وزارة الداخلية توقف خليفة قائد للاشتباه في تورطه بجرائم فساد    25 قتيلا و2870 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء تفتتح بباكو المعرض الرقمي "الزربية الرباطية، نسيج من الفنون"    أخنوش يراهن على "خارطة التجارة الخارجية" لخلق 76 ألف منصب شغل    "إغلاق أخضر" في بورصة البيضاء    انتشال جثة غريق بشاطئ رأس الماء    بنيات اجتماعية تدعم أمنيي الصحراء    اليوم بالإسماعيلية .. منتخب الشبان يواجه تونس بحثا عن بطاقة ربع نهائي كأس إفريقيا    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    رئيس الحكومة يترأس اجتماعا لتدارس خارطة طريق التجارة الخارجية 2025-2027    تقدم خطوتين فقط بعد جائحة كوفيد.. المغرب في المرتبة 120 عالميا في مؤشر التنمية البشرية لعام 2025    وزارة الشباب والثقافة والتواصل تعلن انطلاق عملية استقبال ملفات طلبات الدعم العمومي لفائدة مؤسسات الصحافة والنشر    مراكش…تسجيل هزة أرضية بقوة 4.6    فرنسا وأيرلندا تدينان خطة إسرائيل لاحتلال غزة    الرجاء الرياضي يحتج على التحكيم    وزير خارجية فرنسا: "الوضع عالق" بين باريس والجزائر    ابتداءً من 8 ماي خط بحري جديد يربط المغرب بإسبانيا في أقل من ساعة    مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء    نيروبي: افتتاح أشغال مؤتمر دولي لليونيسكو حول التراث الثقافي بإفريقيا بمشاركة المغرب    مكونات المعارضة النيابية تنادي بتحرير الجماعات الترابية من "سلطة الوصاية"    متى كانت الجزائر صوتا للشرعية البرلمانية العربية؟ بقلم // عبده حقي    ارتفاع أسعار الذهب إلى أعلى مستوى    موسم طانطان ينطلق في 14 ماي.. احتفاء بتقاليد الرحل وبالثقافة الحسانية    "قفطان المغرب" يكرم التراث الصحراوي    وزير إسرائيلي: "غزة ستدمر بالكامل"    جناح المغرب في معرض باريس يشهد اقبالا كبيرا!    افتتاح فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفيلم بالحسيمة    بحث وطني يشمل 14 ألف أسرة لفهم تحولات العائلة المغربية    رونار يكشف: هكذا تصالحت مع زياش في 5 دقائق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    وجهة غير متوقعة تُهدد انتقال سفيان أمرابط إلى الدوري السعودي    غوارديولا يكشف اسم أقوى مدرب واجهه في مسيرته    الفريق الاستقلالي يطالب بإحالة محمد أوزين على لجنة الأخلاقيات    استراتيجية حكومية لضمان تكاثر القطيع الحيواني تغني عن اللجوء للاستيراد    منطقة الغرب.. توقع إنتاج 691 ألف طن من الزراعات السكرية    قمة الأبطال.. حلم النهائي يشعل مواجهة برشلونة وإنتر ميلان فى إياب دوري أبطال أوروبا    "أونروا": مئات الآلاف في غزة يعيشون على وجبة واحدة كل يومين أو ثلاثة    العصبة تلزم فرق البطولة بحذف جميع إشهارات الشركات المتخصصة في نقل الأشخاص والوساطة في النقل    زوربا اليوناني    جمهور فنربخشة يطلق صافرات استهجان ضد يوسف النصيري    المعارضة البرلمانية تؤجل إجراءات حجب الثقة عن حكومة أخنوش    لقجع: الطلب العمومي الأخضر محور أساسي في استراتيجية التنمية المستدامة بالمملكة    الجنون الاستبدادي لقيس سعيّد: رئيس يقوّض أسس الديمقراطية التونسية    بحث وطني جديد لرصد تحولات الأسرة المغربية بعد ثلاثة عقود    اتفاق مغربي-مصري لرفع وتيرة التبادل التجاري وتعزيز الصادرات الصناعية    الرباط تحتضن ملتقىً دولي حول آلة القانون بمشاركة فنانين وأكاديميين من المغرب والعراق ومصر    مايكروسوفت توقف تطبيق الاتصال عبر الإنترنت "سكايب"    تحذير من تناول الحليب الخام .. بكتيريات خطيرة تهدد الصحة!    