بعد تكوين ما يسمى بالجبهة الثورية في السودان، عقدت هذه الحركة اجتماعا مع الجيش الشعبي حضره القادة من الجانبين، حيث توصل الاجتماع إلى عدد من القرارات التي تتلخص في ما يلي: أولا: تعمل الحركة في ثلاث مناطق، تطلق على الأولى جبهة المناطق المحررة، والثانية جبهة المناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة، والثالثة جبهة فروع الحركة الشعبية في المهجر والخارج. وترى الحركة أنها ستعمل في إطار رؤية قومية تقوم على رؤية السودان الجديد التي ظهرت لأول مرة عند «جون قرنق»، وتولاها من بعده بعض العاملين في هذا المجال مثل ياسر عرمان. ويقول القائمون على هذا التوجه إنهم توقفوا خلال المرحلة الانتقالية التي مهدت لانفصال جنوب السودان عن أي عمل عسكري؛ لكن تلك المرحلة، من وجهة نظرهم، انتهت ليبرز بعدها الجيش الشعبي الذي من أهدافه إكمال عملية التحرر الوطني بحسب توجهات الجبهة الثورية. والسؤال الذي ينشأ إثر كل قرار تتخذه الحركة الشعبية هو: ما الذي يبرر للحركة أن تقوم بأي عمل عسكري في شمال السودان بعد أن تحقق استقلال الجنوب؟ ولا شك أن الحركة الشعبية تجتهد في أن تجعل هذا المجال غامضا، وهو ما لن يكون كذلك لأن ما تدعو إليه الحركة الشعبية من تحرير لا يمكن أن يكون له إلا معنى واحد هو تحرير المناطق الشمالية من البلاد من سائر الوجود العربي الإسلامي، وذلك هو التفسير الوحيد لمفهوم السودان الجديد الذي دعا إليه جون قرنق. وبالطبع، ترى الحركة الشعبية في نظام الحكم القائم في شمال السودان ذريعة للتستر خلف أهداف قومية بكونها تعلم بأن هناك معارضة في شمال السودان لنظام الحكم القائم، ولا تريد الحركة الشعبية من الحكومة السودانية أن ترد عليها بل تريدها أن تستسلم لتوجهاتها وتتعايش مع فكرة أن هناك معارضة مسلحة ستواجهها، ولا شك أننا نعلم بأن الحكومة في الخرطوم لن تستسلم لهذا الواقع كما جاء في تصريحات الرئيس البشير وعدد من القيادات الوطنية، لكن الأمر في نهايته ليس أمر تحديات أو توجهات بكون القوى المتمردة، التي تسمي نفسها قوى التحرير، لن تقلع عن أهدافها وستستمر في إثارة القلاقل والمشكلات في البلاد، وذلك ما يدعونا إلى وقفة تأمل حول قضايا الخلاف ذاتها، هل هي قضايا تحتاج إلى حلول سياسية يمكن التفاهم حولها أم هي قضايا تتأسس على توجهات عنصرية يصعب الوصول فيها إلى حلول معقولة؟ الواقع أن الخلافات في السودان ليست خلافات سياسية بين الحكومة والحركات الجهوية بكونها خلافات تعكس درجة عالية من التطرف السياسي ولا يمكن التوصل فيها إلى حلول سياسية، وحتى لو كان من الممكن التوصل إلى مثل هذه الحلول فهي بكل تأكيد ليست حلولا بين الحركات الجهوية والحكومة التي لم تأت بإرادة شعبية خالصة، إذ هي حكومة انقلابية أسست لنفسها نظام حكم لا يمكن أن يزعم أحد أنه مقبول لدى كل الاتجاهات السياسية في السودان، ولا شك أن مثل هذا الوضع هو بيئة خصبة للتدخلات الخارجية في الشأن السوداني، وقد ظهر ذلك على وجه خاص في انفصال جنوب السودان الذي لم يكن ثمة مبرر له، لكن الحكومة ساعدت على تحقيقه على أمل أن ينهي ذلك الخلافات معها، غير أنه أدى فيما بعد إلى مزيد من القلاقل كما هو الحال الآن في جنوب كردفان وفي النيل الأزرق ودارفور، وهو وضع سوف يغري كثيرا من العناصر الخارجية للتدخل فيه من أجل الإضرار بمصالح السودان. وظلت الحكومة السودانية تحاول جاهدة أن تتوصل إلى علاقات حسنة مع الولاياتالمتحدة من أجل أن تخرج من مآزقها، لكن الولاياتالمتحدة ظلت كذلك، بصورة مستمرة، تستخدم المعايير