زايو على درب التنمية: لقاء تشاوري يضع أسس نموذج مندمج يستجيب لتطلعات الساكنة    العيون.. سفراء أفارقة معتمدون بالمغرب يشيدون بالرؤية الملكية في مجال التكوين المهني    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين بالمغرب    احتجاجات حركة "جيل زد " والدور السياسي لفئة الشباب بالمغرب    حسناء أبوزيد تكتب: قضية الصحراء وفكرة بناء بيئة الحل من الداخل    وفد قضائي وطني رفيع يزور جماعة الطاح بطرفاية تخليداً للذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء واستحضاراً للموقع التاريخي للملك الراحل الحسن الثاني    مؤسسة طنجة الكبرى: معرض الطوابع البريدية يؤرخ لملحمة المسيرة الخضراء    هنا المغرب    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة إلى النهائي بعد تجاوز المنتخب السعودي في نصف النهاية    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    السمارة: توقيع مذكرة تفاهم لتعزيز التسويق الترابي والتعاون الاقتصادي الإفريقي    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    حماس تدعو الوسطاء لإيجاد حل لمقاتليها العالقين في رفح وتؤكد أنهم "لن يستسلموا لإسرائيل"    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسناء أبوزيد تكتب: قضية الصحراء وفكرة بناء بيئة الحل من الداخل
نشر في لكم يوم 10 - 11 - 2025

في سياق سياسي ودبلوماسي متجدّد أعاد وضع قضية الصحراء في واجهة الاهتمام الدولي عقب صدور القرار الأممي رقم 2797 في 31 أكتوبر 2025، الذي تبنّاه مجلس الأمن باعتباره إطارًا مرجعيًا جديدًا للمفاوضات على أساس مقترح الحكم الذاتي المغربي، تكتسب هذه الدراسة التحليلية التي أعدّتها الدكتورة حسناء أبوزيد أهمية خاصة.
فالنص، الذي صيغ قبل التطور الدبلوماسي الأخير الذي عرفه الملف في أروقة مجلس الأمن، يستشرف بعمقٍ تحولاتٍ أصبح كثير منها اليوم واقعًا سياسيًا معترفًا به، إذ يدافع عن فكرة مركزية مؤداها أن الحل الحقيقي للنزاع لا يمكن أن يُفرَض من الخارج، بل يُبنى من الداخل عبر إصلاحات ديمقراطية، وحكامة رشيدة، وإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، وبين الصحراويين أنفسهم.

الدكتورة أبوزيد، وهي برلمانية سابقة وقيادية في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قبل أن يُحوّله الكاتب الأول للحزب إدريس لشكر كما يقول معارضوه بمرارة إلى "ضيعة عائلية"، تنتمي إلى الجيل الذي يزاوج بين التجربة السياسية والرؤية الأكاديمية النقدية. ومن هذا المنطلق، يطرح مقالها مقاربةً فكريةً تتجاوز الاصطفافات التقليدية، وتُعيد مساءلة الثوابت"المجمدة" التي حكمت مواقف أطراف النزاع منذ عقود، معتبرة أن تجاوز المأزق يتطلب استعادة الفعل من الداخل، وفصل القرار الوطني عن رهانات القوى الكبرى وبورصات "الأصدقاء" التي صادرت زمام المبادرة من أبناء المنطقة أنفسهم.
بهذا المعنى، لا تبدو إعادة نشر هذا المقال مجرد استعادةٍ لنص فكريٍّ أكاديمي، بل إضاءةً ضروريةً في لحظة مفصلية؛ لحظةٍ باتت فيها الأمم المتحدة نفسها تكرّس المقاربة الواقعية التي طالما دافعت عنها الكاتبة: حلٌّ ينبع من الداخل، يزاوج بين الديمقراطية والتنمية، ويعيد للوحدة المغاربية معناها كفضاءٍ للتكامل لا كساحةٍ للصراع.
وفي ما يلي نص المقال:
الو حدة المغاربية وقضية الصحراء …!
تفضّل الأستاذ المحترم مصطفى بوعزيز، رئيس مركز الأبحاث والدراسات محمد سعيد آيت إيدر، بدعوتي للمساهمة في العمل الفكري الذي يحتضنه المركز حول موضوع الوحدة المغاربية وقضية الصحراء، وتوصلت بخلاصة تركيبية لمساهمة مقدّرة لمجموعة من الأساتذة من أقطار مغاربية متعددة.
