عازب في الثالثة والأربعين من عمره، يلتحق بجماعة من خلانه حول مائدة مقهى لارتشاف قهوته الصباحية، كما هي عادته كل يوم، لكنْ حدث أن علت ضجة من الصراخ والعويل في محيط عمارة سكنية تجمهر أمامها من كانوا في الشارع وأنظارهم متوجهة نحو شرفة شقة في الطابق الخامس لإحدى العمارات، حيث «تتدلى» فتاة تريد الانتحار.. بدا الزمن كأنه قد توقف وتوقّف معه تفكير المتجمهرين أمام العمارة، ووحده كانت له القدرة على التصرف، وحده تواصلت عنده سيرورة الزمن، وحده سارع الخطى نحو محلّ تجاري مجاور تباع فيه الأفرشة، لكنه التفت مجددا فلمح الفتاة وقد هوت من الأعلى، ولم تمهله إلى أن يفرش لها سريرا، يحمي جمجمتها من الاصطدام بالإسفلت، فلم يتبق أمامه من خيار إلا أن يمد يديه ل»تلقفها».. وبالفعل، هوت الفتاة فوقه، وحيث إنّ القدَر لا بد له أن يُسقط روحا في صبيحة ذلك اليوم فقد عاشت الفتاة وتوفيّ البطل.. جندي منضبط هذا المشهد ليس لقطة من فيلم رومانسيّ، كما ليس مقطعا من رواية رومانسية، وحتى البطل ليست له أي علاقة بالفتاة لتبرير هذه التضحية.. في الواقع، كان هذا مشهدا حقيقيا ومثيرا، عاشه أحد شوارع مدينة الدارالبيضاء زوال يوم الثلاثاء، 8 يناير 2013، لم يكن بطله سوى حسن المجناوي، وهو شاب يتحدر من مدينة الدارالبيضاء. لم يكن اسمه يعني الكثير للعديدين، إلا أنه أصبح، بعد وفاته، مشهورا في حارته، مدينته وفي وطنه أجمع. هنا في درب الجديد، المتفرع عن شارع بوركون في الدارالبيضاء، مازالت سحابة الحزن الممزوج بالفخر تخيّم على سماء هذا المنزل المتواضع. مازال أفراد عائلته حسن يعيشون اليوم على صوره وعلى ذكراه، يتذكرون قفشاته، ابتسامته وهدوء طباعه، يترحمون عليه تارة وتارة يُردّدون «الحمد لله، مات شهيدا وأكرمه الله ب»موتة مستورة». رأى حسن النور سنة 1969 في منطقة «الهْجاجمة» في الدارالبيضاء. كما هو الشأن بالنسبة إلى أبناء حيه، درس في ابتدائية «الإرديسي»، القريبة من محل سكناه، لكنه ما لبث أن انقطع عن الدراسة، بعد أن حصل على الشهادة الابتدائية، ليلتحق بمؤسسة للتكوين المهنيّ، حيث تخصَّصَ في التلحيم (سودور). لم تشأ الصدف أن يعمل حسن في مجال تخصصه، لكنه قرر أن يشتغل بستانيا في الفيلات المحيطة بالحي الذي يقطنه.. تتذكر والدته، التي رسم الزمن الصعب تجاعيد كثيرة على ملامح وجهها، بحرقة طيبوبته وكرمه، قائلة: «في حالة حصل على 20 درهما كان يعطيني 10 دراهم ويحتفظ ب10.. وما عْمّرو ما فارْقني في حياتو».. بعد مشاورات مع رفاقه من أبناء الحي، قرر حسن، رفقة ثلاثة من أصدقائه، أن يخضعوا للخدمة العسكرية الإجبارية. ربما كان يرغب في تحقيق حلم طفولته في أن يصبح جنديا، يساهم في حماية حدود الوطن والدفاع عن حوزتها.. وهكذا وفي أواخر عام 1989، التحق حسن بصفوف القوات المسلحة