السياسة حسب ماكيافيل تحول المواطنين إلى ذئاب وثعالب ينهش بعضها بعضا لو أردنا أن نقف عند المعاني التي ارتبطت بلفظة سياسة في المغرب وحده، لوجدنا أنفسنا أمام دلالات عدة كانت تتغير بتغير الأشخاص الذين يتحركون في الحقل المرتبط بها، وتغير الأفكار التي تتصارع في ما بينها، والقوى التي تتمكن من هذا الحقل وتهيمن عليه، والتي يستحيل أن تتحرك القوى الأخرى دون أن تكون معها أو ضدها. فالحفر في تاريخ هذا اللفظ وحده، يمكن من خلاله قراءة جزء هام من تاريخ المغرب، وأخذ فكرة عما كان رائجا فيه من أفكار ومن تصورات حول السياسة، ومعرفة مدى درجة الوعي التي كانت لدى المغاربة في هذه المرحلة أو تلك. قد يبدو هذا الكلام منطويا على قسط من المبالغة، فالسياسة، كما هي محددة في المعاجم العربية وغير العربية واضحة المعنى، وكل دلالاتها تؤكد على تدبير معيش جماعة مخصوصة وفقا لمبادئ القانون الذي تعاقد عليه الجميع. إلا أن الواقع يهب الكلمات معانيَ إضافية هي التي تهمنا هنا، وهو ما ينطبق على لفظ «السياسة»؛ فقد كان «السياسي» في مرحلة الاستعمار لا يطلق إلا على الشخص الذي تشبع بالحس الوطني وانخرط في عملية تحرير المغرب بكل الوسائل المتاحة آنذاك، ولذلك وانطلاقا من هذا الفهم، كان المغاربة بكل مستوياتهم يطلقون تسمية «الزعيم السياسي» على بعض رموز الحركة الوطنية، مقيمين بذلك نوعا من التطابق بين السياسة والوطنية بحكم الأحداث التي كانت تعتمل في المغرب في تلك المرحلة. ونعلم أنه في مرحلة تالية وبعد ظهور حركات راديكالية وخروجها من رحم الحركة الوطنية المغربية، وتشكيل حكومة عبد الله إبراهيم وإقالتها سنة 1960، ودخول المغرب في ما اصطلح على تسميته في خطاب هيئة الإنصاف والمصالحة ب»سنوات الرصاص»، أصبحت السياسة مرادفة للمحظور والممنوع، وذلك لأن ممارستها كانت تفرض على السياسي أن ينحاز إلى أحد المعسكرين اللذين كانا يتصارعان على توسيع نفوذهما في مختلف جهات العالم، ومن بينها المغرب، وعلى إضعاف بعضهما البعض. ونظرا إلى اعتماد القبضة الحديدية من طرف أجهزة الدولة في مواجهة قوى المعارضة، فقد أصبحت السياسة مجالا للمغامرة وأصبح أبلغ تعبير عن معناها هو ما قاله المصلح محمد عبده الذي اكتوى بنار السياسة فقال: «أعوذ بالله من السياسة؛ من لفظها ومعناها وحروفها ومن كل أرض تُذْكر فيها ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجَن أو يَعْقل فيها، ومن ساس ويَسُوس وسَائِس ومَسُوس». واليوم بعد سلسلة من التجارب وبعد مسار طويل من الممارسات السياسية التي عرفها المغرب والتي طبعت بنوع من الانتهازية، وبعد أن أصبحت مجالا لتقديم الوعود الكاذبة، نلاحظ أن السياسة اقترنت بالقيم السلبية، حيث إن التصور العام، الذي أصبحت له الأولوية في تراتبية معاني هذا اللفظ لدى الكثير من المغاربة، يتجسد في اتخاذ السياسة سلَّما للارتقاء وللانتقال من طبقة إلى أخرى بمختلف الوسائل. هذا التصور الذي ارتبط بالسياسة يفسر جزءا من سر العزوف عن الانخراط في العمل السياسي والذي بدا بشكل واضح في الانتخابات البرلمانية لسنة 2007، والتي كانت صادمة للكثير من الملاحظين. فمن المعلوم أن عدد المشاركين فيها لم يتجاوز 37 في المائة من نسبة المسجلين في اللوائح الانتخابية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة الأصوات الملغاة سوف لن نحصل سوى على نسبة 20 في المائة من المصوتين، بينما سنحصل على نسبة 80 في المائة ممن لا تعني لهم المشاركة السياسية ممثلة في الانتخابات شيئا، وهو ما يجعل من حزب المقاطعين أحد أقوى الأحزاب في المغرب. إن هذا النوع من السلوك السياسي السلبي الذي يصبح جليا في فترات الانتخابات، ليس سوى جبل الجليد الذي يخفي أكثر مما يظهر، فالأمر ذو علاقة بانعدام تصور متكامل عن العمل السياسي لدى مختلف الشرائح الاجتماعية، وعن دوره الخطير في مختلف القطاعات التي تمس ما هو ثقافي واقتصادي واجتماعي...