يتمحور النص التركيبي حول فكرتين محوريتين تتفاعلان حول إشكالية أساسية: الفكرة الأولى تتمثل في أهمية الوحدة والاندماج المغاربيَّين وعمق الوعي الجمعي بهما، أمّا الثانية فتدور حول المعيقات والمثبطات ذات الطابع السياسي، التاريخي، والثقافي إقليميًا، قارّيًا ودوليًا. أمّا الإشكالية فتطرح الوحدة المغاربية كحلٍّ ممكنٍ لنزاع الصحراء الغربية، الذي ينتصب – حسب النص التركيبي – شامخًا، وتقترح المقاربة التاريخية زاوية مغايرة لتحليل أسباب النزاع حول الصحراء.
وبقدر ما تتكاثف الدوافع الوجدانية بصروحها الجامعة تاريخيًا وثقافيًا، والمحفّزات الاقتصادية بآفاقها التنموية قارّيًا ودوليًا من أجل بناء مغرب المغاربيين، بقدر ما تتعنت المثبطات الموضوعية، الإقليمية منها والدولية، والصراعات السياسية والإيديولوجية لتعطّل انعتاق المغاربيين من قبضة التفرقة.
فكيف يا ترى يمكن أن تسعف حكمة التاريخ في فضّ الاشتباكات السياسية والإيديولوجية، المعلومة منها والمجهولة، ونزاع الصحراء أنموذجًا، لتنتزع من الواقع الجسورَ حيزًا للحق في الطموح؟
ارتأيت أن أركّز في قراءتي للعمل على نزاع الصحراء، لأنّ أصله وأسبابه وتطوراته، كما سياسة الأطراف في تدبيره، تشكّل مرآة كاشفة ليس فقط لخلفيات الصراع المغربي–الجزائري بشكل عام، لكن أيضًا للمداخل السالكة في اتجاه تذويبها، وبالتالي تساعد في تفكيك أسباب الإيقاف الإرادي لمشروع الوحدة المغاربية.
سأحاول توضيح بعض المنطلقات التي سأعتمدها في محاولة بسط هذه المقاربة، والتي تدور حول فكرة "الحلّ من الداخل" كمنطلق لحلّ النزاع. وسأنطلق أولًا من ضرورة تسطير المسافة الآمنة من هيمنة النظام العالمي وميركنتيلية بورصات "أصدقاء" المغرب و"أصدقاء" الصحراء، لتمنيع دينامية التحليل ضد المنزع الاستسلامي الذي يفوّض إرادة التقدّم في الحلّ لقانون اليد العليا المهيمنة، القابضة على مصائر الأنظمة ومصائر الشعوب في طور النموّ الديمقراطي.
لذلك سأحاكي حالة – مع الأسف – غير واقعية، تقوم على تحجيم سيطرة القوى الدولية الكبرى على مسار ملفّ الصحراء، وذلك لأجل تحويل وجهة اهتمام المهتمّين والخبراء إلى أهمية قضايا الداخل غرب وشرق الجدار الأمني، في تشكّل الوعي والبيئة اللازمين للحلّ في قضية تأسست على تعارض، بل وتناقض مفتعلين بين حقّين أعتقد أنّهما متكاملان ومتداخلان، وهما: حقّ الدول في الدفاع عن وحدة أراضيها، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. وهو تكامل وتداخل مشروط باستدماج المشروعيات لقيمة الديمقراطية، بالشكل اللازم والمؤمِّن لتفويض الشعوب بشكل إرادي وشرعي لأنظمتها، لتقرير مصيرها فوق أراضيها وفي احترام لحقوقها.
سنحاول تسليط الضوء على علاقة المرجعيات التاريخية – أو ما سأطلق عليه "الثوابت التاريخية" – في طرح كل طرف على حدة لنزاع الصحراء، بالسياقات التاريخية لتشكّل أنظمة ما بعد الاستقلالات، ليس بهدف إثبات العلاقة، بل بهدف إخضاعها لإمكانية التغيّر بحكم التحوّلات السياسية والإيديولوجية الكبرى التي عرفها العالم.
فكرة "الحلّ من الداخل" كخارطة لبناء الحلّ السلمي النافع تفيد التمكين من أدوات إنضاج شروط الحلّ، وعلى رأسها تحسين مستوى فعل الدولة بما هي الفاعل الرئيسي، وتأطيره بمعايير الحكامة السياسية والاقتصادية والثقافية، وإعادة النظر في المقاربات الملغومة التي تتعنت وتنازع في تداخل الاقتصادي والسياسي. إذ أرى أن مقاربة ملفّ الصحراء كسياسة عمومية ستدشّن مرحلة مهمة في بناء بيئة الحلّ وفي تطوير دور المعنيين بملفّ النزاع.