نقابة تعليمية تحشد لعودة التصعيد    هكذا يستغل بنكيران القضايا العادلة لتلميع صورته وإعادة بناء شعبية حزبه المتهالكة    ارتفاع حالات الإصابة بالحصبة في أوروبا خلال شهر مارس الماضي    عضة كلب تنهي حياة شاب بعد أسابيع من الإهمال    استقبال أعضاء البعثة الصحية لموسم الحج    كيف تُنقذ حياة شخص من أزمة قلبية؟.. أخصائي يوضّح    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكرى المائوية لمعركة أنوال: حتى لا ننسى


مقدمة عامة لا بد منها:
من السذاجة بمكان الارتكان إلى الراحة التأملية التي تعتبر التجارب والدروس التاريخية مجرد سلسلة أحداث طواها الزمن إلى غير رجعة، وهذا عادة ما يحدث عندما ننظر إليها من زاوية تجعلنا نصنفها تصنيفا سطحيا على أساس كونها وقائع قد نلجأ إلى الاطلاع عليها بهدف الفضول المعرفي، وتزجية الوقت والترفيه عن النفس، ليس إلا. لكن ما قد يغيب عن وعينا هو أن التاريخ يعد بمثابة الدعامة الأولى بالنسبة للهوية، بل وعمودها الفقري الذي لا تستقيم بدونه. إذ لا أحد يجادل في كون سؤال الهوية من الأسئلة المتجددة والمطروحة باستمرار في كل زمان ومكان، وأن المقاربة التاريخية تشكل على الدوام المدخل الرئيسي لمحاولة الإجابة عنها. وهذا معناه أن كل تساؤلاتنا الوجودية ومحاولاتنا لفهم ومعالجة قضايانا الآنية، تدفعنا حتما إلى تفكير يستمد قوته أو ضعفه من معرفة استقرائية أو استنباطية ذات خلفية تاريخية معينة. وهناك قاعدة قطعية غير قابلة للتجريح أو التكذيب، وهي باختصار: من لا تاريخ لا هوية له... إن الذاكرة التاريخية لكل الشعوب والأمم تؤثثها تحولاتها العميقة وإخفاقاتها ونجاحاتها المصيرية، وهي بالتالي عبارة عن سجل مفتوح تنهل منه الأجيال المتتالية ما يبدو لها وجيها لفهم إشكاليات الحاضر، والاستعداد لمواجهة المستقبل بمفاجآته واحتمالاته المتعددة...
إن من يتمعن في تاريخ بلادنا لا بد أن يستخلص أن المغرب كان دائما وسيظل دوما مستهدفا من قبل قوى معادية لأسباب وذرائع مختلفة، وذلك لعدة اعتبارات من أهمها موقعه الاستراتيجي الفريد من نوعه وثرواته الطبيعية الوفيرة. ولعل من أكبر الهزات العنيفة التي كادت أن تعصف بهذا البلد في مهب الريح، وتجعل مواطنيه أضيع من الأيتام على موائد اللئام، بعدما كانوا بناة حضارة وأصحاب جاه ومكانة على الصعيد العالمي، تلك الرجة التاريخية التي جسدتها الحقبة الاستعمارية الغربية المعاصرة بكل ما أوتيت من شراسة وكيد.
إن معاناتنا، نحن المغاربة، مع ويلات الاستعمار الغربي دامت عقودا طويلة، والبعض من رواسبه ومكائده ما زالت إلى يوم الناس هذا تشكل فخاخا ودسائس ماكرة قد تتحول إلى قنابل موقوتة ذات قدرة تخريبية مهولة، في حالة عدم قدرتنا على تفكيكها وإبطال مفعولها...