إن المشاركة السياسية هي مشروع متكامل، هي الانخراط في الحياة السياسية بهدف العمل على تحقيق المصالح العامة، والانتماء إلى الهيئات السياسية أو التعاطف معها، ومحاولة فهم ما يجري في المجتمع الذي ينتمي إليه المواطن والعمل على اكتساب ثقافة سياسية تساهم في توجيه التفكير والممارسة، الشيء الذي يتم تتويجه، في نهاية المطاف، بالمساهمة في الانتخابات التي تعتبر أحد الشروط الأساسية لتحقيق انتقال ديمقراطي سليم. هذه ثلاثة تمثلات للسياسة، الأول منها لم تعد لحضوره في الظرف الراهن أي ضرورة، على اعتبار أنه تصور يرتبط بالدول التي تصبو إلى التحرر والخروج من الهيمنة التي تمارسها عليها دول أخرى. بينما التصوران المتبقيان، هما تصوران تطبعهما السلبية ويلزم تجاوزهما؛ فالأول يقوم على علاقة مختلة بين الدولة والمجتمع يحكمها الاضطهاد. أما الثاني، وهو الذي يهمنا هنا، والمتجسد في فقدان الثقة في السياسة ككل، وترجمة ذلك وتجسيده في الانقطاع عن المشاركة في الانتخابات، فإنه هو الآخر بحاجة إلى تجاوز من أجل بناء السياسة على تصور جديد. إن المشهد السياسي في المغرب لفترة طويلة لم يقدم إلا المؤشرات التي تشجع على عدم المشاركة؛ فنحن نسمع عن ضرورة ضخ دماء جديدة في الأحزاب، ومع ذلك لا نصادف إلا الوجوه القديمة التي أكل عليها الزمان وشرب. نسمع عن ضرورة تشجيع الشباب على الانخراط، وقد نجد هيئة شبابية يشرف على تسييرها «شاب» في السبعين من عمره. يطالعنا حديث عن الديمقراطية ودعوة إلى تبنيها، ومع ذلك لا نصادف إلا العجز عن ممارستها داخل الأحزاب الداعية إلى تبنيها. «نحارب» الزبونية والقرابة ونحتج عليهما، ومع ذلك نعتمدهما بوصفهما آليتين أساسيتين في التسيير... عشرات الظواهر التي تجعل من مجال السياسة مجالا للتناقضات بامتياز، والتي لا يملك المواطن إزاءها إلا أن يصرف النظر عن العمل السياسي. ما الحل إذن في مواجهة هذا المأزق، وما هو الرد الأنسب على هذه الوضعية الشبيهة بالدائرة المفرغة التي لا تُعْرَف لها بداية من نهاية؟ إن الجواب بادئ الرأي ودونما حاجة إلى تفكير، هو المشاركة ثم المشاركة ثم المشاركة. فالمشاركة هنا تتحول إلى فعل نضالي، المستفيد الأكبر منه هو المغرب وعامة المواطنين المغاربة. بالمشاركة يتم إيقاف مسلسل التيئيس والعدمية الذي يراد له الاستمرار من طرف المستفيدين من هذا الوضع. بالمشاركة تعود الثقة في المؤسسات المتولدة عن الانتخابات، لأن المواطن سيكون موقنا بأنه ساهم في صنعها بصوته. بالمشاركة، ومن منطلق مسؤول، يتم الإكثار من عدد المصوتين، ممن تحكمهم مبادئ وقيم، وبالتالي يتم تعقيد عملية وصول ذوي الأهداف المشبوهة إلى مواقع القرار، وإمالة الكفة لصالح شخص آخر قد يكون أفضل منه. بالمشاركة نؤثر في المحيطين بنا، ونحول هذا السلوك إلى أداة تربوية تزرع في الأجيال المقبلة عدم الاستسلام والتفريط في الشأن العام، وكأن مستقبل البلد من شأن الآخرين لا من شأننا. بكلمة واحدة، يمكننا أن نقول إنه بالمشاركة سنربح كل شيء وبعدم المشاركة سنخسر كل شيء، ذلك أن الانقطاع عن التصويت واعتماد سياسة المقعد الفارغ هو، في الحقيقة، سلاح ينقلب ضد صاحبه فيعزله ويحوله إلى مواطن سلبي. لقد ركزنا على زاوية واحدة من قضية المشاركة السياسية وهي المتعلقة بالمواطن، ونحن نعلم بأن الموضوع متشعب وأنه برنامج يصعب تحقيقه ما لم تشارك فيه كل الأطراف: الأحزاب والدولة والهيئات المدنية والإعلام والتعليم... فكل هذه الأطراف وغيرها مطالبة بأن تعمل على بناء مفهوم جديد للسياسة، وأن تؤسسه على منطلقات جديدة؛ السياسة التي تهتم بالمواطن لكي يهتم بها بدوره، السياسة التي تهب الأمل والتي تحقق التغيير، وليست السياسة حسب تصور ماكيافيل الذي يرى أن السياسي له الحق في استعمال كل الوسائل لبلوغ أهدافه، بما في ذلك الخداع والكذب والاحتيال والترغيب والترهيب والتشهير والدعاية. فالسياسة، بهذا الفهم، قد «تنفع» آنا، لكنها، مآلا، تكسر مفاصل المجتمع وتحول كل المواطنين إلى ذئاب وثعالب ينهش بعضها بعضا.