الحرب العالمية الثانية وذلك لتسهيل دخول القوات البحرية للحلفاء جزيرة صقلية، ومن اجل ذلك كان يتم اللجوء إلى البنوك السويسرية لإخراج النقود من الولاياتالمتحدة وإيداعها في بنوك سرية من خلال قروض وهمية وبفضل هذه الأموال المعاد توجيهها استطاع إقامة مدينة الألعاب القمار في منطقةVegas Las الأمريكية2. أما في العقود الأخيرة من القرن الماضي، فنعتبر فضيحة «ووترجيت» حالة نموذجية لجريمة غسل الأموال فلم تكن مجرد فضيحة سياسية، حيث إكتشف المحققون في حيازة المتهمين قليلا من الدولارات التي تحمل أرقاما متسلسلة فقاموا بتتبع هذه الأرقام مما مكنهم من التعرف على مبالغ كبيرة ثم غسلها بالتدوير والنقل لتصل إلى لجنة انتخاب الرئيس الأمريكي المتهم في هذه الفضيحة. ولغسيل الأموال آثار سلبية، تؤدي إلى زيادة معدلات البطالة سواء في الدول المقدمة أو في الدول النامية، فهذه العمليات تؤدي إلى هروب الأموال إلى خارج من خلال البنوك والقنوات المصرفية، مما يؤدي إلى نقل جزء من الدخل القومي إلى دول خارجية، ومن ثم تعجز الدول التي هرب منها رأس المال عن الإنفاق على الاستثمارات اللازمة لتوفير فرص العمل للمواطنين مما يؤدي إلى انتشار البطالة وتفاقمها. وتؤثر عمليات غسل الأموال سلبا على الادخار والاستثمار وذلك من عدة أوجه. فمن ناحية تؤدي إلى هروب رأس المال الوطني غلى الخارج عن طريق التحويلات النقدية بين البنوك المحلية والخارجية، ويعد هذا تسرب جزء من الدخل القومي. طالب باحث في العلوم القانونية