السياق الاستعماري لمعركة انوال
بحلول 21 يوليوز 2021 تكون قد مرت على معركة أنوال المظفرة مائة سنة بالتمام والكمال، وهي ذكرى غالية تعيد إلى أذهان المغاربة ما قام به الآباء والأجداد من تضحيات جسام حتى يبقى المغرب حرا مستقلا
. إن أحداثا من هذا القبيل تشكل، لا محالة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، معينا لا ينضب من الدروس والعبر، التي من شأنها أن تفيد الأجيال المغربية الصاعدة في مواجهتها لأخطار الحاضر، وفي صمودها على تحمل مفاجآت المستقبل.
وهكذا، في مطلع عشرينيات القرن الماضي ازدادت أحوال المغاربة سوءا جراء ارتفاع الحركة الاستعمارية، التي طالت كافة مظاهر حياتهم اليومية، وجعلت مستقبلهم وسيادة وطنهم في مهب الرياح الكولونيالية الهوجاء، حيث انتقل الاحتلال من طور الاستعمار العسكري بهيكلته التقليدية المعهودة إلى مرحلة الاكتساح الشمولي والهيمنة المطلقة.
لقد بات من الواضح أن مخططات المستعمر كانت تهدف إلى استئصال مقومات الهوية الثقافية والحضارية الوطنية، تمهيدا لبسط سيطرته النهائية، وتكريسا لاستدامة احتلاله للبلاد.
ورغم صمود القبائل المغربية قاطبة، فإن الآفاق كانت تبدو مسدودة تماما، لا سيما وأن الحرب العالمية الأولى – التي كانت تسمى آنذاك الحرب العظمى- وضعت أوزارها، وأعطت بذلك نفسا جديدا للزحف الامبريالي، وتكريسا صارخا لوسائل الإكراه والتضليل المختلفة، والاستبداد المتعجرف على نطاق واسع في كل المستعمرات.
وكانت فرنسا، تلك الدولة «الحامية» للمغرب، من بين الأطراف التي خرجت منتصرة في هذه الحرب الكبرى، وهو الشيء الذي ضاعف غطرستها وجبروتها إلى الحد الذي أصبح معه قادتها لا يقيمون أي وزن يذكر للمقاومة المحلية، مهما تعاظم نفوذ تلك المقاومة وتقوت شوكتها.
وفعلا، سقط المغرب تحت جبروت الإمبريالية متعددة الرؤوس، واحتفظت الجمهورية الفرنسية لنفسها بحصة الأسد في ذلك التقسيم الجائر، في حين كان على إسبانيا أن تحتل المنطقة الشمالية، بإرادة ودعم من الإمبراطورية البريطانية، التي كانت لا تغيب عنها الشمس، بالنظر إلى ترامي أطراف مستعمراتها عبر العالم. وقد فرضت هذه الأخيرة على كل الدول المتنافسة على استعمار المغرب، تخصيص منطقة دولية حول مدينة طنجة، وفقا لما كانت تمليه عليها مصالحها الاستراتيجية. ومما لا شك فيه أن بريطانيا كانت إلى حد بعيد هي صاحبة الكلمة الفصل في رسم الخريطة الكولونيالية بالمغرب.
في هذه الظروف التاريخية العصيبة تميز أبناء الريف الأشاوس بمواقفهم البطولية التي لا تلين، وباستمراريتهم النضالية التي لا تنكسر. لم يبهرهم العدو أو يرهبهم باستعراض عضلاته، رغم كثرة عدته وعتاده، ولم يزدهم التكالب الاستعماري الغاشم على البلاد إلا ثقة بالنفس، وطموحا في رفع سقف التحديات.
عجرفة الجنرال سلفستر واستعلاؤه
إن المواجهات المريرة للمقاومة الريفية مع العدوان الإسباني في الشمال المغربي، على امتداد عقود من الزمن، علمت المغاربة الأحرار، أبناء هذه المنطقة، أن قوة الإرادة وصلابة العزيمة دفاعا عن الحرية والكرامة هي الرافعة الأساسية للكفاح مهما عظم الخطب وتوالت النكبات.
