أن يضرب زلزال منطقة ببلادنا فهذا قدر إله، و أن يكون موقع الزلزال مناطق جبلية البناء فيها منذ قرون بناء تقليدي يعتز به أهل تلك المناطق لأنه يعكس ثقافة محلية وتراثا عمرانيا عريقا، فطبيعي أن تكون الحصيلة هي دمار شامل لتلك البيوت مع تسجيل ضحايا في الأرواح . هنا يبدأ برنامج إعادة الإعمار بأسئلة حارقة،ومقاربات متباينة، وصعوبات في الإنجاز تتجاوز الكلفة المالية والقرار السياسي. والمغرب الذي أعاد اسكان ملايين المغاربة الذين كانوا يسكنون دور الصفيح لن يكون عاجزا عن إعادة إسكان بعض المئات من الأسر . فماهي الجوانب التي لا يريد أن يتحدث عنها أحد وهي العائق الأكبر في إعادة الإعمار تماما كما كان يحدث في إعادة إسكان ساكنة دور الصفيح ؟ بالاعتماد على الأرقام المعلنة، فإن صندوق دعم إعادة إعمار المنازل المهدمة جراء الزلزال يغطي كلفة الإنجاز بشكل مستوفي خاصة وأن الصندوق جمع بين اعتمادات الدولة ومساهمات المواطنين والمساعدات الدولية وقبل كل هذا الدعم المباشر لجلالة الملك وإشرافه المباشر على العملية . المقاربة الثانية هي حصر الخسائر البشرية والعمرانية، وهنا أولى عقبات تسريع إعادة الإعمار ، فنحن أمام عملية معقدة بسبب الاختلالات الإدارية في تحديد ساكنة المنطقة، لأننا هنا أمام هدم كامل أو جزئي لقرى بأكملها مع ما يعنيه ذلك من ضبط للمتواجدين بالقرية من ساكنتها ومن الغائبين، ومن المتواجدين من غير القاطنين . خاصة إذا كان من بين الضحايا الجهاز الإداري الأكثر قربا من الساكنة وهو الشيخ والمقدم والعارفة . ولا نرمي الناس بالباطل، أو نشكك في نزاهة رجال السلطة،إلا أن تجارب إعادة إعمار ساكنة دور الصفيح أبانت أن «التلاعب في اللوائح « أمر تتسبب فيه عدة عوامل منها جشع بعض الساكنة، وتدخل السماسرة وتواطؤ بعض رجال الإدارة . ورغم المجهود الذي بذل في وقت قياسي واستثنائي ، إلا أن الأصوات تعالت وهي تحتج على ما سمته بالإقصاء من التسجيل في لوائح التعويضات، أو الطعن في التقدير الخاص بالمساكن بين المهدومة كليا أو جزئيا. وهذا يحيلنا إلى المستوى الثاني من المعيقات،وهو الجهة الموكول لها الحكم على البناية أنها تحت حكم الهدم الجزئي أو الكلي، وما يعنيه ذلك من إعداد تقارير يفترض فيها أن تكون صادرة عن لجن مشتركة من أجهزة مختلفة وفق مقاربة تقنية متخصصة و ليس مقاربة إدارية بين السلطة وبعض ممثلي المصالح الخارجية . زيادة على تحديد موقع البناية وما إذا كان تصنيف مكان تواجدها ضمن الخط الزلزالي الذي يمنع البناء بها مستقبلا . و الحكم على البنايات التي لم يلحقها أثر الزلزال أن تهدم لتواجدها في منطقة زلزالية . تعقيدات تقنية و فنية ليست بالسهلة، ومحكومة بطبيعة المنطقة و عقلية ساكنتها و سلوك السلطة فيها، زيادة على وعورة المسالك وضبابية حصر المنازل وضبط الملكية وعدم خضوع المناطق لتصميم التهيئة مما يجعل وثائق التعمير غير متاحة . أو سهل التلاعب فيها باعتماد