فؤاد بوعلي كتب الدكتور فيصل القاسم في حسابه على موقع التواصل الاجتماعي في وصف دال لحالة التجاذب الهوياتي التي وصلتها الحالة العراقية: عراقي يشتكي لسوري الوضع في العراق: تلبس دشداشة يقتلك الأكراد، تلبس كردي يقتلك العرب، تلبس شماغ أحمر يقتلك الشيعة، تلبس عمامة يقتلك السنة، تلبس بنطلون يقتلك داعش، ما تلبس شي يقتلك البرد. صورة واقعية لما تعيشه بعض بلدان المشرق العربي، ويراد لنا أن نعيشه في مسار طويل من تقزيم الذات الوطنية إلى كانتونات هوياتية وإقليمية ضيقة تصل في أحيان كثيرة إلى درجة القتل على الهوية، وحين لا تكون الهوية بارزة تفترض لها عناوين موهومة، وهذه أهم سمات الهويات المنغلقة. ينطوي النقاش حول الهوية على نقاش مضمر حول العلاقة بالآخر في محاولة لإعادة إنتاجه وبنائه؛ فالآخر هو محدد الذات، وانطلاقا من هذا التحديد تبدأ المكونات الأخرى للأنا في التمايز؛ فالعادي أن صاحب المشروع الفكري والإيديولوجي يؤسس انتماءه الهوياتي على محددات البناء النظري المرسومة في فلسفته: العلمانية أو الإسلامية أو اليسارية... أو على انتمائه الوطني أو القومي، وفي كل المحطات يغدو التعريف الأصلي للذات موسوما بالمفاصلة المعرفية وليس العرقية. لكن، حين تتدخل العوامل الخارجية في رسم معالم الانتماء يكون التعريف إثنيا. والمقصود بالخارج هنا، هو الآخر الموجه للذات نحو مقاصده هو؛ فعند السؤال عمن أكون، تبدأ دوائر الانتماء في التمايز بدءا من العرق قبل الدين والوطن والفكرة وكل المحددات الأخرى. وإذا كان الأصل في الهوية انفتاحها وتغيرها بحكم انتمائها إلى منطق التاريخ والصيرورة الطبيعية النسبية، فإن تضخيمها حد الإطلاقية يجعل بناءها النظري مغلقا وغير قابل للتطور أو للاستمرارية في الإنتاج. والغريب أن الانغلاق على الهوية يكون دوما ملاذا وملجأ عندما تتعثر معايير الانتماء وتتوتر آليات الإدماج والانصهار داخل الوطن الواحد؛ فالجواب عن الاستبداد السياسي وفشل الإدماج المجتمعي هو العودة العنيفة إلى الذات وصولا إلى البحث الأسطوري فيها، فيغدو الحديث عن العرق واللغة والدين بمنطق التسامي والأسطرة والمثالية المغرقة في الذات. وبالطبع، فإن للهوية المغلقة مجموعة من الأوهام التي تؤسس عليها مسلكياتها التي تصل، في أغلب الأحيان، حد العنف الجسدي والقولي: - وهم الأصل من خلال البحث الدؤوب عن الأصل، سواء كان أصل الوجود أو أصل الإثنية أو أصل الفكرة؛ - وهم المظلومية الذي يبحث له على الدوام عن سند من الواقع أو التاريخ وإن لم يوجد يتم البحث عنه، وفي هذا البحث عن الظلم الموهوم تشتق مفردات حقوق الإنسان لتبرر السلوكات الخاصة التي تسم الآخر تارة بالعنصرية أو الظلم؛ - وهم التناقض: ينطلق من التعرف على الآخر قبل إدراك الذات، حيث تضع نفسها موضع السلب الكامل لكل ما يمثله، لتصبح مجرد نقيض له على صعيد كل المكونات والرؤى والمواقف والأدوار التي تصورها لنفسه. وهذا يؤدي جدليا إلى الإغراق، كذلك، في كراهية الآخر والدخول في صراعات دائمة ضده ولو منتخبة. من خلال بناء هذه الأوهام وشرعنتها في السلوك الاجتماعي، يغدو البحث عن البديل ديدن الهويات المغلقة. ولأن كل بديل لا بد له من مبرر وجودي في التاريخ والحاضر، فقد بحث الخطاب البديل عن سند تاريخي لنماذج ماضوية تبرر وجوده من خلال إنشاء ذاكرة مصطنعة يرجع إليها عند الحاجة الاستحضارية وتنتقى من ملايين الوقائع المتعددة بغية الاستدلال على عمق التصور الانتمائي البديل. كما أن صناعة حائط للمبكى توضع عليه الآلام المصطنعة ضد شركاء الوطن والعقيدة يؤدي، في نهاية الطريق، إلى شرذمة الانتماء والبحث عن رموز أسطورية مغايرة وتبني قضايا اجتماعية وسياسية بعناوين هوياتية. لذا لن تفاجأ حين تغدو الهوية المغلقة عنوان التشظي ومخالفة الآخر في كل شيء، ولو على حساب الأمن والانتماء. إن النقاش الإعلامي الذي ساد الساحة السياسية والاجتماعية مؤخرا حول الأمازيغية والتطبيع وتهديد المقرئ وغيرها، يثبت تشكل هويات منغلقة لم يشارك في بنائها فقط المؤدلجون ذوو الفكر الاستئصالي، بل ساهم فيها العديد من الأساتذة والمفكرين والإعلاميين والنشطاء المحسوبين على الاعتدال أو يعدون أنفسهم من المدافعين عن المشروع الإسلامي أو الوطني، لأن تحديد دوائر الانتماء وترتيب عناصره يبرز حقيقة الانغلاق بين الإسلام والوطن والاثنية. وفي هذا السياق، لا يختلف معتدل عن متطرف، فلو أسقطنا معايير الانغلاق الهوياتي كما تمثلتها الخطابات الاستئصالية فسنجدها تجمع في تركيزها بين أوهام: الأصالة المفرطة في الاعتقاد والمظلومية المختلقة من قبل الآخر السياسي والمجتمعي والصراعية الملازمة، فلن تُفاجأ إذن حين تقرأ بين ثنايا هذا الخطاب تهديدا مباشرا لكل معارض لمسلكياته أو قارئ لمساره، كما لن تُفاجأ بانحيازه إلى كل مناقضات الخيار الوطني من تطبيع مع الكيان الصهيوني واستجداء الغرب ضد أبناء الوطن... وغير ذلك، لأن الانغلاق يجعل الذات عرضة لكل الطفيليات.