أميل إلى الاعتقاد بأن المبدع العربي، اليوم، يواجه إشكالية ذات مستوييْن: يتصل الأول بهذه الحالة الثورية التي أوقدت شرارتها جموع الشباب المتعطشة إلى التحرر من الاستبداد وبناء مجتمع الصراع الديمقراطي، وهو مستوى يكتسي صفة الإلحاح والاستعجال، ويقتضي من المبدع الانخراط والمساندة مثله مثل بقية المواطنين، إذ هو الشرط الأول لعودة المجتمعات العربية إلى مسار التاريخ، ومحجّة الديمقراطية. والمستوى الثاني، يتصل بوضعه الاعتباري الذي يجعل منه مبدعا منتميا إلى الإبداع الكوني الذي يضطلع بعبء إضفاء المعنى على عالم تتهدّد قيمه العولمة الربحية وضغوطُ حوامل التعبير التكنولوجية الخادمة للسوق والمستجيبة لمنطق الصناعة الثقافية. وأنا أرى أن السؤال الجوهري الذي يواجه المبدع العربي هو نفسه السؤال المطروح على جميع المبدعين، لأن حالَ العالم، راهنا، تشطر المبدعين إلى صنفين: منْ يربطون الإبداع برغائب التسلية وتزجية الوقت ويتصادون مع متطلبات السوق، وفي المقابل، منْ يعتبرون الإبداع، إلى جانب توفير المتعة وجمالية الشكل، وسيلة لتحريك الفكر والوجدان وإضاءة موقع الإنسان في هذا العالم المضطرب أكثر فأكثر. من هذه الزاوية، يكون السؤال المشترك المتصل بموقف الإبداع من التاريخ هو: كيف يستطيع الإبداع، وسط التحولات التاريخية الخاصة والعامة، أن يمارس ثورته التي تضيف وتعمق الحراك السياسي والمطالب الاجتماعية؟ أو بعبارة أخرى: كيف يستوعب الإبداع تحولات العالم وهو يجابه انهيار الأفق الطوبوي وعودة الطائفية، واشتعال الحروب والكوارث، وسيادة القلق والاكتئاب؟ أسئلة عويصة لا نملك إجابة عنها خاصة في هذا الحيز المحدود، ولكن يمكن أن نغامر بالقول إن تاريخ الإبداع يشير إلى أن من أهم الأسباب الكامنة وراء تحولات الفن والأدب، ووراء حدوث انعطافات «ثورية» داخل مسار الإبداع، إنما يعود إلى علاقة المبدعين ب»الحقيقة» وإلى نظرتهم الشخصية التي يعتمدونها لصياغة رؤيتهم إلى العالم وتصورهم للحقيقة الخاضعة للنسبية والتبدل. ويمكن أن نستدل على ذلك بكون حركات الطليعة المتعاقبة والمتعاصرة، في الرسم والموسيقى والمسرح والأدب... (الدادائية، السريالية، التكعيبية، التجريدية، المستقبلية، الرواية الجديدة...)، هي حركات تقوم على نوع من القطيعة مع تقاليد وأساليب تظل مشدودة إلى الماضوية والمحاكاة الحرْفية واختزال الحقيقة المتشعبة باستمرار.. بطبيعة الحال، قد تكون وراء هذه القطائع الفنية الطلائعية أحداث وتحولات تاريخية وسياسية، لكن «الثورة» الإبداعية التي تحظى بالاعتبار هي التي تأتي من داخل حقل الإبداع وبتفاعل مع تاريخه وردود فعل صراع المنتمين إليه. غير أن هذه الانعراجات «الثورية» في مجالات الإبداع المختلفة لا تكتسي، عند التدقيق، طابعا «جماعيا» ولا تعتمد طرائق منوالية، لأن ذاتية المبدع ورؤيته تلعبان دورا في الحفاظ على الخصوصية والتميز، ذلك أن كل مبدع، رغم تفاعله مع التاريخ في عموميته، ومع تاريخ الإبداع في خصوصيته، فإنه يظل مشدودا أكثر إلى مكونات تجربته الشخصية في تجلياتها الواعية واللاواعية على السواء. من ثمّ تقوم رحلة المبدع، في نهاية التحليل، على التوتر الدائم الذي لا يعرف استقرارا لأنه يعيش حالة «لا اكتمال» متصلة، عمقيا، بجدلية الحياة والتاريخ التي ليست لها نهاية. عندما نعود، على ضوء هذه الملاحظات، إلى تجربة