لا أفهَمُ كيف يمكن لِنَاشِرٍ، يكون جديراً بهذه الصِّفَة، وهو لا ينشُرُ سوى ما يرى أنه يستجيبُ للسُّوق! أو ما يكون الطَّلَبُ عليه كثيراً! قياساً بما يَقِلُّ الطَّلَب عليه! أليس في هذا ما يجعل من مؤسسة نشر الكِتاب، هي نفس مؤسسة السِّلَع والمواد الاستهلاكية اليومية؟ أعنيأن الناشر، في هذه الحالة، هو تاجِر كُتُب، وليس مُشارِكاً في بناء المعرفة، وفي ترويجها. ما يُضاعِف استغرابي الشخصي، هو، أن تجد نفس «الناشر!» ينشُر دراسات حول الشِّعر، وحول القصة، والمسرح، في ما هو يرفض نشر الشِّعر والقصة والمسرح! الناشر ليس تاجراً بالمعنى الحرفي، والصِّرف للكلمة، فهو لا يسعى وراء الخسارة، هذا أمر بديهي، ولكنه لا يسعى وراء الربح بنفس منطق الشَّرِكات، والمقاولات الرِّبْحِيَة التي تعمل في مجال العقار، أو البناء، فربحية الناشر هي ربحية تدخل في إطار تغطيات النفقات والمصاريف الضرورية، وهامش الربح في مجال النشر يكون غير هامش الربح في قطاعات الاستهلاك المادي. مَنْ يختار أن يكون ناشراً يكون صاحب معرفة، وصاحب مشروع معرفي، وصاحب فكر وخيال، وليس شخصاً يدخل مجال النشر من باب المُتاجرة فقط. كل ناشرهو شخص أو مؤسسة، لها رغبة في التأسيسِ، لمجتمعٍ يقوم على الفكر، والخيال، ويسعى للمشاركة في تغيير القِيَمِ، وفي فتح نقاشٍ حول القضايا الجوهرية، والكبرى، وليس شخصاً، أو مؤسسةً، تَخْضع لمنطق الشارع، أو لِما يريده «الجمهور»، الذي ليس هو القاريء. فأغلب الناشرين العرب، حين ينشرون كتاباً، أو مجموعة من الكتب، وأتحدَّث هنا عن الناشرين «الكبار»! فهم لا يعملون على تسويق الكُتُب، والدِّعاية لها، وترويجها عن طريق الإشهار، والإعلام، واستغلال وسائل التواصل الحديثة، في التعريف بهذه الكتب والأعمال، وما تُمَثِّلُه من قيمة، في مجالها التخييلي، أو الفكري. فالناشر اليوم، يرفض نشر كتب «الخيال»، أعني ما له علاقة بالجمال، من شعر ومسرح وقصة، مثلاً، ويكتفي، حتى في مجال الفكر والنقد بنشر الكتب التي هي مُقَرَّرات جامعية، مُبَطَّنَة، كون كاتبها هو مُدَرِّس بالجامعة، كتابُه مفروض على الطلبة، وهو مادة للاختبار، علماً أن الكثير من هذه الكتب لا تحمل قيمة في ذاتها، ولاتُمَثِّل أية إضافة في الفكر، ولا في النقد، أو الإبداع. فالكتاب اليوم، في صورته العامة، هو رهينة في يَدِ تُجَّار الكتُب، أما الناشرون، فنحن نعرفهم، ونعرف كيف يشتغلون، ونوع الأسئلة التي يفرضرنها على القاريء، من خلال ما يقترحونه من أعمال فيها إضافات، وقدرة على الابتكار والنقد والتجديد. ولعل في تبخيس قيمة الخيال من طرف بعض هؤلاء، ممن يرفضون اليوم نشر الشِّعر والقصة والمسرح، بدعوى، السُّوق، ما يُشير لتبخيس قيمة الناشر! ودوره، الذي لا يقل خطورة عن دور الكاتب والشاعر نفسه، في نشر الفكر والخيال، وفي النهوض بالمجتمعات من كَبَوَاتها التي أصبحت هي القاعدة، وأصبح الفكر والخيال، استثناءً. فما نراه من انتشارٍ للفكر السلفي الماضوي، ومن انتشار التطرف في الفكر والنظر، وهيمنة مجتمع الاستهلاك على مجتمع المعرفة والفكر هو تعبير عن هذا التَّدَنِّي في ما وصلت إليه مؤسسات النشر في العالم العربي، وضمنه المغرب، الذي ما تزال الدولة متعثِّرَةً في فهم دور المعرفة والخيال، وفي دعم الكتاب الإبداعي، وربما في بناء الإنسان، أو ما نُسَمِّيه، تجاوزاً، بالتنمية البشرية. لا مجتمع بدون إنسان، والإنسان، في أساسه، هو الفكر والخيال، وليس الإنسان المُسْتَهٌلِك التَّابع، الذي تمتصُه آلة الدعاية والإعلام، ويصبح أداة في يَدِ أصحاب المال. أو كما قال بشار بن بُرْد: أعْمَى يَقُودُ بصيراً لا أبالكُمُ قَدْ ضَلَّ من كَانتِ العُمْيَان تهْدِيهِ * شاعر مغربي