أكبر جمعية حقوقية بالمغرب تدين تواتر الأحكام القضائية القاسية في حق محتجي "جيل زيد"    جلالة الملك يهنئ الرئيس اللبناني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    الطالبي العلمي بمؤتمر الاتحاد البرلماني الإفريقي: التنمية الحقيقية رهينة بتعزيز سيادة الدول الإفريقية على مواردها الطبيعية    مطالب بفتح تحقيق في التدخل في القضاء في ملف تسريب مداولات لجنة تأديب الصحافة    لجنة الأفلام في قطر تحصل على حقوق قصة "قيصر"    قوات روسيا تعلن عن تحرير بلدتين    هل يصيب الذكاء الاصطناعي بعض الناس بالتوهم؟    الكشف عن برنامج مباريات المنتخب المغربي الرديف في كأس العرب 2025    الإنتربول تشيد بالدور الإستراتيجي للمغرب في مكافحة الجريمة العابرة للحدود    أفراد طاقم فيلم "صوت هند رجب" وأبطال القصة الحقيقيين في مهرجان الدوحة السينمائي: صوت هند هو صوت غزة وكلّ الفلسطينيين    ساركوزي يكتب عن السجن: كما هو الحال في الصحراء.. تتقوّى الحياة الداخلية في السجن    حادثة سير خطيرة تودي بحياة 4 أشخاص في بوجدور    نبيل باها .. أداء اللاعبين في المنافسة كان استثنائيا    ارتفاع الدرهم بنسبة 0,4 في المائة مقابل الدولار    القاهرة تستعجل تشكيل "قوة غزة"    مونديال قطر لأقل من 17 سنة.. صحيفة "أس" الرياضية الإسبانية تشيد بالجيل الجديد من المواهب المغربية    الأمم المتحدة: الإمدادات الغذائية لغزة تتحسن منذ وقف إطلاق النار    عقار : ارتفاع مؤشر الأسعار في الفصل الثالث من سنة 2025    أرسنال يفقد مدافعه غابرييل لأسابيع    طقس مستقر في توقعات اليوم السبت بالمغرب    وفاة ثلاثيني وإصابة شاب آخر في حادثَيْ دراجة نارية متتاليَيْن داخل نفق "مركز الحليب" بطنجة    بوعرعار "كبير المترجمين".. سفير لغوي متجول بارع ودبلوماسي "فوق العادة"    الداخلية تلزم الجماعات بتحديد تسعيرة الضريبة على الأراضي غير المبنية لتشمل الدواوير... تغازوت نموذجا (فيديو)    فاتح شهر جمادى الآخرة لعام 1447 هجرية يوم غد السبت    النقابة الوطنية للصحافة المغربية تدين تجاوزات لجنة أخلاقيات المهنة وتطالب بتحقيق عاجل    الدريوش تترأس حفل تخرّج بأكادير    العيون.. انتخاب عبد الإله حفظي رئيسا لشبكة البرلمانيين الأفارقة لتقييم التنمية    ماركا الإسبانية: لمسة خادعة من لاعب البرازيل أقصت المغرب في الدقيقة 95 وحرمت المغرب من نصف نهائي المونديال    الجيش الملكي يتوج بلقب دوري أبطال إفريقيا للسيدات    بيلد: "يويفا" يوقف دياز 3 مباريات    أكادير.. الدريوش تزور عددا من الوحدات الصناعية البحرية وورشين لبناء السفن بجهة سوس–ماسة    انخفاض الرقم الاستدلالي للأثمان خلال شهر أكتوبر    "المعدن الأصفر" يلهب الأسواق.. المغرب يتبوأ المركز 63 في احتياطيات الذهب    لفتيت يحذر المشبوهين بالابتعاد عن الانتخابات وإلا سيتم إبعادهم    بن هنية: "صوت هند رجب" يتخلّد حين يصل نفس الشعور إلى كافة الناس    قائمة المنتخب المشاركة في كأس العرب    بورصة البيضاء تنهي التداولات بارتفاع    الداخلة: المركز الدولي للأبحاث حول الوقاية من تجنيد الأطفال يوقع أربع مذكرات تفاهم مع مؤسسات إفريقية لمكافحة تجنيد الأطفال    يونيسف تحصي مقتل طفلين فلسطينيين على الأقل يوميا في غزة منذ وقف إطلاق النار    صاحبة الجلالة أم "صاحبة جلال"    وفاة رضيع في الطرامواي تولد في العراء الطبي بسلا تهز الرأي العام    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    المطر يُعرّي أخطاء البشر !    لوحة بورتريه لفريدا كاهلو تصبح أغلى عمل فني من إنجاز امرأة    اختتام مهرجان سينما الذاكرة المشتركة بالناظور وتتويج أبرز الأعمال    "الأول يكشف تفاصيل استنطاق "بوز فلو".. الرابور أمام القضاء بسبب اتهامات مرتبطة بمضامين أغانيه    تتويج سفير المغرب لدى الأرجنتين ضمن "قادة التحول في أمريكا اللاتينية"    المغرب يرتقي إلى المرتبة السادسة عالميا في مؤشر الأداء المناخي 2026    أجهزة قياس السكري المستمر بين الحياة والألم    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    معمار النص... نص المعمار    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقد ذاتي : ثلاثة أخطاء قاتلة

في هذه الظروف الداخلية والخارجية، توجهنا مهام عديدة ومستعصية لا مناص من القيام بها، ولابد لنا منمعالجتها بأساليب جديدة وبسلوك ملائم لخطورتها، مستمدين قوة جديدة من دروس أخطائنا السالفة.