الأدب العربي الحديث، نجد أن هناك لحظات فاصلة وراء التحول منذ مرحلة توظيف الإبداع الأدبي لأغراض تربوية وتعليمية أو شحذ القيم الوطنية والقومية، إلى مرحلة وعي الأدب لخصوصيته واستقلاليته النسبية، ففي تلك المرحلة الأولى، التي امتدت إلى ستينيات القرن الماضي، لم يتمكن الإبداع العربي الأدبي، في معظمه، من وضع مسافة كافية بينه وبين المناخ التاريخي المطبوع بالكفاح من أجل الاستقلال والتصادي مع المتخيل الوطني الذي كان يحظى بالإجماع.. لكن هزيمة 1967 أمام إسرائيل، كشفت للجميع زيف الأنظمة الاستبدادية المستظلة بشعارات الدولة الوطنية والوحدة المتوهّمَة لمحاربة العدو الخارجي وتحرير فلسطين. وكان هذا المنعرج التاريخي بداية «انشقاق» الأدب العربي الحداثة عن الخطابات الرسمية الجاهزة، المسخرة للتبرير والتزييف، يضاف إلى ذلك أن المثاقفة والترجمة واتساع التعليم الجامعي أسهموا في بلورة مفهوم الأدب الجديد عبْر العالم، وأظهروا سلطته المتفردة وإمكاناته في النقد وتعميق الوعي، وتغيير القيم. ومن هنا توغل الإبداع العربي في تشييد ثورته التي تلملم وضعية الإنسان العربي المقموع، الفاقد لحريته وحقوقه، المنهوب بالقلق وأسئلة الوجود والمصير.. اكتسب خطاب الأدب كثافة وقدرة على إثارة الانفعال، لأنه بلوَر جمالية تحميه من الخطاب المباشر وتمنحه المسافة اللازمة لالتقاط التجارب والعلائق والمشاعر في مجموع تفاصيلها وتجلياتها، دون تجزيء أو اختزال. وإذا لم يكن الأدب العربي قد عرف حركة طلائع أدبية على غرار ما عرفته الثقافة الأوربية، فإنه عرف أسماء شعراء وروائيين ومسرحيين وقاصّين ينتمون إلى أقطار عربية مختلفة، أنجزوا نصوصا لافتة أسستْ لتمرّد الأدب على شرنقة الإيديولوجيا، واللغة المُتخشبة، والبلاغة المسكوكة، والماضوية المتهافتة. لأجل ذلك، عندما نستحضر الفترة الممتدة من 1967 إلى انطلاق الانتفاضات العربية ضد الاستبداد والفساد في ديسمبر 2011، سنجد أن الأدب العربي الحداثي قدّم نماذج إبداعية أسهمت في حبكِ حلقات مقاومة الطغيان، لأنها نصوص تغلغلت إلى الأعماق مع احتفاظها بالخصائص الفنية والجمالية التي تسعفها على أن تتخطى السياق الذي كتبتْ فيه. وأظن أن هذا المقياس يصلح للتمييز بين النص الإبداعي والنصوص الظرفية التي تتخذ شكل شهادات أو مقالات للفضح والتحريض أو مقطوعات للتعبئة والتحميس. لكن، على أهمية ما أنجزه الأدب العربي في الخمسين سنة الماضية، فإنه اليوم مطالب بإنجاز «ثورته» الخاصة، لأن السياق عرف تغيرات ضاغطة، مزدوجة الطبيعة: فهناك التحول المتصل بوسائط التعبير وتأثيرها في خلق سوق ثقافية وفنية واسعة، خاضعة لقوانين التجارة والرواج والأكثر مبيعا، وهو تحول سينعكس بالضرورة على تقييم العمل الإبداعي وعلى مستواه الجمالي. وهناك التغيير السياسي الذي بدأت أبوابه تنفتح أمام المجتمعات العربية، والذي سيقترن بطرح أسئلة عويصة وتحديات نوعية... أي طريق، إذن، سيسلكه الأدب والفن في المجتمعات العربية لإنجاز ثورتهما؟ هل هو طريق التفاعل الآني مع التغيير ومشكلاته وصراعاته؟ أم إن الإبداع العربي يحتاج إلى تعميق ثورته من داخل منجزاته المتميزة، وبالتفاعل القوى مع أسئلة الإبداع الكوني التي تشمل هموم المستقبل العربي، وتعانق تحديات العالم المتطلع إلى إضاءات الفن والإبداع لتبديد السديم المتعاظم؟ عن «الشروق المصرية»