ما هي المدينة التي دخلت موسوعة «غينيس» لأنها فجرت أكبر قدر من المفرقعات والألعاب النارية في ليلة رأس السنة؟ إنها ليست نيويورك أو لندن أو باريس أو هونغ كونغ، إنها مدينة عربية، عربية عاربة، واسمها دبي. العرب من حقهم، اليوم، أن يرفعوا رؤوسهم عاليا لأنهم صاروا يحققون أشياء عجز عن تحقيقها الإنس والجان، فلو أن عفاريت الدنيا مجتمعة قررت أن تفجر كل تلك الألعاب التي تفجرت في دبي لساعة واحدة لعجزت عن ذلك، لكن العرب فعلوها.. يا لهم من عباقرة. دبي مدينة عظيمة، وأسرار عظمتها لا تكمن فقط في قدرتها على إحراق الملايير في ساعة واحدة، بل في كونها استطاعت منذ سنوات طويلة أن تبني أشياء كثيرة عالية، أبراجا سامقة ومطاعم طائرة وجزرا اصطناعية ومتاحف تحت البحر وأشياء لو رآها العرب القدماء لاعتبروها من فعل الجن والأبالسة. في دبي أشياء أخرى كثيرة، أمم كاملة جاءت تقتات من جزيرة الكنز، وأقوام من كل القارات جاؤوا يغرفون حظهم من جيوب عرب فاض عليهم الخير فلم يعودوا يدرون ما هم به فاعلون، فقرروا أن يبنوا به الأبراج ويحرقوه فوق جماجم السنوات. لكن دبي ليست وحدها في هذه الخريطة، فهذه الأيام تتحدث الصحف الرياضية العالمية عن قنبلة يمكن أن تنفجر في أي وقت، ومفادها أن اللاعب الأرجنتيني العجيب، ليونيل ميسي، يمكنه أن يغادر فريق عمره، برشلونة، لكي يرحل نحو فريق آخر، وهذا الفريق الآخر لن يكون بالطبع ريال مدريد ولا مانشستر ولا غالاكسي لوس أنجلس، بل فريق باريس سان جيرمان الفرنسي. لكن الحقيقة أن هذا الفريق ليس فرنسيا بالمرة، باستثناء اسمه، والأموال التي تدور في طاحونته هي أموال قطرية كاملة مكتملة، لذلك فهو مستعد لكي يدفع 400 مليون أورو، كاملة غير منقوصة، من أجل جلب اللاعب ميسي، ومن المؤكد أن ميسي سيكون أغبى رجل في العالم لو أنه رفض هذا العرض. ها هي، إذن، أموال العرب تذهب هنا وهناك، يأخذها الذين يستحقون والذين لا يستحقون، بينما نرى كل يوم على شاشات التلفزيون أطفالا ونساء وشيوخا هجّرتهم الحرب الطاحنة في سوريا ولا يجدون ما يتدثرون به وسط الثلوج والأوحال. الفقاعات النارية التي تفجرت في سماء دبي ليلة رأس السنة كان بإمكانها أن تخرج اللاجئين السوريين من الظلمات إلى النور، وكان بالإمكان أن تنقذ أرواحا كثيرة جدا، وكان بالإمكان أن تشتري قصورا عوض خيام مرقعة، وكان بالإمكان أن تحفظ شرف الآلاف من النساء الشاميات العفيفات، لكن يبدو أن دخول دبي موسوعة غينيس خير ألف مرة من دخولها قلوب البؤساء والمنكوبين. والأموال القطرية التي يمكن أن تقتلع ميسي من «البارصا» كان بإمكانها أن تفعل الكثير للاجئي سوريا ولغيرهم، لكن يبدو أن المأساة السورية صارت عبارة عن «بروباغاندا» عملاقة يجب أن تستمر ما بين مطرقة النظام السوري وسندان «الإخوة» العرب، لأن وقفها سينزع أوراق التوت عن عورات كثيرة. وقبل حكاية الفرقعات وميسي، فإن بلدانا عربية كانت قد دفعت الملايير إلى عسكر مصر مباشرة بعد الانقلاب العسكري. والغريب أن البلدان العربية الخليجية التي تتباكى على أحوال السنّة في مناطق كثيرة، لا تكترث إطلاقا عندما تدفع أموالا كثيرة لكي يتطاحن السنة في ما بينهم.. إنها مصيبة بألف رأس. لنعُد إلى المشهد السوري لأنه يلخص كل شيء، فقبل بضعة أشهر سمعنا عن شاب سعودي احتفل بحدث تخرّجه من الجامعة من خلال اختياره زيارة باريس كي يقضي فيها عطلة. إلى هنا، تبدو الأمور عادية جدا، لكنه ذهب إلى هناك وأقام حفلا خرافيا في حديقة ديزني للألعاب وصرف في ليلة واحدة ما يقارب الثلاثة ملايين أورو. والمثير أنه في الوقت الذي كان فيه ذلك الشاب السعودي يبذر المال يمينا وشمالا كفقاعات الصابون، كانت الدعوات تملأ الدنيا لكي يتجند شباب العرب للقتال في سوريا على اعتبار أن الجهاد فرض عين. هكذا صار الفقراء يذهبون إلى سوريا للمشاركة في القتال، بينما يذهب الأغنياء لقتل الوقت في العاصمة الفرنسية، فحتى باريس فرض عين على شباب العرب الأغنياء. بين فرقعات دبي و«فرقعات» سوريا تبدو العروبة مجرد وهم كبير.. بل هي، أكثر من هذا، عروبة مُتعبة أكثر من اللازم.