ويشهد التاريخ أنه منذ انحطاط الدولة المغربية وأفول نجمها السياسي والعسكري، ظل أبناء الريف بمثابة الدرع الواقي والسيف المسلول في وجه أطماع وتطاولات الأعداء على البلاد، فكانوا بالمرصاد للهجمات الإسبانية المتتالية على المنطقة، وبصفة خاصة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.
وظهر من بينهم زعماء قياديون أشداء وأمراء جهاد أفذاذ، شهد لهم التاريخ بالكفاءة الميدانية العالية والفكر الاستراتيجي الخلاق.
لقد كانوا بحق نموذجا منقطع النظير في التضحية والتحرير، نالوا بفضله إعجاب وتقدير الأعداء والأصدقاء على حد سواء، وأضحوا مدرسة قائمة الذات في الكفاح من أجل القيم الإنسانية الراقية والمبادئ الحقوقية والأخلاقية الأساسية لفائدة البشرية جمعاء. وفي هذا السياق بالتحديد جاءت واقعة أنوال لتسجل للريفيين دخولهم الرائع في التاريخ العالمي من بوابته الرسمية.
بتاريخ 25 غشت 1919 عينت الحكومة الإسبانية الجنرال برينكر مقيما عاما على منطقة نفوذها الكولونيالي بالمغرب، بعد وفاة سلفه الجنرال خوردانا. وهو التاريخ نفسه، الذي تم فيه تعيين الجنرال سلفستر على الجبهة الريفية الغربية قصد مواجهة قبائل بني عروس، التي كانت آنذاك تحت لواء الشريف الريسوني المتقلب الأدوار.
وفي السنة الموالية انتقل الجنرال سلفستر إلى مليلية ليكون على رأس القيادة العليا للجيش الإسباني هناك، وكان واضحا من سلوكياته وتصريحاته المستفزة لشخصية الريفيين وكبريائهم أنه يستعجل اكتساح كل المناطق الريفية الشرقية غير مكترث بما قد تقوم به قبائل تلك المناطق من ردود دفاعية فتاكة.
والواقع أنه بدأ فعلا يحرز بعض التقدم الميداني، ويحتل بعض المواقع داخل تراب تلك القبائل ليجعلها مراكز أمامية تنطلق منها لاحقا هجماته العدوانية الهادفة إلى الاستيلاء الشامل على معاقل الريفيين.
والجدير بالإشارة أن الجنرال سلفستر كان يتمتع بدعم شخصي ومباشر من ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر، مما زاده غرورا واستعلاء حتى في إطار علاقاته مع المقيم العام الإسباني بتطوان. وكان من بين تقاريره «الانتصارية» برقية بعث بها إلى هذا الأخير يعلن له فيها احتلال إغريبن، وهو موقع يوجد بين قبيلتي تمسمان وبني توزين غير بعيد عن معسكر أنوال.
وهذا هو نص تلك البرقية، نقلا عن أحمد البوعياشي:
«لقد قمنا في الساعة الثامنة من صباح يوم 17 يونيو 1921 باحتلال جبل إغريبن بين سمار وأنوال، لضمان الطريق الواصل بين ابن الطيب (ببني وليشك) وأنوال، وتركيز العمل ببني وليشك. فقمنا بتشييد التحصينات، وبالتقوية اللازمة للحماية، كما قمنا بجلب فرقتين من المشاة، وفرقة من أصحاب الرشاشات، وبطارية مدفعية، وقد قام رجال البوليس بالتراشق بالرصاص مع جيش العدو، فجرح جندي من طرفنا، وقد اضطر العدو إلى التراجع للوراء. وكانت جيوش العدو التي شاركت في هذه العملية تتكون من فرقتين، جاءت واحدة من زاوية سيدي بويعقوب والثانية من الرابية عند المنفذ».
والحقيقة أن ما كان الجنرال سلفستر يسميه «جيوش العدو» لم يكن سوى مجموعات صغيرة من المقاومين الريفيين الشجعان، الذين سرعان ما التفوا حول قائدهم محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي أبان عن قدرة خارقة في التعبئة والتأطير. ولا بأس أن نعطي هنا ولو لمحة وجيزة عن بداية المسيرة الجهادية لهذا البطل الشهم.