ويظهر لي أننا في الماضي قد انزلقنا نحو ثلاثة أخطاء رئيسية سوف تكون قاتلة لا محالة، ان لم نتداركها في الظروف الراهنة.
الخطأ الأول: يرجع إلى سوء تقديرنا لأنصاف الحلول التي كنا مضطرين للأخذ بها.
الخطأ الثاني: يتعلق بالإطار المغلق الذي مرت فيه بعض معاركنا،بمعزل من مشاركة الجماهير الشعبية.
الخطأ الثالث: نشأ عن عدم الوضوح في مواقفنا الإيديولوجية وعن عدم تحديدنا لهوية حركتنا.
1- أنصاف الحلول وموقفنا منها
ماذا كان موقفنا من أول »نصف حل« عشناه في نضالنا الوطني وهو حل »اكس ليبان« (Aix les - bains) ؟
حدث ذلك بعد نضال طويل ظل يتعمق خلاله وعي المناضلين الثوري، وبرزت طوال مرحلة مطامح شعبنا، وهي تزداد وضوحا مرحلة بعد مرحلة.
واسمحوا لي هنا أن استعرض المراحل الثلاث التي مر بها هذا النضال في فتراته المعاصرة.
أ-فقد تميزت المرحلة الأولى من معركة التحرير الوطني، بعد فشل الثورات القروية المسلحة ضد الاحتلال، بانتشار الدعوة الوطنية عند جماهير البرجوازية الصغيرة في المدن التقليدية، وانتقلت الحركة الوطنية كما وكيفا إلى تطور جديد، اثر الحرب العالمية الثانية، بعد أن انخرطت فيها أفواج الكادحين المكدسين في الضواحي الفقيرة المسماة بمدن القصدير. فقد كان للنمو السريع فيقطاع الصناعة الاستعماري نتيجة إيجابية، هي نشوء طبقة عاملة ما فتئت أن تسربت إليها تنظيمات الحركة الوطنية.
والظاهرة التي يجب أن نلفت النظر إليها هنا، هي أن البعض كان في أغلب الأحيان ينظر إلى هذه الانخراطات الجديدة في صفوف الحركة الوطنية مجرد نظرة عددية، ولم يكن يعتبر تلك الجماهير سوى وسيلة جبارة للضغط على المستعمرين، بينما كانتهذه الجماهير تشكل بحكم تركيبها التحالف بين العمال والفلاحين المطرودين من الأرض، والنازحين إلى مدن القصدير. وبقي قسم مهم في قيادة الحركة الوطنية غير واع للمعنى العميق لهذا التحول الكيفي، ولما كان ينبغي أن ينتج عنه من تحول في الأهداف وأساليب النضال. ومن هنا ندرك الأسباب العميقة لكثير من التطورات في الحركة الوطنية.
وبكلمة موجزة يمكننا القول بأن الحركة الوطنية كانت تحتوي على حركتين متوازيتين، وبقدر إدراك الجماهير الكادحة لأيديولوجيتها الخاصة بها كطبقة ثورية، استطاعت الحركة الوطنيةأن تكسب من هذا الدم الجديد طفرة قوية جديدة.