الملكية، المرابضة بإحدى الثكنات العسكرية في مدينة الراشيدية. قضى حسن المجناوي خمس سنوات في التجنيد الإجباري، تعلم خلالها العمل في المدرعات، وخضع لتكوينات إعدادية في هذا المجال، ولم يكن يزور منزل أسرته إلا نادرا، كلما تمكن من الحصول على عطلة، إلى أن حصل، في النهاية، أي بعد خمس سنوات، على شهادة «الجندي المنضبط».. يحكي صديقه إبراهيم، الذي عاش معه فترة التجنيد الإجباري، والذي يدير اليوم محلا للأكلات السريعة قرب منزل عائلة المجناوي، أن حسن كان منضبطا ولا يرتكب المخالفات التي تستوجب العقاب في قانون الحياة العسكرية، قبل أن يقول: «حسن هو الوحيد الذي لم يتأثر كثيرا في الأيام الأولى الصعبة جدا من الحياة العسكرية، التي كانت تسبب لبعضنا انهيارات وفقدانَ كيلوغرامات كثيرة من أوزاننا».. بخلاف أقرانه من أبناء الحي، طُلِب من حسن العمل في الجيش المغربي برتبة جندي، ولما عاد إلى منزله، تشاور مع والدته، التي عارضت التحاقه بالخدمة العسكرية، لأنها لم تكن ترغب في ابتعاد ابنها عليه.. مهووس بالسينما برضوخه لرغبة الأم في عدم التحاقه بالجيش، يكون قدَر حسسن قد قاده -من جديد- إلى العودة نحو نقطة البداية، وعاد للعمل مجددا بستانيا في فيلات الأغنياء والميسورين. ظل مهووسا، كما يقول شقيقه، بكرة القدم، إذ كان يحب كثيرا حراسة المرمى بالنظر إلى قامته الطويلة وبنيته الجسمانية، كما كان يشارك في دوريات الأحياء رفقة أبناء دربه.. عشق حسن، أيضا، حسب أفراد عائلته، سينما «الأكشن»، وخصوصا الأفلام السينمائية التي تصور مَشاهد الجيوش والحروب والأسلحة، «كان يحبّ أن يشرح لنا نوعية الأسلحة المستعمَلة.. وكل سلاح لاشْ كيْصلاح»، يقول شقيقه. استقرت روح «العسكري» في دواخل هذا الشاب إلى الأبد، بعد تجربته في التجنيد الإجباري في الراشيدية، وتقمص شخصية الجندي، الذي يعتبر نفسه مسؤولا عن حماية التراب الوطني وتقديم يد المساعدة الإنسانية لمن يحتاجها، وإن كلّفه ذلك حياته.. هكذا كان حسن يتدخل دائما من أجل فك الاشتباكات بين أبناء الحي.. «واخّا كانت كتجي فيهْ شي ضْربة لم يكن أبدا يُبالي، ودائما ما كان يقول لي، ماشي مشكل، الأهمّ هو التدخل من أجل عقد الصلح»، تقول والدة حسن المجناوي، مضيفة: «كانْ كيحنّ بْزّاف على الدراري الصغارْ، وديما كان كيشري ليهومْ الشكلاط.. نحن لا نريد أبدا أي إكرامية من أحد جزاء العمل الذي قام به ابننا الشهيد.. كما لا نرغب في أن يوصف ب»المتشرّد».. كون غير يْتشرّدو الناس كاملين ويْديرو بْحال هذاك الشي اللي دارْ».. كما تشير والدته، أيضا، إلى أن سلوكه الاستثنائيَّ كان مثار إطراء العديدين، إلى درجة أنه بعد وفاته «لقينا القبرْ دْيالو كان محفور وواجد.. وما عرفنا شكون حْفرو أصلا، ولكن باين أنه شي واحدْ فاعل خيرْ خدم عْندو».. سامي المودني