قادت رياح التغيير غالبية الأنظمة في البلدان العربية إلى مراجعة دساتيرها، وشهدت بروزا قويا لقوى سياسية جديدة، كانت أولى انشغالاتها تكريس مكانة الدين كمرجع أساسي في الحكم ومصدر للتشريعات، لتُلائم هوى في نفوس الشعوب التي حملت قوى إسلامية مؤثرة إلى الحكم، بشكل حر وديمقراطي، بعد تراجع قوى الاستبداد والهيمنة. ونتابع كيف استتب الأمر لحكومات إسلامية عربية من دون أن ننتبه إلى تجربة الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي اختارت، منذ شهر أبريل من عام 1959، أن يمتزج اسمها وألوانها الوطنية بألوان الإسلام من خلال الدرع الأخضر، الذي يتوسط العلم ويحمل الهلال والنجمة الأصفرين، كهوية مميزة لبلاد «شنقيط» عن باقي بلدان جنوب الصحراء. وإذا كنا بالكاد نذكر اسم موريتانيا في القمم والمنتديات الإقليمية والجهوية أو في مباريات التميز الأدبي المتلفزة، فإن هذا البلد، المحكوم بتقاليد الشرف والعدل والإخاء، يجسد عمقا استراتيجيا مُهما للأمة الإسلامية في إفريقيا، لا مناص من تعزيزه ودعمه والاستفادة منه لدفع المناورات التي يمكن أن تكون مصدر إزعاج لبعض دول الجوار العربي. ولهذا السبب، يهمنا، في المغرب، أن نحافظ على العلاقات بالشقيقة موريتانيا، بما يؤمن استمرار التنسيق والتعاون، على قدم المساواة، في تدبير الملفات ذات الاهتمام المشترك، وبتجرد تام من النزعات والعقد التي يمكن أن تترك انطباعا سيئا لدى أصدقائنا وتجعلهم في حرج أمام الأقلية المسكونة بهاجس التوازنات في وضع السياسات الخارجية للبلد. ولا يمكن أن ينشغل المغرب بعلاقاته بالجوار الأوربي دون أن يلتفت إلى عمقه الإفريقي الذي يشكل متنفسا لتصريف الخبرات المغربية في مجالات الديمقراطية والتعددية والجهوية وتجربة الإنصاف والمصالحة، فضلا عن تراكمات التجربة المغربية في مجال التنمية البشرية والنهوض بالمناطق الريفية ومكافحة الفقر والأمية. وقد وضعت البلاد استراتيجية مندمجة لتطوير علاقاتها بالبلدان الإفريقية في إطار الشراكة جنوب – جنوب، لتجاوز تداعيات تجميد المملكة لعضويتها في الاتحاد الإفريقي الذي شكل حقلا كبيرا للتجارب استغله العقيد الليبي المقتول معمر القذافي للترويج لنظرياته مقابل العطايا التي كان يغدقها على بعض الأنظمة الإفريقية الفاسدة. ويمكن لحكومة الملك تطوير هذه الشراكة مع بلدان الجوار الإفريقي في إطار مربع أول، يجري توسيعه جنوبا عبر موريتانيا والسنغال، كبوابتين منفتحتين على القارة الإفريقية، في مقابل ضمان المغرب لمنفذ مستقر لهذه البلدان إلى أوربا وبقية بلدان العالم، سواء عبر البوابة البحرية المتوسطية أو من خلال المطار الدولي محمد الخامس في الدارالبيضاء. وبوسع المغرب الاستفادة من هذا العمق الاستراتيجي الذي تمثله الشقيقة موريتانيا، بتأمين التوازن المطلوب في العلاقات البينية المبنية على الندية والاحترام المتبادل من دون الانزعاج من موقف الحياد الذي يطبع موقف الحكومة الموريتانية في تعاطيها مع ملف الصحراء، كسياسة مقدرة لهذا البلد منذ عقدين من الزمن على الأقل. وتبرز حاجة المغرب إلى موريتانيا مع توجه أصيل لقادة هذا البلد نحو تجسيد روح التكامل التي طبعت علاقات البلدين بحكم القرب الجغرافي والتواصل الحسي والروحي بين سكان موريتانيا وسكان الجنوب في حوض «أرض البيظان» التي تمتد من جنوب المغرب إلى الجزائر ومالي والسينغال عبر الصحراء الكبرى. وأمام التحديات الجمة التي يعيشها العالم جراء عدم الاستقرار الاقتصادي والأمني، الذي تشهد المنطقة المذكورة بعض فصوله، يدرك المهتمون أي