ب- ولم تكن المرحلة الثانية للنضال التحرري، تتميز بظهور المقاومة المسلحة في المدن؛ مثلما هي تتميز بقيام جيش التحرير الذي لا يتأتى إلا بالتأييد الفعال من طرف الجماهير القروية، كما أثبتت ذلك التجارب التاريخية المختلفة. ومعنى هذه المرحلة أن دعوة حركة التحرير الوطنية قد بلغت سكان البادية والأرياف.
إن هذا الحدث إذا فهم وفسر على حقيقته يكون له مغزى ثوري عميق، لأنه يطرح مشكلتين هامتين: مشكلة تحالف القوى الثورية، ومشكلة أساليب النضال السلمية والعنيفة.
فالمشكلة الأولى تتعلق بربط نضال جماهير المدن من عمال وصغار التجار والحرفيين بنضال الفلاحين في الأرياف. فكلنا نعلم أن الاستغلال الاستعماري قام عندنا على اغتصاب المعمرين للأراضي الزراعية الذي نتج عنه استفحال البطالة في القرى، وهجرة الفلاحين للمدن. وهؤلاء الفلاحون المطرودون من أرضهمالذين يكونون جمهرة الصعاليك في المدن، وهم الذين دخلوا أفواجا في الحركة الوطنية، بينما منبع سخطهم ومصدر قوتهم الثورية خارج هذه المدن، وفي وسط الأرياف.ولذلك فبمجرد ما تصل حركة التحرر الوطني إلى هذه الأرياف نكون قد أقفلنا الحلقة، وتصبح الطاقة الثورية المتجمعة في كلا القطبين الحضري والبدوي قوة لا مرد لها.
وبينما الثورة تكتسب قوة جديدة، فهي لذلك تجد الطريق لتعليق مفاهيمها الإيديولوجية، فهي إذا أمعنت النظر في مشاكل قوتها الرئيسيتين، فإنها تستطيع الوصول إلى وضوح الرؤيا فيما يتعلقبنظام الاستغلال الاستعماري، وفيما يتعلق كذلك بمشاكل العمال والفلاحين وارتباط بعضها ببعض. وان إدراك هذه العلاقة لهي الدلالة على ثورية المنظمة وثورية برنامجها.
وأمّا المشكلة الثانية التي برزت من خلال هذه المرحلة من نضالنا الوطني، فهي قضية العنف كأسلوب سياسي. ذلك أن النضال الثوري ضد أي نظام اقتصادي واجتماعي لابد أن يكون مزيجا من الوسائل السياسية والعسكرية، وتأرجحا مستمرا بين الأساليب القانونية والأساليب غير القانونية. وكان لزاما علينا، وقد وصلت بلادنا إلى هذه المرحلة، أن ندرك هذه المشكلة على حقيقتها وفي منتهى مدلولاتها، وأن نستخلص منها النتائج الحتميةلتعميق الوعي الثوري للمناظلين.
ج- وقد دخلت معركتنا في مرحلتها الثانية باندماجها في الأفق الثوري لمجموع بلاد المغرب العربي. وتم ذلك بنفس السرعة التي كان يسير بها تعميق الأبعاد السياسية والإيديولوجية للحركة، وهي تسير بخطى حثيثة نحو أهدافها. وكانت هذه المرحلة تشكل تحولا جذريا، لأنها فتحت مجالا تستطيع معه الأقطار الثلاثة لبلاد المغرب العربي أن تنتقل من أهدافها المرحلية، كعودة الملك أو تأسيس دولة أو استرجاع الشخصية الذاتية، إلى أهداف ثورية استراتيجية. ومن خلال التباين الشكلي للمعارك المختلفة بالأقطار الثلاثة بدأت تظهر وحدة الاستغلال الاستعماري ووحدة النضال المصيري المشترك، وان المغزى الثوري لهذه الوحدة، هو أنها تتجاوز الخصائص الإقليمية المتباينة، الناتجة عن تاريخ الاستعمار واختلاف النظم السياسية والمناورات الذكية للمستعمرين لخلق التقسيمات المصطنعة، لكي تصل إلى وحدة نضالية، يتبدد معها الكثير من الأساطير والأوهام.
وقد تمت »اكس ليبان« عند هذه المرحلة بالذات، أي عند نهاية تطور طرحت فيها موضوعات قضايا جوهرية بالنسبة لمعركتنا، وهي دور وأهداف الجماهير الكادحة الحضرية، مع ضرورة ارتباطها بالجماهير القروية، ومسألة اللجوء إلى العنف لا في إطار محلي ضيق وإنما في مستوى أفقي متسع في النضال ضد الاستعمار.
