أهم عنصر في عقد الشغل هو عنصر التبعية التي لم يخصَّها المشرع بأي تعريف، وإنما اكتفى بالإشارة إليها حين تعريفه للأجير. والتبعية تعني ممارسة المشغل لسلطته التأديبية، وذلك من خلال إصداره للأوامر والتعليمات والمراقبة والتوجيه؛ وهي إما تبعية قانونية، ويكون أساسها القانون، وهي نتاج لعلاقة تعاقدية ليس إلا، دون اعتبار لأي وضع آخر، وتنقسم بدورها إلى تبعية فنية وأخرى تنظيمية، فأما التبعية الفنية أو التقنية فيمارسها المشغل المحترف والمتخصص على الأجير غير المتخصص، وهي مبنية على أساس درايته وإدراكه بطبيعة النشاط وقدرته على تسيير وتوجيه الأجير، وعادة ما تتوفر هذه التبعية في المقاولات الصغرى وبعض الورشات، وتخصص المؤاجر أو علمه بكل صغيرة وكبيرة بأمور نشاطه لا يمكن أن يتوافر دائما وبكل الورشات أو المقاولات، لذا وجب في بعض الأحيان الاكتفاء بمجرد تبعية تنظيمية أو إدارية؛ وقد تكون التبعية اقتصادية، وهي يؤدي الأجير عمله بشكل مستقل عن أي إشراف وإدارة مباشرين من المشغل، بحيث يتوفر عنصرا أداء العمل والأجر فقط كحالة الأجير الذي يؤدي عمله بمنزله. في حين جاء في الفقرة الثانية من المادة 6 أنه يُعدُّ مشغلا كلُّ شخص طبيعي أو اعتباري، خاص أو عام، يستأجر خدمات شخص ذاتي واحد أو أكثر، حيث يمكن أن يكون المشغل شخصا طبيعيا (ذاتيا)، كما أنه بالإمكان أن يكون شخصا اعتباريا خاصا (الشركات، النقابات، الجمعيات، التعاونيات،...) أو شخصا اعتباريا (معنويا) عاما كالدولة أو الجماعات أو المؤسسات العمومية... كما أن النشاط الذي يعمل فيه المشغل ليس بالضرورة عملا مربحا، كالجمعيات والنقابات مثلا، كما لا يهم أن يكون حجم مقاولته كبيرا أو متوسطا أو صغيرا، أو أن يكون مغربيا أو أجنبيا. وعكس الأجير، فإن المشغل يمكن أن يغير وضعيته لأن ارتباط الأجير بالمقاولة لا يجعله حتما مرتبطا بشخص المسير أو الرئيس المدير العام أو المشغل عموما. كما جاء، مثلا، في المادة 19 من مدونة الشغل التي تعطي للمشغل الحق في تغيير وضعيته عن طريق البيع أو الإدماج أو الخوصصة، كما أن للورثة الحق أيضا في الاستمرار في نفس النشاط... وفي الأخير، لا بد من التأكيد، مرة أخرى، على أنه إذا كانت عناصر عقد الشغل هي أداء العمل وأداء الأجر وعلاقة التبعية، فإن لهذا العقد أركانا لا بد من مراعاتها ليكون صحيحا، وهي التي نصت عليها المادة 15 من مدونة الشغل التي جعلت صحة العقد متوقفة على الشروط المتعلقة بتراضي الطرفين وبأهليتهما للتعاقد وبمحل العقد وبسببه، كما حددها قانون الالتزامات والعقود، وأهلية التعاقد المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود منصوص عليها بمقتضى الفصل 3 الذي يقضي بأن أهلية الفرد المدنية تخضع لقانون أحواله الشخصية الذي أصبح يسمى حاليا مدونة الأسرة التي نصت في مادتها 209 على أن سن الرشد القانوني هو 18 سنة شمسية كاملة، ومع ذلك فقد سمحت مدونة الشغل في مادتها 143 بتشغيل القاصر الذي بلغ 15 سنة كاملة، غير أن المشرع المغربي سكت هنا عن تحرير عقد القاصر كتابة، كما لم يحطه بشكليات معينة مثل موافقة الولي أو الوصي أو المقدم. وعلى أيٍّ، فالتعاقد لا يتم إلا بالاتفاق والتراضي بين طرفي العقد. ومحل الالتزام في عقد الشغل هو أداء العمل من قبل الأجير وأداء الأجر من طرف المشغل، مع إجبارية أن يكون محل العقد مشروعا لأن القاعدة الفقهية تقول: (ما بني على باطل فهو باطل)، وهو ما يتماشى مع مضمون الفصل 