عبقرية محمد بن عبد الكريم الخطابي
لقد خلدت الكتابات الإعلامية العالمية اسم محمد بن عبد الكريم الخطابي اختصارا تحت اسم والده عبد الكريم. والمعروف عنه أنه ازداد في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر في أجدير. شب وترعرع في أحضان عائلة متنورة تتمتع بسمعة طيبة في الأوساط الريفية، وكانت تنحدر من قبيلة بني ورياغل- فرقة آيت خطاب.
اختار محمد بن عبد الكريم الخطابي المسار التعليمي الذي مكن والده من ممارسة القضاء، وكان شغوفا بالدراسات الفقهية، مما شكل دافعا قويا لانتقاله إلى فاس طلبا للعلم بجامعة القرويين، التي مكنته من الارتواء من علوم ومعارف شيوخها. كما أنه كان ملما باللغة الإسبانية وثقافتها. وهكذا، بحكم انتمائه العائلي والقبلي، إلى جانب تكوينه في الثقافتين المغربية والإسبانية، وجد فيه المستعمر الإسباني نموذجا مثاليا للاستقطاب من أجل تدعيم اختراقه للمجتمع الريفي وترسيخ قدمه بالمنطقة.
لقد عمل محمد بن عبد الكريم الخطابي ترجمانا ومحررا بصحيفة «تلغراف الريف» الصادرة بمليلية، ثم أستاذا وموظفا بمكتب الشؤون الأهلية، بالإضافة إلى مزاولته مهنة القضاء التي ارتقى فيها إلى منصب قاضي القضاة بمليلية. كانت مواقفه الرافضة للاستعمار الأوروبي واضحة منذ مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، ليس فقط بالنسبة لمخططات احتلال المغرب، بل بالنسبة للمد الاستعماري في إفريقيا الشمالية قاطبة.
ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى بدأ يبتعد تدريجيا عن مظلة السلطة الاستعمارية الإسبانية، فتحصن بأجدير على مقربة من الحسيمة بين أهله وذويه. وكان يعلم أن الإجراءات الانتقامية الإسبانية ستلاحقه عاجلا أم آجلا: وفعلا، لقد ذاق مرارة السجن وكسرت ساقه اليمنى عندما حاول الهروب من قبضة الإسبان، الذين أصبحوا يطاردون آل الخطابي بعدما فشلت كل محاولاتهم الهادفة إلى إغراء هذه العائلة النبيلة.
غادر محمد بن عبد الكريم الخطابي مليلية بصفة نهائية سنة 1919 ليقيم بأجدير. وفي هذه البلدة وضع محمد بن عبد الكريم الخطابي اللبنات الأولى لما أطلق عليه الريفيون اسم «الريفوبليك»، التي تبلورت معالمها مباشرة بعد انتصار أنوال الساحق سنة 1921، وكانوا يقصدون بذلك حكما منظما ومستقلا بمثابة تحدٍّ للاستعمار عامة وللاستعمار الإسباني «بوجروان – آكل الضفادع « على الخصوص…
نتائج معركة أنوال
جاءت معركة أنوال تتويجا لعدة مجابهات للمقاومة الريفية مع القوات الغازية الإسبانية امتدت من فاتح يونيو 1921 إلى 26 يوليوز من السنة نفسها، وكانت متسلسلة كالتالي: ظهر أبران، سيدي إبراهيم، إغريبن وأنوال. ويفهم من هذا التطور المتلاحق أن معركة أنوال لم تكن نتيجة لتخطيط مسبق سطرته المقاومة الريفية، وجعلته هدفا يتصدر أولوياتها الإستراتيجية، بل كانت مجرد مرحلة عادية على درب النضال المستميت.
ورغم هذا الانتصار الباهر، فإن الريفيين، خلافا لما يعتقد، لم يبتهجوا له كثيرا، لأنهم كانوا في موقع دفاعي مشروع، ولم يقوموا إلا باسترداد ما ضاع منهم، وكانوا على يقين تام بأنهم ما زالوا في بداية مشوار الانعتاق، مع علمهم بالحجم الحقيقي لقوات العدو، وبإمكانية حدوث تحالفات استعمارية واسعة ضدهم.
