بعد عطالة مزمنة، ذهب البرلمان المجلل «بالوقار والاحترام» إلى العطلة الصيفية الطويلة ليريح ويستريح... عطلة ممنوحة عن جدارة واستحقاق بعد المجهود الضخم الذي بذله. فمن الطبيعي جدا بعد الحضور المتواصل، والسهر الطويل، والعمل الدؤوب، والتضحيات الجسام، والتفاني المطلق في خدمة الصالح العام، أن يلتقط برلمانيونا السمان أنفاسهم، ويروحوا عن أنفسهم ساعة قبل أن تصدأ ( من كثرة التفكير في مشاكلنا) كما يصدأ الحديد. ومن الطبيعي كذلك، وهم على ما هم عليه من العياء والإنهاك، أن يطرحوا جانبا التقرير الذي أعدته اللجنة البرلمانية المكلفة بالبث في أحداث إفني من أجل تحديد مختلف المسؤوليات. إن كل ما سبق من ثناء وإطراء في حق برلماننا «العظيم» ينبغي أن يقرأ معكوسا، وما ذلك بخاف على أحد ما دام ظلام الليل لا يخفى حتى على العمي والمعتوهين. فإن كانت قد بقيت في عيوننا اليابسة قطرة واحدة يتيمة من الدموع، أليس من الأحرى أن نذرفها شفقة ورحمة وترحما على هذا البرلمان المسكين الذي يحلو لكثير من المغاربة أن ينعتوه تهكما ب: بَارْ لمَان؟ الحقيقة هي أن برلمانيينا الأعزاء قد ضاقوا ذرعا من أنفسهم، وملوا من مللهم وتعبوا من عدم تعبهم إلى درجة أن الذباب أصبح من المدمنين على زيارة أفواههم المفتوحة على آخرها من كثرة النعاس التمساحي والتثاؤب الكركدني... أما بخصوص اللجنة البرلمانية العجيبة، فإنها عجزت عن استكمال تقريرها نظرا للخلاف الكبير الدائر بين أعضائها المحترمين. وبهذا يكون هؤلاء الأفاضل قد عملوا بالمقولة الشهيرة : «كم من حاجة قضيناها بتركها» وفضلا عن هذا، ماذا يمكن أن ينتظر من لجنة يرأسها شخص ينتمي إلى حزب أكد رئيسه بصفاقة أن إفني لم تعرف أي أحداث تذكر؟ بل «زادوا فيه» حين دافعت إحدى برلمانيات الحزب بقوة عن عدم جدوائية هذه اللجنة بحجة أنها لن تساهم إلا في استنزاف ميزانية البرلمان. (انظر في هذا الصدد تصريح رئيسة الفريق الاستقلالي في البرلمان). ووصلوا الذروة حين أخذوا على أنفسهم براحة ضمير أنه لا فائدة للاستماع إلى الجنرالين العنيكري وبن سليمان والضريس ووالي أكادير، علما بأن عساكر هؤلاء هم من فعلوا الأفاعيل بالمدينة المنكوبة. نعم، ماذا يمكن أن ينتظر من لجنة قررت أن تكون جلسات الاستماع فيها غير عمومية؟ وماذا يمكن أن ينتظر من لجنة تدخلت مباشرة لدى السلطات لمنع برنامج في القناة الثانية حول أحداث إفني؟ وماذا ينتظر من لجنة ألحت على سرية جلسات الاستماع وفيها أعضاء يشهدون عاليا بأنه لم يكن ثمة في إفني لا اعتداء ولا تجاوز ولا هم يحزنون؟ أجل، اقتنعنا إذن بالقوة... لم يكن في إفني أي شيء، أحب من أحب وكره من كره. وإذن ما دور هذه اللجنة التي أعطي الضوء الأخضر لتشكيلها من السلطات العليا في البلاد؟ فقط لذر الرماد في عيون الرأي العام الدولي، ولتسويق صورة في منتهى الجمال عن مغرب الحق والقانون، مغرب يرفل في بحبوحة الديمقراطية، حيث البرلمان يتمتع بسلطات حقيقية واسعة تخول له مساءلة أي مسؤول مهما سما شأنه في هرم الدولة. وبهذا يكون واضحا للعيان أن أعضاء هذه اللجنة «الموقرة» قد أعطوا الدلائل القاطعة بأنهم أعرضوا بسبق إصرار عن تسليط الأضواء الكاشفة على تلك الأحداث الدامية التي ما كانت لتحدث لولا أوامر أعطاها أكابر الأمنيين. غير أنه جدير بنا أن نذكر أعضاء هذه اللجنة بأن اليوم ليس كالأمس، فإذا كانوا قد أرهقوا أنفسهم في التستر والتكتم، فإن الحقيقة كل الحقيقة قد تجلت في أبشع مظاهرها عبر العشرات من الفيدوات المبثوثة على موقع «يوتوب»، حيث تبين بالصورة والصوت ما عاثته القوات الأمنية في البلاد والعباد من جور وتجاوز وفساد. ثم جاءت بعد ذلك الضربة القاصمة عبر التقارير التي قامت بها بعثات من المنظمات الحقوقية وهيئات من المجتمع المدني التي أتت جميعها بأدلة فاحمة أخرى على همجية القمع الذي تعرضت له ساكنة مدينة إفني المهانة المظلومة. فقد تبين بكل جلاء ووضوح أن عساكر الأمن، أولئك «الفرسان الأشاوس» قد أتوا على الأخضر واليابس، ولم يوقروا لا امرأة عزلاء، ولا شيخا بلغ من الكبر عتيا، ولا مريضا متوجعا، بل لم يرحموا حتى طفلا ما زال رضيعا، ولم ينج من مخالبهم حتى تلك السائحة الإنجليزية التي قادها قدرها العاثر أثناء تجوالها إلى مدينة إفني، فرأت من عساكرنا العجب العجاب... ولا شك أنها سترجع من بلاد الشمس إلى بلاد الضباب محملة بأروع الأمثلة عن كرم الضيافة وأحلى الذكريات عن ديمقراطية أجمل بلد في العالم... وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن عمل هذه اللجنة «الموقرة» أصبح اليوم لا محل له من الإعراب بعد أن طلع الصباح، وشرع الديك في الصياح، وسكتت شهرزاد عن كلامها المباح... أما سكان مدينة إفني، فلهم الله وكان في عونهم، لأن أحداث تلك الأيام السود سوف يبقى وجعها راسخا في أذهانهم بنفس المرارة والألم والعمق الذي حفرت به أسماء بن سليمان والعنيكري والضريس والفاسي على قلوبهم...