57 من قانون الالتزامات والعقود؛ ونفس الشيء بالنسبة إلى سبب التعاقد الذي يلزم أن يكون مشروعا، فقد نص الفصل 62 من نفس القانون على أن الالتزام الذي لا سبب له أو المبني على سبب غير مشروع يعد كأن لم يكن، ويكون السبب غير مشروع إذا كان مخالفا للأخلاق الحميدة أو النظام العام أو القانون. وإذا كانت القاعدة الأصلية في عقد الشغل بالمغرب هي اعتباره من العقود الرضائية التي لا تتطلب شكلا معينا لاعتباره صحيحا، فإن المشرع المغربي، مع ذلك، نصَّ من خلال المادة 15 على أنه في حالة إبرام عقد الشغل كتابة وجب تحريره في نظيرين موقع على صحة إمضائهما من قبل الجهة المختصة ويحتفظ الأجير بأحد النظيرين. وإذا كان عقد الشغل مكتوبا فإن إثباته يكون ميسرا على طرفيه، في حين وفي غياب الكتابة يصعب في بعض الأحيان تحقيق ذلك، إلا أن المشرع المغربي ألزم المشغل بتسليم بعض الوثائق لأجرائه، حيث أوجب على المشغل تسليم الأجير بطاقة شغل، وهو ما نصت عليه المادة 23 من المدونة، أو كما نصت عليه المادة 371 من ضرورة مسك دفتر الأداء في كل مؤسسة أو جزء منها أو في كل ورشة كما يمكن أن يتم الإثبات بواسطة الملصق أو السجل الخاص بالعطل السنوية والمنصوص عليه في المادة 246 وإن كان المشرع لم يتحدث عن سجل العطل السنوية ولم يحدد لعدم مسكه عقوبة زجرية، وقد يعتمد الطرفان على شهادة العمل المنصوص على أحكامها في المادة 72 لإثبات علاقة العمل أو مدتها. وإذا صعب على أحد الطرفين، وخاصة منهما الأجير، إثبات علاقة الشغل باعتماد الوثائق السالف ذكرها، فإن حرية الإثبات هي الأصل، حيث يمكن اعتماد الوسائل المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود، وكمثال على ذلك ما جاء به الفصل 404 الذي حدد وسائل الإثبات التي يقررها القانون كالتالي: إقرار الخصم؛ الحجة الكتابية؛ شهادة الشهود؛ القرينة؛ اليمين أو النكول عنها. ورغم كل ما يتميز به هذا العقد بالمغرب، فإن صعوبة إثباته تظل هي السمة الطاغية على نزاعات الشغل، سواء خلال المسطرة الإدارية المتمثلة في الصلح التمهيدي أو داخل المحاكم، لذا كان على المشرع المغربي أن يجعل من الكتابة الأصل في التعاقد، ضمانا وصونا لحقوق الطبقة العاملة ومعاقبة لكل المتلاعبين بحقوقها وكل ما يترتب عن ذلك من تشجيع القطاع غير المهيكل ومن متهربين من التصريحات لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبالتالي التغطية الصحية والتأمين ضد حوادث الشغل، وهو ما يكلف ميزانية الدولة أموالا باهظة ما كان لها أن تتحملها لو اعتمدت تشريعا اجتماعيا إلزاميا بنصوصه وأجهزته، فهذه الأخيرة والمتمثلة في مفتشي الشغل، مثلا، ليس لها الحق في مراقبة عقود العمل (باستثناء بعض العقود الخاصة)، حيث لم يحدد المشرع مقتضيات زجرية لمخالفة أحكامها، ولا بأس من الاستئناس بمقتضيات المادة 20 من الاتفاقية رقم 1 لعام 1966 الصادرة عن منظمة العمل العربية التي جاء فيها أنه يراعى بقدر الإمكان أن يحرر عقد العمل كتابة. فهل سيفكر المشرع المغربي في الالتزام بأحكام هذه الاتفاقية وغيرها أم إن حالها سيبقى موقوفا كحال الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمفتشي الشغل؟ فأحكام الدستور معمول بها، ومقتضيات الاتفاقيات الدولية مصادق عليها، وأوضاع هيئة تفتيش الشغل وضعف حجيتها الضبطية تبقى على حالها، والطبقة العاملة مستاءة من أوضاعها والباقون يستفيدون على حسابها. فؤاد رفيه* *باحث في قانون الشغل