أصبحت الحياة السياسية في المغرب كطاحونة مملوءة بالماء، تدور لكنها لا تنتج شيئا... هناك فقر شديد في إنتاج المعنى وفي تحريك الشارع وفي تطوير النظام السياسي المغربي المشدود إلى الماضي أكثر من تطلعه إلى المستقبل... لم يفلح فؤاد عالي الهمة، رغم الخبرة التي راكمها في إقامة ليوطي على عهد ملكين وأكثر من وزير داخلية، ورغم سعة نفوذه إلى جانب صديقه الملك محمد السادس، ورغم اطلاعه على خبايا المجتمع السياسي... لم يفلح في حمل قيمة مضافة إلى الساحة السياسية عندما خرج –ولو ظاهريا- من مربع الحكم إلى ساحة العمل السياسي... لقد أنتج نفس المركب الحزبي.. أحزاب إدارية تربت في حضن السلطة، تقايض سكوتها على أعطاب النظام السياسي بمنافع مادية وسياسية، مضاف إليها شبكة من الأعيان تعيد إنتاج نفس الخرائط السياسية عند كل انتخابات، لأنها تتحكم في الكتلة الناخبة عن طريق المال والخدمات والروابط ما قبل سياسية: العائلة، القبيلة، العرقية... لم تستطع الوجوه اليسارية التي زين بها الهمة حزب الأصالة والمعاصرة، المشكل من أحزاب بلا تاريخ ولا هوية ولا مساهمة في الحياة السياسية، تقديم صورة، ولو أولية، عن مشروع سياسي قادم من شأنه أن يخلخل قواعد اللعبة... إن الوافد الجديد يواجه مأزقين، الأول ذاتي، ذلك أن أصالته ومعاصرته تعيد إنتاج نفس أعطاب النظام السياسي المغربي الذي يريد أن يُنعت بالديمقراطي دون أن يتخلى عن السلطوية، ويريد أن يكون تعدديا دون أن تفارق المركزية عقله السياسي، ويريد أن يكون حداثيا وهو يحكم بأدوات مغرقة في التقليدانية... المأزق الثاني أن حزب الهمة يريد أن يبني كيانا جديدا على أنقاض كيانات سياسية خربة وهشة، وكل أمله أن يُخرج روحا جديدة من جسد ميت... نفس الشيء يمكن قوله عن الإسلاميين الذين شكلوا قبل سنوات وافدا جديدا، وإلى اليوم لم يساهموا فكريا وسياسيا واجتماعيا في تطوير الواقع السياسي رغم حيويتهم التنظيمية ورغم حماستهم الإيديولوجية. سياسيا، لا تعرف لهم معارضة مؤسسة ووازنة لأسس توزيع الثروة والسلطة في النظام القائم. فباستثناء شعاراتهم الأخلاقية وحماستهم الدينية، لم يساهموا في تطوير النظام السياسي والإداري للمملكة. قد يقال إن الضغوط من حولهم شديدة، وهم معنيون في هذه المرحلة بالحفاظ على وجودهم السياسي قبل الانتقال إلى الفعل والبناء، لكن من يستطيع أن ينكر أن أحزاب المعارضة السابقة كانت تساهم بشكل أكبر في لجم السلطوية على عهد الملك الحسن الثاني في ذات الوقت الذي كانت فيه قياداتها وأطرها في السجن والمنافي وردهات المحاكم... والنتيجة أن حزبا في المعارضة مثل العدالة والتنمية، ورغم حيويته «الجماهيرية»، خسر 100 ألف صوت بين موعدين انتخابيين (2002-2007). الخلاصة أن الحلقة المفرغة التي تدور فيها الحياة السياسية تحتاج إلى من يراجع عملها، وتحتاج الطاحونة التي تطحن الماء إلى من يضع فيها حبوبا تنتج طحينا، وليس إلى جعجعة بلا فائدة.. وحده المعنى من سيعيد إلى السياسة وإلى النخب مصداقيتها، ويخرجنا من هذا المشهد الرتيب.