وأود أن أوضّح أنني أعرّف الدولة الجزائرية والدولة المغربية كطرفي النزاع في ملفّ الصحراء، ليس من باب الانسياق وراء الأطروحة التي تُنكر على الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) شرعية تمثيلها لفصيل من الصحراويين الطامحين إلى انفصال/استقلال الصحراء، ولكن لأن إدراجها كطرف يمثّل كلّ الصحراويين من شأنه أن يحجب حقيقة كون فصيل مقدّرٍ من الصحراويين يعتبرون أنفسهم مغاربة وأرضهم جزءًا لا يتجزأ من المملكة المغربية، وبأدلّة تاريخية ووثائق تثبت الروابط السيادية.
بالإضافة إلى أن فكرة "الحلّ من الداخل"، التي أحاول الانطلاق منها، تنبني بالأساس على تمتين صرح الثقة عموديًا وأفقيًا، وأحد أهمّ مداخلها القطع مع المشوّهات الموروثة عن الحروب الدبلوماسية وتداعياتها الإعلامية، وأهمّها آلية إنكار الانتماء المتبادل بين الطرفين الصحراويين في صراع تنازع شرعية تمثيل الصحراويين.
وكي لا تبتلعنا الأحداث والوقائع التاريخية بتأويلاتها المتعددة وحمولاتها المتقلّبة وسردياتها المنتقاة، وفي تجنّب مؤقت وإرادي ليد النظام الدولي في توجيه دفة اختيارات وتوجّهات الأنظمة، سنحاول التطرّق لما سلّمت به ذاكرة التاريخ وثبّته التواتر كمواقف للدولتين المتصارعتين بشأن الصحراء والصحراويين.
المحور الأول: إعادة النظر فيما أطلق عليه التاريخ "المواقف الثابتة" للطرفين التقليديين في الصراع: حقّ الحفاظ على الوحدة الترابية وحقّ تقرير المصير حقّان متكاملان ومنسجمان، وليسا بالضرورة متعارضين.
تشكل دولتَا الجزائر والمغرب الطرفين التقليديين، أو الوريثين الرسميين لتجاوزات المِشرط الاستعماري فوق الجغرافية المغاربية، التي غرست أهمّ خناجر التفرقة في خاصرة مشروع الوحدة المغاربية كأفق منطقي للزخم التحرّري المشترك، ووصمت وجه مغارب ما بعد الاستقلالات. فدشّن نزاع الصحراء، المستعمَرة من قبل إسبانيا (1880-1975)، أشرس المواجهات بين الشقيقين المغاربيين.
انطلق المغرب من أن للروابط التاريخية، من بيعة ومراسلات إدارية، ومعاملات اقتصادية، وانسجام قضائي، مترتّباتٍ سياديةً للسلطة المركزية في المغرب على الصحراء في جنوبه، وأن هذه الروابط نُسجت مع الصحراويين في مختلف المناطق. في المقابل، اعتبرت الجزائر أن مستقبل الصحراء لا يمكن أن يُدبَّر خارج خطاطة التاريخ الاستعماري وتداعياته الجغرافية والبشرية، اعتبارًا ل"مبدأ" عدم المساس بالتركة الاستعمارية، وأن في مطالبة المغرب بالصحراء في جنوبه تراميًا يتنافى مع حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. واعتبرت، تبعًا لذلك، أن من أحصتهم السلطة الاستعمارية الإسبانية كساكنةٍ للصحراء "الإسبانية" هم المعنيّون – دون غيرهم من الصحراويين – بالتمتّع بحقّ تقرير المصير لتفعيل مسلسل تصفية الاستعمار.
فاستجاب البلدان، الجزائر والمغرب، بخلفيات متناقضة، لمنطوق القرار الأممي في سياق الزخم التحرّري الذي طبع مرحلة الاستقلالات، أو بالأصحّ تشكّل أنظمة المغارب المستقلة، فحكمت هذه الخطاطةُ صيرورةَ ملفّ الصحراء، وتحكّمت في مصير الصحراويين، كما دشّنت مرحلةً جديدة في علاقة الجزائر بالمغرب وجعلت الشقاق عنوانًا لها.
ولعلّ السياق السياسي والإيديولوجي الذي احتضن تشكّل أنظمة مرحلة ما بعد الاستقلالات أثّر بشكل جليّ في خلق التعارض، بل والتناقض، بين حقّين متكاملين يوَطّدان علاقة الأرض بالإنسان، ويربطان وحدة الأراضي بإرادة الساكنة وباحترام حقوقها.
واعتبارًا للتحوّلات العميقة والمتسارعة التي شهدتها خريطة القطبية في العالم، والتي يُفترض أن تطوي حقبة التعارض والتناقض لتدشّن زمن التكامل البنّاء بين الحقّين أو المبدأين، يتكامل – في اعتقادي – بل ويتداخل حقّ الحفاظ على الوحدة الترابية وحقّ تقرير المصير في شروط محدّدة يمكن إجمالها في مدى استجابة المشروعية لشرط الديمقراطية.