إحساس بالذنب يتملك المسؤولين في الجانبين المغربي والموريتاني عن حجم الفرص التي تضيع أمام إقامة علاقات متوازنة بين الجانبين ترفع من مستوى المبادلات وتزيد من حجم الاستثمارات وتوطد المودة والصلات بين الشعبين الشقيقين. وفي هذا الصدد، يتعين التأكيد على أن مقاربة المملكة المغربية لعلاقاتها الثنائية مع الجمهورية الإسلامية الموريتانية لا يمكن أن تتأسس فقط على صلات القرابة التي تجمع بعض المسؤولين الموريتانيين، في أعلى المستويات، ببعض العائلات والقبائل في المغرب أو على انتساب البعض الآخر إلى أكبر معاهد وجامعات البلاد خلال مرحلة الدراسة، بل يتعين تعزيز دور المؤسسات لإجلاء الغيوم التي يمكن أن تعكر صفو العلاقات، وفي طليعتها دعوة اللجنة العليا المشتركة إلى الاجتماع، بعد خمس سنوات من التجميد، لدارسة القضايا العالقة بين البلدين، وهي قضايا إجرائية لا تبعث على القلق الذي قد يغذي الخلاف، في ظل وضعية المراوحة التي خلفها حادث طرد الصحفي المغربي من العاصمة نواكشوط. ويمكن للجانب المغربي تحصين المكتسبات التي حققها من علاقاته بالجارة الجنوبية وتطويرها، حيث نشهد ترحيب الموريتانيين بالمنتجات المغربية في الأسواق المحلية، وهم لا يتوانون في الإشادة بمهارة الصناع والحرفيين المغاربة الحاضرين بقوة في أوراش العمارة والبناء، ويتطلعون إلى دور مغربي أكبر لتطوير التجارة البينية وتنشيط الاقتصاد ودعم البنية التحتية وتحسين شبكة الماء الشروب وتعزيز الاستثمارات الثنائية في مجال الاتصالات والمصارف والسياحة. ويطلب الموريتانيون، وعينهم على منطقة وادي الذهب، الاستفادة من الخبرة المغربية في مجال النهوض بأوضاع المناطق الهامشية، ومنها تلك الربوع التي شهدت طفرة تنموية نوعية في وقت وجيز، تلت انسحاب موريتانيا منها في عام 1979، بفعل المجهود الخاص الذي بذله المغرب لإدماج الإقليم في النسيج الاقتصادي الوطني وتمكين سكانه من العيش في مستوى أفضل. وما من شك في أن مساعي القيادة الموريتانية، على عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، إلى التحكم في المسألة الأمنية والحد من التهديدات الإرهابية تضع بلدان المنطقة، ومن بينها المغرب، أمام واجب دعم هذا المجهود وتزويد المنظومة الأمنية الموريتانية بالعتاد والتدريب، لتمكينها من صد الهجمات المتكررة، في مساحات مترامية، لا قبل للقوات الموريتانية بها. كما أن قوافل المهاجرين غير الشرعيين العابرين للصحراء نحو الشمال تطرح بدورها تحديا كبيرا أمام بلدان شمال إفريقيا المطلة على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، تتطلب توحيد الجهود لمعالجتها والحد من آثارها على اقتصاديات دول المنطقة، وتشكيل مجموعات ضغط لحمل البلدان الأوربية على التعاون للقضاء على هذه الظاهرة في معاقلها. هذه التحديات وغيرها تقتضي أن يراجع قادة المغرب وموريتانيا بعض الصفحات المشرقة من التاريخ المشترك للبلدين ليقدروا حاجة هذا البلد إلى البلد الآخر، بما يقتضيه ذلك من احترام للتوازنات التي يبحث عنها الطرفان لتعزيز مكانتهما الإقليمية والدولية، في أفق بناء المغرب الكبير، الذي يبقى الفضاء الأمثل للتعاون وللتكامل الاقتصادي. ونحن نذكر الأدوار المهمة التي اضطلع بها بعض قادة الحركة الوطنية في موريتانيا، في علاقتهم بالملك الراحل الحسن الثاني، والتي مكنت من المحافظة على طبيعة خاصة للعلاقات بين البلدين وجعلتهما يحافظان على وتيرة معتبرة في التطور، لم تتأثر بالعواصف وبظروف الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.