ومن هنا فإن انتصار أنوال كان يحمل في طياته بوادر احتمالات قوية تنذر بفشل الثورة الريفية، وهي مفارقة عنيدة كان يغذيها المنطق الإمبريالي السائد يومئذ، لكن هذه المعركة هي التي شكلت بكل وضوح الخطوة الحاسمة في بزوغ قمر الانتفاضة الريفية في صيغتها التاريخية.
وفي ما يخص النتائج الميدانية، فإن الأرقام والتأويلات تتضارب حول تحديد الخسائر الإسبانية والريفية الناجمة عن تطاحنات أنوال، لكن كافة المصادر تجمع على أنها كانت هزيمة نكراء وكارثة وطنية بكل المقاييس بالنسبة للإسبان، وهي المعروفة في التاريخ المعاصر الإسباني تحت عنوان : Desastre de Annual .El بالمقابل كانت بالنسبة إلى الريفيين وسام شرف وطني في الدفاع عن كرامة الإنسان المغربي، وشهادة استحقاق عالمية في النضال التحريري لفائدة كافة الشعوب التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار وهيمنة الإمبريالية.
وفي كتاب «مذكرات عبد الكريم» للمراسل الحربي الفرنسي J. Roger-Mathieu، الصادر سنة 1927 (نقله إلى العربية عمر أبو النصر، منشورات العباسية، 2005)، حصيلة لما كسبه الريفيون من هذه المواجهة على لسان بطل الريف: «ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع، سواء من عيار 75 أو 65 أو 77، وأزيد من 20000 بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتموينا كثيرا يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم. وإجمالا «جادت» علينا إسبانيا بين عشية وضحاها بكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشا ونشن حربا كبيرة. لقد وقع تحت قبضتنا 700 أسير، فيما فقد الإسبان في هذه المعركة 15000 جندي ما بين قتيل وجريح».
تم الإفراج لاحقا عن الأسرى الإسبان الناجين من الموت المحقق مقابل مبلغ مالي يقدر بأربعة ملايين بسيطة إسبانية، مما أعطى إضافة نوعية، عسكريا وسياسيا، للتنظيم الريفي الجديد. ومن هذا المنظور، فإن معركة أنوال كانت فتحا مبينا بالنسبة للمقاومة الريفية، التي بدأت تتعزز يوما عن يوم بانضمام حماسي للقبائل المجاورة. وللإشارة، فإن الجنرال سلفستر لقي حتفه خلال هذه المعركة.
لقد كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يدرك جيدا، بحكم احتكاكه السابق بالإدارة الاستعمارية الإسبانية، أن مشكلة مقاومة الشعب المغربي للاستعمار، عموما، كانت تتجلى قبل كل شيء في غياب التنظيم المحكم والالتحام الشعبي الصلب، وأعطى الدليل القاطع، من خلال انتصار عناصره في معركة أنوال، على أن الشعب المغربي قادر على رفع كل التحديات في مواجهة الأخطار المحدقة به.
كانت هذه، في الواقع، هي المكاسب المعنوية التي بقيت أغلى وأهم نتيجة سجلها أبناء الريف المجاهدون. وباستسلام عبد الكريم للقوات الفرنسية يوم 26 ماي 1926، يكون الستار قد أسدل على التجربة الريفية الجهادية لتظل حاضرة إلى الأبد في أذهان كل المغاربة الغيورين على سيادة بلدهم، وفي أذهان كل محبي السلام عبر العالم.
مراجع:
Tayeb BOUTBOUQALT (1992) : La guerre du Rif et la réaction de l'opinion internationale 1921-1926, Rabat, Imprimerie Najah El Jadida
J. Roger-Mathieu (1927) : Mémoires d'Abd-El-Krim, Paris, Librairie des Champs-Elysées
أحمد عبد السلام البوعياشي (1974): حرب الريف التحريرية، طنجة، منشورات عبد السلام جسوس وشوسبريس.
الطيب بوتبقالت(1997): عبد الكريم الخطابي – حرب الريف والرأي العام العالمي، طنجة، وكالة شراع لخدمات الإعلام والاتصال.
*أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.