على عكس خطابات الأحزاب المعارضة، لم يمكن خطاب الحركة الإسلامية وليد لحظة الإعلان عن فتح باب التعددية، بل حمل معه تجربة عقد من الزمن تميزت في مرحلة أولى بالانحصار في المساجد والدور الثقافية، وفي مرحلة ثانية بالمشاركة في الصراع السياسي والتوسع في الجامعات والنقابات، مما مكن الحركة من اكتساب قاعدة اجتماعية وتطوير خطابها الفكري في اتجاه امتلاك التنظيم والمفاهيم الحديثة التي كانت من احتكار اليسار، فصارت انتقاداتها للنظام في بداية الثمانينيات غير مقتصرة على إثارة قضية عدم انسجام توجهاته مع مقتضيات الأخلاق الإسلامية، ومن ثم مطالبته بإعادة الاعتبار إلى الإسلام كمكون أساسي للشخصية التونسية، بل أصبح ينتقده انطلاقا من داخل مشروعه التحديثي نفسه، أي على خلفية تنكره لمبادئه وأهدافه العامة وغايته المتمثلة في إقامة مجتمع المساواة وبناء المواطن. وبعد المجهود المبذول من أجل وضع الحركة في وضعية قانونية إزاء شروط النظام الخاصة بالسماح بتأسيس الأحزاب السياسية، وكنتيجة لأجواء الانفراج التي خلقتها مبادرة 1981، تقدمت الحركة بطلب ترخيص قانوني لإنشاء «الاتجاه الإسلامي» كحزب سياسي. والملاحظ أنه لم تتردد هذه المطالبة كثيرا في البيانات (10.30 في المائة). ولعل الحركة كانت تتوقع ألا تثير مسألة الترخيص أي إشكال، خصوصا وأنها تمتعت بإمكانية عمل شبه رسمية في الفترة الماضية، لكن رد فعل السلطة كان عكس ما توقعته الحركة، حيث شنت حملة اعتقالات واسعة في صفوف أشخاص يفترض أنهم أعضاء في الحركة بتهمة الانتماء إلى جمعية غير معترف بها، كما حكم على زعيمها بالسجن لمدة 11 عاما سجنا، مما يؤكد أن إعلان النظام فتح باب التعددية لم يكن معبرا عن رغبة في خلق منافسة سياسية حقيقية، فانفتاح النظام لا يمكن اعتباره إلا قبولا شكليا بوجود أطراف جديدة على الساحة السياسية وليس في السلطة، مع ما يتطلبه ذلك من إقصاء أي خصم سياسي قادر على المنافسة الإيديولوجية والانتشار التعبوي. أما بالنسبة إلى الحركة، فبالرغم من أن بياناتها تشدد على التوافق كخيار يندرج في سياق رد إيجابي على مبادرة النظام بالسماح بالتعددية، فإن بعض الكتابات الأخرى تؤكد أن غاية التوافق لم تكن تتوقف عند حدود إنجاح التجربة، وإنما تندرج في استراتيجية عامة للحركة من أجل التغيير الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية، حيث نجد عند زعيم الحركة تمييزا بين مرحلتين: مرحلة بناء المجتمع المسلم، «ومنهاج الدعوة في هذه المرحلة يتلخص في البلاغ المبين والصبر الجميل، كما أوضحته الآيات القرآنية والمرحلة المكية من السيرة النبوية، حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام يصدع بالحق في إبطال العقائد والمفاهيم الخاطئة وما ارتبط بها من مظالم اجتماعية ومفاسد خلقية واستبداد سياسي... متحملا بكل صبر ما يتلقاه من اضطهاد من القوى المضادة لحركة التغيير... فالتوجيهات النبوية لنبذ العنف مع الحرص على الصدع بكلمة الحق تجد تفسيرها لا على أنها دعوة إلى الاستكانة، وإنما دعوة إلى تصحيح المفاهيم وتقويم الموازين مع التسلح بسلاح الصبر الجميل. فإن أثمر عمل التوعية الإسلامية واستجابت الجماهير في قطاعها العريض لهذه الدعوة، قامت للإسلام دولته، وكان على تلك الدولة أن تنفذ حكم الله وتمارس مهامها في نشر العدالة ومنع الظلم بين الناس». فالمنادة بالتوافق الديمقراطي، حسب المقولة السابقة، هو خيار فرضته ظروف الثمانينيات، أي مرحلة بناء المجتمع المسلم، مما جعل منطق الحركة مجرد مطلب مرحلي يهدف إلى تغيير موازين القوى الحالية لفائدة الحركة، ثم التأسيس للدولة الإسلامية فيما بعد. ولما كان هدف إقامة الدولة الإسلامية مطمحا يتجاوز الحدود القومية، فقد جاء في الخطاب مقرونا بدعوة إلى إقامة جبهة توافقية أخرى تجمع هذه المرة الحركات الإسلامية ومختلف العاملين على الدعوة، فحسب الغنوشي «لا مناص لرواد الحركة الإسلامية، إذا أرادوا وضع حد للحرب الدائرة بينهم إلا توفير مناخ من التعايش السلمي يندرج نحو التعاون في ما بينهم في ما هو مشترك يطمح