شواهد إدارية من السلطة محكومة بشبهة الزبونية والمحاباة و حتى التجارة . وكما تعالت أصوات الطاعنين في لوائح الضحايا والمستفيدين، تعالت أصوات تقول بوجود» تلاعبات» في تحديد البنايات بين مهدومة ومتضررة، وبين من تتوفر على أوراق الملكية وبين من ضاعت أوراقها تحت ركام الزلزال . وفي المرحلة الثالثة بدأ موضوع الإسكان المؤقت للساكنة المتضررة وما يرافقها من حصر لوائح المستفيدين من الدعم الحكومي ،سواء كان دعما شهريا في إطار المساعدات أو دعما لإعادة الإعمار . ومرة أخرى تعالت أصوات تتهم رجال السلطة بأنهم مارسوا الإقصاء في تحديد من له الأحقية في الاستفادة من الدعم المباشر ، وأن هناك تلاعبا في اللوائح لتوجيه تلك الأموال إلى جيوب الفاسدين و بعض سماسرة الأزمات،وتابع الرأي العام بعض المتابعات القضائية في مثل هذه القضايا. المعيقات لم تتوقف عند هذا الحد، عندما بدأت اللجن التقنية في تحديد الأراضي التي سيتم عليها بناء المساكن للمتضررين، وبين ضحايا يتشبثون بأن يكون تعويضهم في نفس أماكن سكنهم قبل الزلزال ،وبين ما يسمونه «ترحيلهم» لتوطينهم في أماكن بعيدة عن أرضهم التي تشكل هويتهم وإرثهم من الأجداد. هذا الإرث يحيل إلى وثائق الملكية في العالم القروي بين الشواهد الإدارية و العقود العرفية والاستغلال بالاعتماد على الشواهد والشهود العدليين . وما يعنيه ذلك من مساطر جد معقدة إن أراد المشرفون على العملية أن تكون مضبوطة ومنصفة . وجاء قرار الدولة بمباشرة عملية بناء المساكن دون الالتفات المفرط لهذه الجزئيات ربحا للوقت ووضع حد لوضعية الخيام والحياة فيها . وبدأ النقاش في زاوية أخرى حول شروط إحداث مخيمات الإيواء بين ما توفره الدولة وبين ما وفرته إطارات مدنية، وكان النقاش حول ملكية الأراضي التي ستنشأ عليها هذه المخيمات، وبين جودة الخيام وظهور ربورطاجات عن عدم استعمال تجهيزات وخيام وعدم إيصالها للمستفيدين وحجزها في مخازن الجماعات والعمالات … ثم بدأ النقاش ينتقل من مرحلة حصر المستفيدين من إعادة الايواء والدعم المباشر وتوزيع الخيام ،إلى مستوى الخدمات وخاصة المدارس التي تحتضن الأطفال الناجين من الزلزال . موضوع إحداث حجرات دراسية تحت الخيام واكبته ربورطاجات عن تلاعب الرياح بهذه الحجر وعدم توفر شروط التمدرس بها . حجرات الدراسة طرح معها موضوع المدرسين خاصة وأن كثيرا منهم لم ينجوا من الزلزال وصعب تعويضهم في وقت قياسي بسبب التعقيدات والإجراءات الإدارية القانونية بوزارة التعليم . التلاميذ أنفسهم وقعت مطبات في تحديدهم بين أطفال فقدوا أسرهم وآخرين انتقلوا مع أسرهم إلى الخيام، فكانت عملية فتح هذه الحجر الدراسية فيها الكثير من المشاكل كتعدد المستويات الدراسية ،وتدارك التأخر الحاصل في المقررات بسبب توقف الدراسة خاصة بالنسبة للأطفال المقبلين على السنوات الإشهادية في الابتدائي والإعدادي والثانوي . على المستوى الصحي، كان التحدي هو توفير مراكز