المزدوجة مع السودان وهي التي أوصلته إلى هذا المستوى الذي يواجهه الآن. وأعرف أن هناك حساسيات بالغة من التدخل المصري في شؤون السودان، وكثير من السودانيين يتخلون عن مطالبهم الأساسية بمجرد أن تربط القضايا المصرية بالقضايا السودانية، لكن الحقيقة التي لا ينكرها أحد هي أن هناك دائما علاقات متصلة بين السودان ومصر، وما يضر بالمصالح السودانية يضر كذلك بالمصالح المصرية، وذلك ما يتطلب أن تكون مصر على وعي كامل بالمؤامرات التي تحاك ضد السودان والتي ستؤثر على أمنها الوطني، ولعلنا لا نبالغ حين نقول إن هناك أيادي إسرائيلية تلعب في الحديقة الخلفية لجنوب السودان، وهذه الأيادي هي التي حققت انفصال الجنوب ولن تتوقف عند هذا الحد، إذ الدلائل كلها تؤكد أن إسرائيل لا تحاول تطوير مواقفها السياسية لأنها تنطلق من رؤية واحدة وهي أمنها السياسي، ولا تنظر كثيرا إلى المتغيرات من حولها، كما لا يهمها أن تحسن الدول علاقاتها معها ويظهر ذلك واضحا في علاقاتها بمصر التي أقامت علاقات سلام معها، ولكنها لم تتوقف عن مؤامراتها وعدم ثقتها بمصر، والدليل على ذلك مشروع الحائط الذي تتوجه إلى بنائه ليكون حاجزا بينها وبين مصر. والمهم في كل ذلك هو أن تفوت الحكومة السودانية الفرصة على كل من يحاول تعريض وحدة السودان للخطر، وأعتقد أن السودان دخل مرحلة جديدة يتحتم أن يكون فيها توافق قومي وألا يركن البعض إلى أن الأمن مهدد في كل الظروف لأن الحقيقة التي ركزت عليها دائما هي أن وحدة السودان جغرافية قبل أن تكون سياسية، وبالتالي فإن كل من يحاول أن يعبث بهذه الوحدة سيكون مصيره الفشل، ويبدو ذلك واضحا في جنوب السودان الذي يواجه صعوبات جغرافية بسبب انفصاله عن الشمال، وهو يحاول أن يلبس تلك الصعوبات ثوبا سياسيا من خلال إثارة النزعات الجهوية التي لن تؤدي إلا إلى تأخير الحلول الحقيقية في هذا البلد. ولكن ما هي الحلول الحقيقية؟ هنا يجب أن نقول إن المشكلة في السودان لا تتركز في من يتولى السلطة بل تتجاوز ذلك إلى كيفية بناء نظام الدولة الغائبة بسبب النزعات القبلية والعنصرية، وأخيرا بسبب الصراعات الجهوية. هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن ينطلق منها الجميع، ولكنها بعيدة في هذه المرحلة لأن معظم الذين يعملون في المشهد السياسي السوداني لا يفكرون إلا في جانب واحد وهو كيفية التوصل إلى النفوذ من خلال السيطرة على السلطة، ويعتقدون أن المصالحة في ما بينهم هي الأسلوب الأمثل من أجل تحقيق خير المجتمع، وذلك خطأ كبير لأن السودان ليس من البلاد الفقيرة، وليس هناك خوف على أي إقليم فيه إذا استقامت الأمور، وبالتالي فإن الصراعات السياسية والجهوية هي معارك في غير معترك، والأفضل منها هو أن يتقدم ذوو الرأي والمعرفة من أجل وضع الأسس لبناء الدولة الحديثة التي تستوعب سائر الأطياف وعندها لن يكون هناك مجال للصراع أو التنافر بين الأفراد والأقاليم، وتلك هي الطبيعة التي عاش عليها السودانيون زمنا طويلا، إذ ما الذي جعل السودانيين في الماضي يتعايشون مع بعضهم بعضا في إطار مجتمع تسود فيه المحبة ثم يجدون أنفسهم فجأة في مجتمع متصارع يريد أن يحل أموره بالقتال والصراع، ذلك هو الوضع الذي ينبغي على السودان أن يتجاوزه من أجل الحفاظ على وحدته الوطنية ومن أجل التقدم الذي يطمح إليه. ولكن السودان ليس كيانا مبهما يمكن التحدث إليه، إذ المشكلة تكمن في الذين يستولون على كل شيء فيه أو يتقاتلون من أجل الحصول على شيء، وهو الواقع الذي لا يمكن تجاوزه إلا من خلال ما تعرضت إليه سابقا. يوسف نور عوض