وليس بمستغرَب أن ترتهن ذات الإشكالية وتمثّلاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية للوضع السياسي الداخلي في كل الأقطار المغاربية، وأن تتحكّم في التوجّهات والاصطفافات الخارجية، بعد أن أخفقت المشروعيات التاريخية في اختبار الديمقراطية وتمثّل حقوق الأفراد. فمطالبة الدول باستكمال وحدتها تُستمدّ أساسًا من تعبير شعوبها عن تمسّكها بحقّها في أراضيها، مفوِّضةً سلطةَ الذود من أجل استكمال السيادة والتحرّر من نير الاستعمار لحركاتها التحرّرية أو لشرعياتها التاريخية، سواء كانت سياسية أو دينية.
وهذا ما عبّرت عنه شعوب الأقطار المغاربية في نضالاتها ضدّ الاستعمار في مرحلةٍ معينة، وهو نفسه ما دفعت به داخليًا القوى الحيّة في مرحلة ما بعد الاستقلالات في مطالبها التاريخية بالديمقراطية، وبتوضيح بنود صكّ التعاقد بين الأنظمة والأرض والشعب. وهي نفس المفاهيم التي تؤطر التحوّلات التي انخرطت فيها – ولا تزال بأشكال وسرعات متباينة – دولُ المغرب الكبير، وبمسميات مختلفة.
إذ تشي عادةً وضعيّات التعارض أو التناقض بين الحقوق أو بين القيم المتعارف عليها بارتباكاتٍ أو اضطراباتٍ في الحمولة الديمقراطية للمشروعية، التي تطوّر مفهومُها من رهان امتلاك السلطة إلى رهان القدرة على الفعل بالسلطة، ثمّ إلى حسن الفعل بالسلطة.
وهنا بالضبط، يسعف التحليل من الزاوية التاريخية في فهم تأثير السياقات على بناء مرجعيات المواقف "التاريخية"، وأثر الاختيارات الإيديولوجية والسياسية في بلورة مواقف كلٍّ من الطرفين، ليس فقط بهدف إعادة النظر في "الثوابت" التاريخية التي أطّرت المواجهات الجزائرية–المغربية في تأويل المنزع الأممي في مساكنة حقّ الحفاظ على الوحدة الترابية وحقّ تقرير المصير، بل أساسًا بهدف استشراف المستقبل، بعد أن جرت كثير من المياه تحت الجسر، وأخفقت السلطويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في امتحان ضمان الاستقرار والتنمية العادلة والكافية، وفي كسب ثقة الشعوب.
المحور الثاني: توقّع مآلات النزاع حول الصحراء مرتبط بتشكّل بيئة الحلّ
تقتضي قراءة مستقبل النزاع حول الصحراء فهمَ ممارسة كلّ طرفٍ لسلطته على حيّزه من الأرض والساكنة، ومدى جاهزية الأطراف للتوصّل إلى الحلّ الضامن للاستقرار والأمن والتنمية.
تتجاوز رقعة النزاع الفعلي حول الصحراء الحدودَ الجغرافية المصنَّفة أمميًا كأراضٍ غير متمتّعة بحكم ذاتي، لتدمج في أبعادها الجيوسياسية وتأثيراتها الجيوثقافية، بالإضافة إلى أراضي استقبال مخيمات الصحراويين/الصحراويات – لاجئين، نازحين، مهجّرين أو مختطفين – وكذلك مجالات التنقّل التلقائي العابرة للحدود، والمناطق المغربية الصحراوية المحاذية شمالًا للصحراء.
كما تتجاوز بالتالي الشريحةَ البشرية المتأثرة بشكل مباشر بالصراع، أي سكان الصحراء أنفسهم الموزّعين على جغرافيتين وقناعتين، وحول تقديرين متباينين للأمن والاستقرار والتنمية والمصير، لتشمل امتدادات بشرية تتجاوز الرقعة المتنازع عليها. لا نودّ بإشارتنا لمسألة الرقعة الفعلية للنزاع والشريحة البشرية المتأثرة به أن نخوض في أسباب هذا التفاعل، التي يمكن إجمالها في تفوّق المحدِّد القبلي على المحدِّد الجغرافي في حسم سؤال الهوية كما طُرح خلال مسلسل التسوية، بقدر ما نؤكد على ضرورة استحضار الامتداد الجغرافي والبشري الواقعي والفعلي لصحراء النزاع كمحدّد من محددات السياسات العمومية المؤثّرة في عملية بناء بيئة الحلّ، مما يتطلب – في اعتقادي – الوقوف على مسألة التدبير "الداخلي" للأرض والمعنيين من كلا الطرفين.