ففي هذه الفترة من نضالنا الوطني، والتي رغم قصرها أخذت تظهر فيها عوامل التوضيح الجذرية التي كنا سندخل بها كغيرنا من الثورات في مرحلة حاسمة، في هذا الوقت بالذات وقع محمد الخامس في طريق عودته من المنفى إلى المغرب اتفاقية »لاسيل سان كلود« la selle Saint cloud مع الحكومة الفرنسية، كنتيجة لمباحثات »اكس ليبان« والتي أدت إلى الاستقلال السياسي الشكلي.
فهل معنى ذلك أن الخصم كان أكثر خبرة منا، فأدرك قبلنا المغزى العميق لاتجاه سير الأحداث؟
ولماذا لم تدرك حركة التحرر الوطني، التي كنا من مسيريها الأغراض الأساسية للاستعمار؟ ولماذا لم نتول توضيح هذه الأغراض، وما يترتب عنها من مسائل للمناضلين مع ما ينج عن ذلك من تحديد لمتطلبات معركة تحريرية جذرية؟
علينا اليوم أن نجيب على هذه الأسئلة وعلى أمثالها في هذا الباب.
لقد منحتنا الظروف التاريخية الوسائل الكفيلة لكي نقوم بدور التوضيح الذي كانت تفرضه علينا مهمتنا الثورية. فهل قمنا بتقديم هذه التسوية التي تمت مع المستعمر كأنها حل وسط، أي أنها حل وسط ربحنا بمقتضاه، ولكننا في نفس الوقت سجلنا خسرانا مؤقتا؟
ليس المهم اليوم أن نطرح بشأن هذه الاتفاقية أسئلة مزيفة مثل »هل كان يمكننا رفض الاتفاقية« أو »ما الذي دفع فرنسا إلى قبولها؟« السؤال الوحيد الذي يهمنا توضيحه هو أثر هذه الاتفاقية على الانطلاقة الثورية لحركتنا الوطنية.
فلا أحد يستطيع أن ينكر الدور الذي لعبه في التحول المفاجيء للسياسة الفرنسية اقتران الحركتين التحريريتين، الجزائرية والمغربية. وما كان سيترتب عليه من نتائج. وأيضا ليس من قبيلالصدفة أنه في الوقت الذي بدأ فيه المناضلون وان كانوا قد بدأوافقط يدركون من وراء الرمز المعني العميق للنضال الوطني في هذا الوقت بالذات فهم المستعمرون المعنى العاطفي لإرجاع الملك من منفاه. ونحن اليوم إذا حللنا هذه المطابقات بعد مرور الزمن عليها، ندرك أن السياسة الاستعمارية بلغت منتهى من الذكاء كنا أبعد ما نكون عن تصوره.
نعم، لقد بدأت تنضج المعالم الميكافيلية لهذه السياسة عندما شرع الاستعمار في تطبيقها على مدى أوسع في مجموع القارة الأفريقية، غير أنه منذ نهاية سنة 1956 أخذت مرارة الخيبة تظهرفي نفوس عدد من المناضلين، وخاصة عند قادة حركة المقاومة وجيش التحرير، وكان ذلك بمثابة الشعور الحدسي بأن سير الثورة قد توقف.
فهل نحن أخذنا في حسابنا هذا الشعور بالخيبة، واستنتاجنا منه نتائج إيجابية كما كان يجب علينا؟ وهل شرحنا مغزى حل اكس ليبان بعد أن ظهرت سياسة الخصم جلية واضحة للعيان عندما أعلن الجلاوي تراجعه المسرحي وتوبته الموعز بها له؟
كلا لم يقع شيء من ذلك، بل أخذنا على حسابنا تلك الاتفاقية بما لها وما عليها، وتقدمنا بها كعربون على اندحار الاستعمار الفرنسي. ثم إننا صورنا انحلال »مجلس العرش« الذي نصبه الاستعمار كهزيمة أخرى للسلطة الاستعمارية، بينما لم يكن في الواقع إلا فخا مدروسا للتظاهر بالتنازل. ودخلنا في اللعبة الاستعمارية باستبدالنا الهدف الأساسي لمعركتنا، وقد بدأ يتضح للمناضلين، بهدف آخر قد يظهر لأول وهلة قريب المنال، بينما هوفي المدى البعيد بمثابة السراب.