إلى الوحدة والاندماج»، كما يدعو الحركات الإسلامية إلى القيام بمناصرة بعضها البعض كما يقتضي ذلك الواجب الإسلامي، بقطع النظر عن الروابط الإدارية. فهناك، إذن، نزعة أممية إنسانية شاملة، تضع على عاتق الحركة مهام شمولية وكونية أكبر من حجمها التنظيمي وتمثل إعادة صياغة مفهوم الوحدة الإسلامية العابر للقوميات، دون الوقوع في ثنائيات دار الإسلام ودار الحرب التقليدية التي تسود الخطاب الإخواني في المشرق، مما يعكس تأثرا بمفاهيم الثورة الإيرانية. هكذا كانت إقامة الدولة الإسلامية والأممية الإسلامية، كمرحلة لبناء تلك الدولة، غايات دينية سعت الحركة إلى تحقيقها بواسطة ممارسة سياسية توافقية، وهذا يعني أن الديني كان متحكما في السياسي في الخطاب خلال هذه الفترة. فعلى الرغم من النزعة التجديدية التي تميزت بها بيانات الحركة وتصريحات قيادتها، فإنها كانت، وبفعل الانغماس في العمل السياسي، نزعة مبشرة وعامة ولازالت في طور البناء والتأسيس، فطابعها الرسالي التبشيري جعلها مفتقرة إلى تراث نظري مفصل يشتمل على تنظير لعموميات الخطاب وتوجهاته الكبرى. توافق 1984-1987: إثر الأزمة الاقتصادية الحادة التي عرفتها تونس بسبب قرار الحكومة الزيادة في أسعار الخبز عام 1984، حاول النظام التونسي تلطيف الأجواء بإعلانه فتح باب التعددية السياسية من جديد وتحقيق انفراج سياسي، كان من أبرز معالمه إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين. وفي سياق التجاوب مع هذه الخطوة، أعلنت الحركة عن رغبتها في إنجاح التجربة الجديدة ونيتها المشاركة السياسية. وقد عبر الغنوشي عن هذه الرغبة في البرنامج السياسي الذي نشره، بمناسبة الذكرى الثالثة لنشأة الحركة، قائلا: «إنها فرصة فريدة من نوعها في تونس، إذ قامت الحركة -لأول مرة في تاريخها- بالتعبير عن تأييدها بدون تحفظ لمبدأ الديمقراطية، فهي تتعهد بالاعتراف بحكومة نابعة من الانتخابات حتى ولو كانت شيوعية». يظهر من التنظيم الجديد الطابع اللامركزي الذي أصبح يطبع الهيكل التنظيمي للحركة بشكل يجعلها بعيدة عن صرامة التنظيم الحزبي، كما تلاحظ لامركزيتها على مستوى التخصص من خلال توزيع المهام بين الأعضاء داخل الحركة، فلامركزية الحركة وعدم تخصصها هما نتيجة مباشرة لفكرة الفصل المنهجي بين الدين والسياسة التي توجب توزيع المناشط وعدم حصرها في مستويات محددة وجامدة، وبهذا التنظيم تتخذ الحركة وضعية نسق فرعي (Sous système) داخل المجتمع، مما يجعلها قادرة على مواجهة متطلبات المرحلة واحتمالات وجود مواجهة قادمة مع النظام. كما أثرت أجواء التوافق الجديد على خطاب الحركة، فعلى إثر حملات التشكيك في نوايا الحركة لقبول العمل الشرعي والقبول بالتعددية التي قادها النظام في الفترة السابقة، وارتكازه على هذه الشكوك لعدم الترخيص لها، جاء خطاب الحركة في هذه الفترة في صيغة ردود على هذه الاتهامات، مركزة هذه المرة على مسألة الاعتراف القانوني والمطالبة به، انطلاقا من التأكيد على دعم الحركة التام للحرية العامة وقبولها العمل على احترام القوانين الجمهورية، بالإضافة إلى مطالبتها المتكررة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. بالمقابل، كان هناك تراجع للحديث عن الثقافة الإسلامية ومسألة الهوية (10.69 في المائة)، فانخراط الحركة في المجال السياسي ومراوحة وضعية قيادتها بين السراح والسجن لم يوفر لها وقتا للاهتمام بالمسائل النظرية والإيديولوجية، بالإضافة إلى أن الاهتمام بالثقافة الإسلامية في هذه الفترة لم يعد حكرا على الحركة، بل أصبحت تردده معظم التشكيلات السياسية بما في ذلك الحزب الحاكم. كما لم تعد الإشارة إلى الدولة الإسلامية كأولوية من أولويات الحركة تتردد كثيرا، مما يمكن معه اعتبار سنة 1984 بمثابة السنة التي سجل فيها الخطاب الإسلامي التونسي قطيعة مع المرجعية الإخوانية ومع مفاهيم الثورة الإيرانية، ليصل إلى درجة عالية من التكيف مع الخصوصيات المحلية، حيث يمكن الحديث في هذه الفترة عن نسخة تونسية حقيقية للحركة. يتبع... المركز المغربي في العلوم الاجتماعية