تكمن أهمية التطرّق إلى السياسات المتّبعة من قبل كلّ طرف على حيّز نفوذه في إمكانية توقّع حجم الفعل الإرادي الممكن في صناعة الحلّ – دائمًا بمعزل عن التوازنات الدولية وعن اللامتوقّع في النظام العالمي – وفي استقراء مدى جاهزية الأرض والساكنة موضوع النزاع للمساهمة الإرادية في الدفع نحو الحلّ السلمي النافع، وليس فقط الحلّ السياسي الدائم والمتوافق بشأنه.
وأودّ أن أوضّح أنّ التطرّق للسياسات المتّبعة يفيد هنا محاولةَ بسط بعض ملامح السياسة المغربية في الصحراء، ورصد – قدر المتاح – تحوّلاتها وتطوّراتها منذ حدث المسيرة الخضراء، ومحاولة ربطها بأفق الحلّ السلمي النافع، مع الوقوف على السياسة الجزائرية في تدبيرها لمنظمة جبهة البوليساريو كممثّل لفصيل من الصحراويين المقيمين بمخيمات اللجوء وأرض الشتات، والمطالبين بانفصال/استقلال الصحراء.
لن نقف طويلًا عند المرحلة الأولى التي دشّنتها الإرهاصات الأولى للوعي التحرّري الشعبي في المنطقة، والتي تمتدّ من أواخر الستينيات إلى نهاية الثمانينيات، والتي احتكرت الآلة الأمنية القمعية خلالها فعل الدولة لدى الطرفين. فاستشرت الاعتقالات خارج القانون، والمتابعات غير العادلة، وممارسات التعذيب في حقّ النشطاء السياسيين من الجانبين، وانفجرت المواجهات العسكرية الضارية، كما انتُهكت حرمات المدنيين في هجماتٍ نُفّذت خارج رقعات المعارك.
لنقف إذًا على خصائص المرحلة الثانية، التي شهدت توقّف إطلاق النار وتحقيق أول نجاح فعلي لمساعي الأمم المتحدة سنة 1991، والتي ستعرف تحوّلاتٍ مهمة. ففي المغرب، ستنعكس مرحلة الانفراج – التي سينخرط فيها المغرب بغير قليل من التردّد – على سياسته في الصحراء، وسيُعتبر الإفراج عن المعتقلين السياسيين والانخراط في مسلسل التسوية تحت إشراف الأمم المتحدة عنوانين لدينامية جديدة على مستوى المناطق المتنازع عليها.
وهي المرحلة التي ستتمايز فيها المقاربتان المغربية والجزائرية بشكل واضح؛ فبينما ستغرق الجزائر في قلاقل العشرية الدموية، ستتبنّى الدولة المغربية خيار التنمية الاقتصادية والبشرية، وتقوية البنى التحتية والوحدات الاستثمارية، وستضاعف مجهوداتها للاستجابة للرهانات الجديدة المرتبطة بعاملين اثنين:
أولهما، تأثير التغيّرات المرتبطة بالتركيبة البشرية على تشكّل وعي جديد لدى الساكنة (شريحة العائدين، المعتقلين السياسيين، وساكنة مخيمات الوحدة).
وثانيهما، الحسم في مراجعة المقاربة الأمنية وتأمين الشروط الصحية للانفتاح السياسي في المنطقة، خصوصًا تحت ضغط التحوّلات التي طالت حلبة الصراع، والتي تجاوزت السجال القانوني في المنابر الدولية والقارية لتطرح سؤال اختبار تدبير الأرض واحترام حقوق الساكنة وحسن تدبير الثروات.
وتجدر الإشارة هنا إلى المنعطفات الإيجابية التي عرفتها سياسة تدبير المغرب لشؤون هذه المناطق على المستوى المؤسساتي بالأساس، والتي تؤشّر على تحوّلٍ عميق قد يعوزه التواتر ليؤسّس لفلسفة جديدة في التناول، إلا أنه يحمل دلالاتٍ على طبيعة التغيير الذي – ربما – طال عقل الدولة بهذا الشأن.
ويتعلق الأمر بدينامية انخراط المؤسسات الدستورية في المساهمة في التفكير المعقلن للفعل على مستوى الصحراء، إذ ساهمت اللجان الجهوية للمجلس الوطني لحقوق الإنسان في الصحراء في طرح مسألة احترام حقوق الإنسان في هذه المناطق، كما نجحت لغة الحقيقة التي طبعت تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بشأن تقييم النموذج التنموي في المناطق الجنوبية في ترميم – ولو بشكل جزئي – الثقة في المؤسسات. كما شكّل المقرّر القضائي بشأن منح الجمعيات الحقوقية "المعارِضة" حقّ الممارسة أحد المعابر المهمة لمرحلة مفهومٍ جديدٍ للتدبير، يقوم على فاعلية أكبر للفعل المؤسساتي الداخلي في تقوية الطرح المغربي، وتخفيف احتكار الشقّ الدولي والدبلوماسي لسلطة التفكير ولأدوات الفعل في قضية الصحراء.