إننا في الحقيقة لم ندرك معنى المنعرج الذي وصلت إليه حركتنا، ولم نتخذ له العدة في وقته، لأسباب يمكن مناقشة صلاحيتها، ولكننتيجتها الملموسة هي أننا عللنا أنفسنا بأن تلك التسوية السياسية إنما كانت توقفا مرحليا في مسيرتنا الثورية. وكان مفروضا ضمنيا أن يستغل هذا التوقف كفترة استجمام للحركة الوطنية، تستغلها لاعادة تنظيم نفسها، ولمعالجة التضخم الذي أصابها، واستيعاب القطاعات الثورية الجديدة في صفوفها، غير أنهذه المحاولات وان كانت قد انخرطت بنية حسنة، إلاّ أنها لم تكن موضوعة في إطار استراتيجية شاملة، جعلها تفضي إلى نتائج عكسية بل إلى تعفن أجهزة الحركة التحررية.
إن هذا التحليل النقدي لتسوية اكس ليبان الذي لم نقم به سنة 1956 علينا أن نقوم به اليوم، حتى نستخلص منه في سياستنا الداخلية موقفا واضحا ومحددا بالنسبة للتسويات أو الحلول الوسطى التي قد نضطر إلى قبولها في المستقبل. ان مثل هذه الحلول يجب أن تقوم بصفة موضوعية وبتقييم حقيقي، لا أن ندافععنها كانتصارات حاسمة، وبذلك نمنعها من خلق ضباب حول وضوح الوعي الثوري للمناضلين.
ليس من المحرم على حركة ثورية أن تمر في حلول مرحلية، لأن ذلك متوقف على توازن القوى، وعلى تحديد الأهداف القريبة منها والبعيدة. والمهم هو أن يتم كل شيء في وضح النهار، وبتحليل شامل يوضح الأوضاع للمناضلين.
علينا ألاّ نقع مرة أخرى في خطأ »اكس ليبان«، وألاّ نتولى تبريرالتسويات كأنها حلول كاملة، والاحتفاء بها كأنها انتصارات تخدمفي الواقع أغراضا انتهازية.
2 صراع في نطاق مغلق
هل من حاجة إلى التذكير بالمعارك المتعددة التي اضطرنا لخوضها من سنة 1956 إلى 1960 دون أن يعرف الشعب شيئا عنها. وكلهاكانت تدور بين جدران منازل أساطين حزب الاستقلال، أو داخل القصور الملكية دون أن ينفذ صداها إلى الخارج
وتعلم بعض إطارات الحزب بالتفاصيل كيف قمنا منذ البداية، ونحن ما زلنا في حزب الاستقلال بالدفاع عن مبدأ أساسي، يضمنلكل حكومة تستحق هذا الاسم أن تباشر السلطة التنفيذية المخولة لها، ذلك المبدأ الذي بدون احترامه تكون الحكومة اسما بلا مسمى، وهو أن تكون بيد الحكومة سائر السلطة، وبالأخص الإشراف على موظفي وزارة الداخلية والمحافظين وكذلك مصالح الجيش والشرطة والدرك التي كان القصر يعمل على احتكارها. وكنا كلما وضعنا مشكلة هذه المناطق المحرومة أو أدرجناها في أعمال أحد المجالس الوزارية، وجدنا نفسنا موضع هجوم مركز من طرف الصحافة الاستعمارية الفرنسية تحت عناوين بارزة ومانشيتات: »العرش المغربي في خطر« وفي ذلك منتهى المفارقة لصدوره من أولئك الذين اعتدوا على العرش من قبل ثلاث سنوات.
ولم نقم بواجب التوضيح أمام الرأي العام لهذه المعارك المتجددةعلى تعاقب الحكومات، من الوزارتين الائتلافيتين الأولى والثانية إلى حكومتي بلافريج وعبد الله ابراهيم. ولم نقل قط للشعب أنناكنا فاقدين لوسائل تنفيذ برامجنا. فلا غرابة إذن من أن يتهمنا البعض اليوم بأننا كنا نتوفر على سائر السلطات طيلة سنوات 1956 إلى 1960: بينما كنا فاقدين لجوهر السلطة. هذه هي الحقيقة.
