كاتب صحفي مقيم في إيطاليا. من خلال اطلاعي ومتابعتي لما ينشره عدد من العلماء والمفكرين؛ ومن بينهم العلّامة الدكتور أحمد الريسوني، والمفكر والراصد المغربي فضيلة الدكتور عبد الله شنفار، والدكتور محمد الخمسي، والمفكر جاسم محمد سلطان وغيرهم كثر من الرجال الذين أُوتوا فهماً وبصيرة، يُستنار بهم في زمن استشرت فيه ظلمات الجهل والتطرف؛ أجدني ممتنًا لهذا النور الذي يكشف المفاهيم ويفتح الآفاق. إن الله يسوق إليك أشخاصًا، ويسخّر لك أقوامًا، يفتحون أمامك أبواب الغيث بفكرة ناظمة أو إشارة هادية، فتغدو عندك منهجًا للحياة وميزانًا للرؤية. وكما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، فإن أولئك الجنود قد لا يُعرفون بأسمائهم، ولكن تُعرف آثارهم في قلوب من أُلهِموا بنورهم. في سورة الأنعام (الآيات 151–153)، يقدم القرآن الكريم نواة ميثاق أخلاقي وتشريعي جامع، يتجاوز كونه مجرد قائمة تعليمات، ليكشف عن رؤية قرآنية عميقة لبناء الإنسان في أبعاده العقدية، الأخلاقية، والسلوكية الاجتماعية. في هذا الإطار، يتحول كل حكم ديني إلى لبنة في مشروع وجودي يذهب أبعد من الانضباط الظاهري، نحو أفق تحويل الذات والمجتمع معًا. 1. التوحيد أصل الوجود: "أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" هل يبدأ الإصلاح من خارجه أم من داخل تصور الإنسان عن الوجود؟ يضع القرآن التوحيد في مقدمة البنات، ليس كنفي مجرد للشرك، بل كتحرير إنساني من الخضوع لأي سلطة سوى الله. ف"ألّا تشركوا به شيئًا" ليس أصل عقيدة فقط، بل مفتاح لتفكيك البنى النفسية والاجتماعية التي تصنع "الأصنام" الحديثة من المال والقوة والعرق. التوحيد هنا فعل تحرري يؤسس وعيًا لا يقبل التبعية أو التهميش، إذ أن كل خضوع لغير الله يعبر عن استلاب للحرية الحقيقية. 2. منظومة القربى والرحمة: "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" في زمن تتآكل فيه القيم الجامعة ويتبدد الإحسان لصالح النفعيّة، تتحول هذه الوصية إلى ممارسة إصلاحية تأسيسية. الإحسان هنا، بما يتجاوز البر، يشمل الاعتراف والرعاية والتواصل الروحي، ليعيد بناء العقد الأخلاقي بين الأجيال، ويعزز العمق الاجتماعي للأسرة كمجال لبناء الذات الأخلاقية. 3. نقد منطق الفقر القاتل: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ" كيف يمكن لمجتمع يعلن قِيَم الحياة أن يبرر قتل أبنائه بحجة الفقر؟ تتصدى الآية لمنطق "تدبير الموارد" النفعي، فتدفع الإنسان لإعادة ترتيب أولوياته: الحياة أسبق من الرزق. الإملاق ليس مجرد فقر مادي بل انحطاط في الوعي، حيث تتحول الحياة إلى عبء. هكذا تستعاد الكرامة كحق غير مشروط. 4. هندسة الحياء: "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" هل السقوط الأخلاقي يبدأ بالفعل أم بالوعي؟ لا يقتصر النهي هنا على الفعل، بل يمتد ليشمل القرب منه. فالانحراف يبدأ بالمقدمات الصامتة: نظرة، كلمة، أو نية. بين الظاهر والباطن تنشأ جدلية أخلاقية جوهرية، ويصبح الحياء قيمة بنيوية تؤسس لعلاقة متوازنة بين الفرد وجسده، بين الرغبة والوعي. 5. مركزية الحياة في المشروع القرآني: "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ" هل يمكن أن يصبح حق الحياة ترفًا في عالم يستهين بالدماء؟ هذا التحريم يرسّخ الحياة كمقدّس لا يملكها أحد، مع استثناء ضيق ومحكوم بشروط صارمة. إن الحماية التي يوفرها النص تفوق القوانين الوضعية، لتؤسس لمنظومة قيم تتحدى الاجتهادات الفضفاضة. 6. اقتصاد الرحمة: "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" كيف يمكن أن يصمد اقتصاد دون أخلاق؟ المال ليس مجرد أداة بل اختبار للقيم، واليتيم رمز للفئات الضعيفة. الدعوة إلى "التي هي أحسن" تنقل المعاملة من حدود الحلال والحرام إلى منطق الإحسان المسؤول والرعاية الإنسانية. 7. العدل بوصفه قيمة لغوية: "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى" أين تبدأ العدالة؟ تتجاوز هذه الوصية المحاكم إلى الحوارات اليومية، فتصبح اللغة ميدان مسؤولية أخلاقية. الكلمة ليست مجرد أداة بل فعل عدالة أو ظلم، والشهادة فتوى، والقول مسؤولية ثقيلة. 8. العقد الوجودي: "وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا" هل نقرأ الشريعة قانونًا فقط، أم عهدًا وجوديًا؟ الوفاء بالعهد مع الله هو تعبير عن عبودية حرة، تدمج كل الشعائر والالتزامات في إطار ثابت للمعنى، وسط عالم يموج بالفوضى والنسيان. 9. الصراط المستقيم كحيوية اجتهادية: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ" هل الدين طريق ثابت أم أفق متجدد؟ الوعود بالصراط المستقيم ليست دعوة للجمود، بل لتجديد الالتزام بالمقصد الأسمى: التوازن، الوحدة، الاستقامة. الابتعاد عن السبل المشتتة لا يقتصر على المذاهب الضالة، بل يشمل كل انحراف عن روح الهداية الجامعة. 10. تحصين الذات والمجتمع من التشظي: "وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ" هل يكفي معرفة الطريق الحق؟ التحذير هنا لا يكتفي بدعوة الاتباع، بل يفتح أفق وعي نقدي بالطرق الزائفة: الأيديولوجيات، المصالح، النزوات الذاتية التي تلبس لباس الحق. التحصين هذا يمنع التفكك الداخلي والتمزق الاجتماعي، ليؤكد على وحدة الإنسان والمجتمع في رحاب القيم القرآنية. خلاصة تأملية مفتوحة الوصايا العشر في سورة الأنعام ليست فقط نصوصًا تشريعية، بل مشروع حضاري لإعادة تشكيل الإنسان من الداخل. إنها دعوة لتحول داخلي يتجاوز السلوك إلى تصورات ومفاهيم، ويؤسس لمجتمعات متجذّرة في القيم، متوازنة في علاقتها بالله والناس. بين التوحيد والصراط المستقيم تُغلق الدائرة لتفتح أمامنا سؤالًا مصيريًا: كيف نُعيد تفعيل هذه القيم في زمن التفكك، دون أن نُفرغها من عمقها التحويلي أو نختزلها في شعارات فضفاضة؟