وذلك بما يفيد أهمية عقلنة وحوكمة تدبير الملفّ بمقاربته كسياسةٍ عمومية يُفترض أن تستجيب لشروط التفكير العقلاني والشفاف، وتخضع لآليات المحاسبة القانونية والسياسية.
إلّا أن جملةً من العوامل ذات الطابع البنيوي ساهمت في تعقيد عملية انعكاس المجهود التنموي على إنعاش الفعل السياسي والمدني "الحقّ" لدى المعنيين في الصحراء. ويمكن إيجازها في أسباب مرتبطة بحالة الانحباس السياسي العام بعد استهلاك مختلف الوصفات الإصلاحية من تعديلاتٍ دستورية وتناوباتٍ سياسية، والتداعيات المنطقية المرتبطة بها والمتمثّلة في اهتزاز الثقة في نجاعة الإرادة المعبر عنها في ترشيد الفعل العمومي بشكل عام بمداخله المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية.
وأخرى تهمّ مظاهر إسقاط الوضع السياسي العام على مناطق النزاع والإشراف الأممي، ولعلّ أبرزها انتقائية التأطير السياسي والمدني على مستوى المنطقة المعنية بالنزاع، والتنصّل الإرادي للنخبة السياسية – حزبية كانت أو إدارية أو اقتصادية أو مدنية – بالإضافة إلى الأكاديميين والمثقفين من مسؤولياتهم الأخلاقية والفكرية في مواكبة الفعل التنموي للمساهمة في صقل الوعي الجمعي وبناء مجتمع الثقة وسيادة القانون والمساواة أمامه، وربط المسؤولية بالمحاسبة. وباختصار، بناء بيئة الحلّ بمداخلها الأساسية: الأمن السياسي، والأمن القيمي، ومجتمع الثقة والمواطنة.
أما فيما يخصّ الجزائر، فقد أرخت المرحلة العصيبة التي عاشتها طيلة العشرية الدموية بظلالها الثقيلة على الدولة والمجتمع، وهي المرحلة التي أجهضت "الثورة الثانية" المتعلقة بالتعدّدية السياسية والانفتاح الاقتصادي، وطوّعت مخرجاتها، وساهمت في تقويض مساحات التقدّم في حلّ النزاع ووضع حدٍّ لمعاناة ساكنة مخيمات تندوف. فباستثناء الانخراط في المبادرات الأممية، لم يتحلحل الموقف الجزائري عن "ثوابته" التاريخية، في تجاهلٍ إرادي للتحوّلات الكبرى التي عاشها المجتمع الصحراوي في مخيمات اللاجئين بتندوف على ضوء التحوّلات الإقليمية والدولية.
لقد دشّن إبرام اتفاق وقف إطلاق النار وانطلاق مسلسل التسوية مرحلةً جديدة من مساءلة الذات والمشروع، ومحاسبة الاختيارات، والتطلّع نحو مستقبل محفوفٍ بالصعوبات والرهانات البشرية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي والأمني. كما ساهمت عطالة الإيديولوجية الحربية في طفو الخلافات والصراعات الشخصية والسياسية على سطح المشهد، مما أفضى إلى مرحلة "نزوحٍ معاكس" نحو المغرب هذه المرة، بعودة بعض قيادات الجبهة ومجموعات من الصحراويين من ساكنة تندوف إلى المغرب.
وبتزامنٍ مع المبادرات الأممية المختلفة والمتعلقة بمخططات ومقترحات المبعوثين الشخصيين لمختلف الأمناء العامين للأمم المتحدة، غيّرت الجزائر رقعة المعركة ومفرداتها، فشكّل ملفّ احترام حقوق الإنسان واستغلال الثروات في الصحراء غرب الجدار الأمني العنوانين العريضين لمعارك دبلوماسية وقانونية جديدة، كما تبنّت حراكاتٍ لنشطاء حقوقيين مؤمنين بطرح جبهة البوليساريو غرب الجدار.
أعتقد أنّه يجدر بنا الوقوف عند استراتيجية الدولة الجزائرية في تطويق السؤال الداخلي في مخيمات تندوف، وتجاهل المطالب التصحيحية التي ما فتئت تصدر عن مستويات مختلفة داخل جبهة البوليساريو، محذّرةً من مسلسل انزياح قيادة الجبهة عن الخطّ التأسيسي والمبادئ الأمّ، وتعنتها في وجه حتمية التغيير والدمقرطة التي تمثلها مطالب إعمال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، في تعارضٍ صارخٍ مع حقّ ساكنة المخيمات في تقرير مصيرهم هنا والآن، قبل أن يكون هناك وغدًا.