صحية ضمن تركيبة مخيمات ضحايا الزلزال، ووضعية المصابين الذين تم نقلهم إلى مستشفيات المدن، وما تطرحه عودتهم إلى المخيمات إلى جانب أسرهم وما تحتاجه جروحهم من متابعة يومية أو دورية . ورغم تغييب الجانب النفسي في تدبير ملف ضحايا الزلزال، فإن مجموعة من الناجين مثلهم مثل كثير من الناجين من الكوارث الطبيعية في مختلف دول العالم، عبروا عن عدم الرغبة في العودة إلى منطقة الزلزال والاستقرار بها . ناهيك عن الآثار النفسية للأفراد الذين فقدوا أكثر من فرد من أسرهم ، وضعية نفسية نتجت عنها ردود فعل محكومة باهتزازات نفسية تصل حد النوبات العصبية، وتفاوت في مستواها بين الأطفال والنساء والرجال . ولم تسجل حسب علمنا أية مبادرة لإصدار تقرير عن الوضعية النفسية للساكنة جراء حدوث انقلاب في حياتهم والتقلبات التي عرفتها وضعياتهم . وظهر تحدي لا يقل أهمية من كل ما سبق، والمتمثل في استخراج الوثائق الإدارية منها شهادة الوفاة وشهادة السكنى والبطاقة الوطنية . وكل هذا يستعمل في حصر الورثة وحصر الميراث والتصرف في ودائع المتوفين بالبنوك لفائدة أقاربهم وما يتطلب من تدقيق إداري يخص نظام عمل الأبناك. ويبدو أن المعيقات لا تتوقف، ففي العودة إلى إعادة الإعمار ، وجدت الدولة مشاكل في نقل معدات وأدوات البناء إلى بعض المناطق تماما كما حدث أثناء نقل المساعدات . هذه الوضعية جعلت برمجة إزالة ركام المنازل و القرى المهدومة تحديا حقيقيا للمسؤولين ، بما في ذلك استخراج الجثث من تحت الأنقاض و الإجراءات الأمنية لضبط استخراج بعض الممتلكات المنقولة المدفونة تحت الركام مثل الأموال و المخطوطات ووثائق الملكية ،و كل هذا ازداد تعقيدا بسبب التساقطات المطرية التي حولت أماكن الركام إلى أوحال حقيقية عقدت عملية إزالة هذا الركام وفق التقنيات المعمول بها . بين المسح اليدوي الأول و استعمال الآلات الخفيفة في المرحلة الأولى و ما تحتاجه من وقت و ثم مرحلة الجرافات التي يجب أن تتم تحت إشراف أجهزة تقنية . ثم تأتي مرحلة أخرى قمة في التعقيد تخص تحديد هوية الجثث و تسليمها إلى أهلها و تصريحات دفنها وشواهد الوفاة التي تسعى جهات لتحصيلها لتوظيفها في مواضيع الإرث . السكن في العالم القروي يتم وفق بناء أفقي و المنازل هي عبارة عن تركيبة من المرافق منها السكن العائلي و فضاءات تربية المواشي ،و خزانات المنتجات الفلاحية ،( فلاحة معاشية)، من تبن و أعلاف . المساكن المعروضة على الضحايا لا تتوافق كليا مع نمط عيشهم و طبيعة شخصياتهم ونظامهم الأسري و حتى روتينهم اليومي ، فكان من الصعب إقناع الساكنة بالانتقال إلى السكن العمودي وما يعنيه ذلك من انقلاب وتحول جذري في نمط عيشهم. لكن تدخل السماسرة أقنع بعض الضحايا بالاستفادة من السكن بنية بيعه للسماسرة و الانتقال للعيش في أماكن لم تحدد بدقة بين مهاجر إلى المدينة و بين تنقل إلى قرى أو بنايات مجاورة عند الأهل أو الأقارب أو أبناء العشيرة و القبيلة