ولننتقل إلى المعارك التي خضناها في الميدان الاقتصادي، فإن أولئك الذين ينسبون لأنفسهم مشاريعنا، ويتبجحون بها في خطبهم كانوا من ألد أعدائها عندما كنا نعرضها ونحن نشارك في الحكم. فكم تحمل أخونا عبد الرحيم بوعبيد من متاعب ليوجد للمغرب بنك إصدار عملته، ولكي لا تبقى هذه العملة تابعة للعملة الأجنبية. وكم تكبد من مشاق لإيقاف نزيف الرأسمال الوطني ولم تتحقق بعض تلك المشاريع إلاّ بفضل صبر طويل ومثابرة بيداغوجية لا تعرف الملل طيلة أربع سنوات من أكتوبر 1956 إلىأبريل 1960.
وسنوضح فيما بعد أن هذه الإصلاحات لم تكن لتغير من جوهر السيطرة الاستعمارية في الميدان الاقتصادي. إلاّ أنه من الواجب أن نؤكد هنا أن هذه الإصلاحات على ضآلتها، بالنسبة لما يزال منتظرا منا إنجازه لتحقيق التحرر الاقتصادي، لم تر النور إلاّ بعد معارك مريرة لم يسمع الشعب عنها شيئا.
ومثل ذلك حصل عندما عرضنا مسألة اختيار أسلوب الاقتراع في انتخابات المجالس المحلية البلدية والقروية، فقد اصطدمنا مع القصرلكي يكون الاقتراع باللائحة، فهو الأسلوب الوحيد الذي يضمن عن طريقه قيام مجالس بلدية تكون أداة للبناء الاقتصادي والاجتماعي. ولكن القصر التجأ إلى استشارة »علماء« من الخارج، ليفتوا له بصلاحيات الاقتراع الفردي أو ما شابهه حسب رغبته. وطالبنا بالرجوع إلى استشارة المنظمات السياسية، فطلب القصر رأيها ولو أنه أدخل في زمرتها من لا يحمل من الكيان السياسي سوى الاسم. وكانت النتيجة أن خمس منظمات اتفقت على رأينا ضد ثلاث منظمات اثنين منها كانتا ضد مبدأ الانتخابات من أساسه. وكل ذلك لا يمنع القصر من فرض الاقتراعالفردي الذي نتج عنه بعث العناصر الإقطاعية والرجعية.
وهذه المعارك أيضا لم يعرف الشعب من أشواطها شيئا.
وهكذا في المعارك التي دارت داخل اللجنة التنفيذية أو اللجنة السياسية لحزب الاستقلال حتى 25 يناير 1959. فإن انزلاق بعض القادة في طريق المساومة الانتهازية، بل ومساهمتهم في المؤامرات الخسيسة ضد جيش التحرير والمقاومة أو النقابات العمالية، كان منشأ اصطدامات عنيفة، لو أعلن عنها في ابانها لوفرت علينا كثيرا من الوقت وخيبة الأمل والمزيد من التضحيات.
إن مثل هذه الأخطاء يجب ألاّ نقع فيها من جديد، كما أن الأخطاء السابقة ينبغي مراجعتها وتحليلها للمناضلين، حتى تضع حدا لبعض الأساطير، ونحرم الاستعمار الجديد من استغلال بعض الخرافات المزيفة الكاذبة.
3- من نحن؟
مضى علينا زمن طويل ونحن لا نريد الإفصاح عن الهدف الذي نرمي إليه. فبسبب التسويات وأنصاف الحلول غير المشروحة، وبسبب المعارك الدائرة في طي الخفاء، لم نتمكن من تحديد آفاقنا البعيدة. ولطالما تلقينا هذا الاستفسار ما هو برنامجكم.
لاشك أن هذا الاستفسار خاطئ في الشكل الموضوع عليه، لأن أي أحد يستطيع أن يسطر برنامجا كما تشهد بذلك البرامج العديدة التي تصدر عن النظام القائم وعملائه السياسيين.
ومع ذلك فن هذا لا ينقص من قيمة النقد الذي نوجهه لأنفسنا، وهو عدم تبيان واضح لمعالم المجتمع الجديد الذي نسعى لبنائه في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ولابد لنا من وضع حد لهذا الغموض، مادامت الصورة السياسية للقوى المتصارعة في البلاد قد انكشفت فإن مزيدا من التوضيح لابد منه حتى تحدد اتجاهنا كاختيار ثوري أمام الاختيار الرجعي الديماغوجي المتحكم في البلاد. وأن أفضل سبيل لذلك لهو اغتنام فرصة انعقاد المؤتمر الثاني لحزبنا، من أجل تبيان المهام التي تنتظرنا في العاجل والآجل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.