فقد خبا الوهج التقدّمي الذي كان يعكسه بوضوح الزخمُ الطليعي للشباب الصحراوي الطموح، الذي وجد في المدّ التحرّري الثوري ضالّته، وفي الاشتراكية والقومية حاضنته الفكرية. وقُتلت أسئلةُ التشبيب والدمقرطة والتداول السلمي على السلطة وحرية التعبير الموجبة للتفاعل، فيما ترهّلت الفكرة التحرّرية بين فكيّ "سلفيةٍ نضالية".
وهنا أودّ أن أشير إلى تصوّرٍ طرحته في ندوةٍ حول موضوع الصحراء نظّمتها مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد يوم 9 يناير 2014، أدفع فيه بأولوية حماية مكوّن البوليساريو من فعل الزمن ومن فعل التدبير المفوّض للجزائر، لأنّها – جبهة البوليساريو – في صيغتها المستقلة والعقلانية يمكن أن تُسهم بشكلٍ بنّاء في مناقشة المقترح المغربي المتعلق بتمتيع المناطق الصحراوية بحكمٍ ذاتي، شرطَ توفير ضمانات الثقة.
المحور الثالث: الحلّ في بناء الثقة بين مختلف الأطراف
وفي اتجاهات أفقية وعمودية: الثقة بين الدولتين، وثقة الدولتين في الطرفين الصحراويين، وثقة الصحراويين فيما بينهم، والحكم الذاتي الثقافي أحد أهمّ مداخلها.
لا أعتقد أنّ هناك حاجةً للتأكيد على دور الثقة في تقوية فعالية الإرادة السياسية، ولا على نجاعة الثقة في تمتين صرح الانتماء والمواطنة وبناء المؤسسات. كما لا أرى ضرورةً للتفصيل في مظاهر استفحال أزمة الثقة بين الدولتين الطرفين، وبين كلّ دولة على حدة وصحراوييها، وبين الصحراويين غرب وشرق الجدار أنفسهم.
ولا أدّعي امتلاكي وصفةً لتجسير هوّة الثقة بين الدولتين، فالتاريخ القريب في جوارنا الأوروبي والإفريقي زاخرٌ بالوصفات الناجحة التي نبتت في رحم الإرادة الحقة والبيئة الديمقراطية. لكن يجدر – في اعتقادي – التطرّق إلى إشكالية الثقة بشكلٍ يستحضر مختلف الأنساق، على الأقلّ في مرحلةٍ أولى، مع التأكيد على بعدها العمودي بالأساس، والمتعلق ببناء أواصر الثقة بين كلّ طرفٍ على حدة وامتداداته الصحراوية.
في هذا النسق بالذات، يتجسّد بناء الثقة بين كلّ طرفٍ وامتداداته الصحراوية في مدى استيعاب خصائص وقيم المجتمع الصحراوي واستدماجها من خلال المقاربات المنتهَجة في تدبير شؤون الصحراء، بالإضافة إلى ضمان الإشراك الفعلي للمعنيين، لا إشراكهم في تنفيذ القرارات فحسب.
فممارسةُ السلطة في الصحراء لها أنماطٌ متعددة، توثّقها مختلفُ أدوات التأريخ، لأنّ الصحراء لم تكن قطّ أرضًا خلاءً من شرعياتٍ تاريخية، أو قوى سياسية واقتصادية ودينية تشكّل أرضيةً صلبةً لسوسيولوجيتها السياسية، كمرجعٍ أصيلٍ مفترض لكلّ السياسات الترابية. ومن شأن تنشيط أدوات التحديث أن يُسهّل الانخراط السليم في منظومة المواطنة كبيئةٍ سليمة لتطوّر الحلّ.
إنّ الأمر – في اعتقادي – يقتضي تبنّي تصوّرٍ لمنظومة حكمٍ ذاتيٍّ ثقافيّ يخفّف من وطأة الاختيارات الممركزة التي أملتها إكراهات ورهانات ما بعد الاستقلال، وضغوطات النزاع من جهة، ومن جهةٍ أخرى يُمنّع الاختيارات السياسية المصيرية من تحرّش التقوقعات الهويّاتية.