الواحدة . من كل ما سبق ، يبدو أن أجهزة الدولة وجدت نفسها أمام تحديات يتقاطع فيها السلوك البشري والذهنية المحلية و عقلية تجار الأزمات وشبهة الفساد وسط الجهات المشرفة على العملية خاصة في حصر اللوائح. معالجة كل هذه التحديات و المطبات ليس بالأمر السهل مهما علت همة الإدارة وإمكانياتها البشرية والمالية . كل هذا يتم معالجته في اجتماعات مارطونية و تحركات مركزية وجهوية و إقليمية ومحلية تنخرط فيها كل المصالح الخارجية و تلعب فيه السلطة دورا أساسيا ، بل يتم حتى اللجوء إلى نصوص تشريعية استثنائية لملاءمة بعض الأوضاع مع المساطر الإدارية مراعاة لما بعد عودة الحياة إلى هذه المناطق على قاعدة قانونية منصفة وواضحة. لكن الرأي العام لا يأبه بهذا المجهود «الخرافي»، بل كل كاميرات المواقع والقنوات مركزة على وضعية الضحايا تحت الخيام والتي تريد جهات أن توظفها في مناوشاتها ضد الدولة حينا وضد الحكومة وضد أعيان ورجال سلطة محليا . فهل تأخر انتهاء عملية إعادة الإعمار فيه إهمال وتجاهل لمعاناة الساكنة ؟ أم أن طبيعة الملفات المعروضة وتشعبها وتداخل في اختصاصات المشرفين عليها وتضارب مصالح بعض المضاربين الذين يتسللون إلى العملية باحثين عن جني منافع غير مستحقة لصالح تجار الأزمات هي السبب في هذا التأخير ؟ إن بناء ملعب في سنة، مقابل تعثر بناء مساكن إعادة الإعمار بالمناطق المصابة بالزلزال، أمر لا يقبل المقارنة، فالملعب محصور في البناء على أرض محسومة الملكية، وليس بها أي تدخل للعنصر البشري ، أما في حالة الزلزال فهناك العنصر البشري سواء المشرف أو المستفيد، والذي يتدخل في كل مراحل إعادة الإعمار بشكل يعرقل تعجيل عملية البناء . نحن أمام تحدي متعدد الجوانب ، والعمليات التي تستوجبه، فيها تعقيدات مرتبطة بالدرجة الأولى بالعنصر البشري، وضغط وضعية الساكنة تحت الخيام يزيد الوضع تأزما . وفي غياب صحافة استقصائية، وإهمال الدولة للمواكبة الإعلامية لكل العمليات التي تقوم بها، يجعل اعتماد الإعلام الرسمي للأرقام و النسب المئوية، في مقابل الصور و الفيديوهات التي ينشرها الإعلام غير الرسمي دون التعمق في عرض التحديات التي تقف دون إنجاز المقرر وفي الوقت المقرر له . اصبحنا امام وضعية مبهمة . اليوم مرت سنتان على الزلزال ، وفي كل مرة تعود كاميرات الصحافة لتصوير الساكنة تحت الخيام واستنكار استمرارهم في هذا الوضع بعد مرور سنتين على الزلزال، وضع رغم أنه متفاوت إلا أنه يبقى حقيقة ظاهرها إهمال الدولة وباطنها تشعبات كلها مرتبطة بالسلوك البشري وطبيعة المناطق الزلزالية والنصوص التشريعية. و ما هو في حكم المؤكد أن استمرار هذا الوضع لا يمكن القبول به تحت أي مبرر ، والتعجيل بالطي النهائي لهذا الملف أصبح مطلبا ملحا إنصافا للمتضررين مع قطع الطريق على المضاربين وتجار الأزمات ، وقطع الطريق على من يوظف مشاهد الساكنة تحت الخيام للتشويش على صورة المغرب داخليا وخارجيا.