لقد تطوّر المغرب في تدبيره لدور الصحراويين في النزاع حول الصحراء بعد عقودٍ مكلفةٍ من التردد، فقد أعلن ملك البلاد في خطاب افتتاح البرلمان لسنة 2013 أنّ منتخبي المناطق الجنوبية هم الممثلون الشرعيون لساكنة هذه المناطق، ولعلها خطوة تمهيدية لإشراكٍ فعليٍّ للصحراويين في التفكير بمستقبل المناطق المتنازع عليها.
في المقابل، يُنتظر من الجزائر أن تأخذ بعين الاعتبار حتميّة التغيير ووقعه الإيجابي على عملية تطوير فكر جبهة البوليساريو، وملاءمته مع أسئلة الحاضر ومختلف رهاناته، لتكون شريكًا فعّالًا في التفكير البنّاء لمصلحة الصحراويين واستقرار المنطقة.
ليس الصحراويون شعبًا بمفهوم الخلفية الإيديولوجية التي وُظّف بها الطرح في النزاع حول الصحراء، وقد لا يكونون شعبًا بمعايير الاصطلاح الدولي المتعارف عليه نظريًا وواقعيًا. إلا أنّ انصهار الخصائص الثقافية في حرارة النزاع حول الصحراء – في سياقٍ سياسيٍّ متخاصمٍ مع التعددية الثقافية – نسج نوعًا من التكثّل التاريخي واللغوي والقيمي والثقافي والجغرافي، الذي تكاثف بدوره مع انصرام عقودٍ من الصراع في قالبٍ هويّاتيٍّ جامعٍ للمنتمين إلى الرقعة المتنازع عليها بامتدادها الفعلي والواقعي.
وإذا كان لا المجال ولا الاختصاص يسمحان بتفكيك خصائص وأبعاد هذا التشكّل، فإنّ ما يهمّنا بالأساس هو تسليط الضوء على أهمية الأخذ بعين الاعتبار تأثير الهوية المشتركة في تدبير أدوارٍ جديدة للصحراويين في ماكينة الصراع، خصوصًا أنّ مرحلة "الرشد" – إذا صحّ هذا التوصيف – التي يفترضها عمر الصراع وضراوته وكلفته، يجب أن تتجاوز توظيف أداة إنكار الانتماء المتبادل بين الطرفين الصحراويين في صراع تنازع شرعية تمثيل الصحراويين، خاصة بعد أن تراجع خيار تنظيم الاستفتاء أمام تعذّر الإجابة على سؤال: من هو الصحراوي/الصحراوية موضوع الاستشارة؟
وهنا تظهر جليًا جدوى بناء الثقة السياسية بين الصحراويين كمرحلةٍ تالية لما يجمعهم من انتماءٍ سيبقى عزيزًا رغم الاختلافات السياسية الجذرية، من أجل بناء الحلّ السلمي النافع الذي يرتفع بالطموحات عن الذاتيات بمختلف مستوياتها؛ نفعية، قبلية، سياسية أو "ولاءاتية".
وأعتقد أنّ التركيز على الجامع الهويّاتي بين الصحراويين في الضفتين، ضمن شرط البيئة الحاضنة للحلّ، كفيلٌ بإنتاج الطموح الجماعي نحو الخلاص، واختيار الاستقرار والتنمية.
الخاتمة: نحو فلسفة الحل من الداخل
إنّ فكرة الحلّ من الداخل، بما هي فلسفة مغايرة في تناول ملفّ النزاع حول الصحراء، تُعتبر مآلًا طبيعيًا لتراكماتٍ تقويميةٍ انخرطت فيها الأنظمة والنخب في ثنائية التقدّم والتراجع عبر عقود، وانعكست بقوة على سياسات الأطراف في تدبير قضية الصحراء وتدبير مستقبل المغرب الكبير.
ولهذا، فإنّ التجسيد العملي لإرادة التوجّه نحو حلّ نزاع الصحراء – وعبره حلّ عقدة العلاقات المغربية الجزائرية – ينطلق من قدرة كلّ طرفٍ على استيعاب التحوّلات التي تعتمل داخله، وحسن تشخيص أعطابه، والتمسّك بمحدّداتٍ جديدة للمشروعية.
إنّ دور الأنظمة في مجتمعاتنا أهمّ وأعقد – في اعتقادي – من أدوارها ومسؤولياتها في المنظومات الديمقراطية، إذ بفعل هيمنتها على أدوات الفعل والتأثير أضحت تحتكر صناعة القيم في مجتمعاتنا. وإذا سلّمنا بأنّ بلداننا تتعثر على طريق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بفعل تآكل رأسمالها اللامادي، فإنّ الرهانات الكبرى التي ترفعها الدول – من تنميةٍ وديمقراطيةٍ وتحديث – لن يتحقق أيّ منها إلا بالانخراط الجادّ والفعلي للأنظمة في إنعاش قيم الانتماء، والنزاهة، والتضامن، والشفافية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.