في أوائل الثمانينيات وفي أغلب الظن سنة 1981، قدمت القناة الأولى المغربية حوارا، ولربما هو أول حوار مع الفقيد الدكتور المهدي المنجرة، ضمن برنامج لا أذكر عنوانه، وأعتقد أن الأمر كان يتعلق بأول مقابلة خاصة مع عالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة... وأذكر جيدا أن الراحل تحدث باستفاضة عن رؤيته الثاقبة والعالمة لمغرب سنة 2000 على جميع الأصعدة التنموية والاجتماعية والاقتصادية بالخصوص. وما أزال أذكر جيدا كيف كان المهدي يقدم الأرقام والتوقعات والإحصاءات انطلاقا من دراسات سوسيو-تقنية دقيقة لا تقبل الجدل.. إلا أن ما شدني إلى هذه المقابلة التلفزية، الأولى والأخيرة في ما أعتقد، ليس عدد الكيلوغرامات من اللحم التي سيحتاجها المواطن المغربي في عتبة سنة 2000 ولا عدد البيضات في الشهر ولا عدد لترات الحليب في الأسبوع ولا عدد السعرات الحرارية ولا عدد المقاعد الدراسية في مختلف أسلاك التعليم ولا غير هذا من التحديات السوسيو-اقتصادية والثقافية والعلمية التي كان من المتوقع أن يواجهها بلدنا في مطلع الألفية الثالثة، وإنما ما أثار انتباهي هو ذلك الجهاز الإلكتروني الأبيض الذي كان أمامه على مائدة الحوار والذي أشار إليه الدكتور المهدي المنجرة في معرض الأسئلة الموجهة إليه قائلا: "هذا هو مستقبل الإنسانية"، وكان يعني به في تلك اللحظة "الكومبيوتر". ومهما نسيت، فلن أنسى مدى العمر تلك اللقطة/اللحظة الرامزة، وأعتقد أنني مثل الملايين من المشاهدين المغاربة وقتئذ لم أعر كلامه اهتماما بالغا، وها نحن اليوم في المغرب والعالم أجمع نرى كيف صار الحاسوب، في كل بيت بيت وإدارة إدارة، آلة سحرية للتوثيق وتخزين المعلومات والأرشفة والنشر الإلكتروني الفوري والتواصل الاجتماعي عبر ربطه بالأنترنيت. وشاءت صدف الثقافة في المغرب أن ألتقي بالراحل سنة 1989، في ما أعتقد، ضمن فعاليات مهرجان أصيلة الثقافي في ندوة حول محور "الفن في خدمة التنمية" التي دارت نقاشاتها في "قصر الريسوني" الذي ضاقت جنباته على رحابتها بجمهور الحاضرين الذين عزفوا عن التشمس والعوم والاستجمام وجاؤوا بملابسهم البحرية خصيصا للإنصات لهذا الرجل العظيم الذي لا ينطق عن الهوى.. كنت جالسا في الصف الأمامي، قريبا من منصة اللقاء وكنت أتطلع إلى محيى الراحل الذي كان يطفح هيبة علمية ومعرفية وليس سلطوية تحكمية.. بشعره الأسود الطويل المنسدل على كتفيه قبل أن تتخلله خصلات الشيب وقميصه الأصفر المشجر من صنف موضة الطايتي.. فجأة وبدون شعور بفداحة ما سأقدم عليه من زلة في حضرته، سحبت سيجارة من علبة "أولامبيك الزرقاء" من جيب قميصي وأشعلتها بكل أريحية مثل العديد من الحاضرين هناك ونفثت دخانها في فضاء القصر الثقافي المفتوح على السماء الصيفية الزرقاء.. لكن ما إن رفعت عيني من غيمة الدخان ورنوت إلى الدكتور الجالس أمامي حتى لمحته يرمقني بنظرة شزراء وامتعاض وتأنيب استشففت منها درجة غيظه ومبلغ وقاحتي وعدم احترامي لحلقة النقاش وتعمد نسف عطره المعرفي بسموم رائحة سيجارتي القاتلة. انتهت الندوة وسعدت بحضورها، وكنت أكثر سعادة بتلك النظرة المعاتبة من عالم المستقبليات والتي تنم عن وعي حضاري رفيع قبل سنوات من صدور القانون 15.91 الذي يمنع التدخين في الفضاءات العمومية أوائل التسعينيات. طبعا، الدكتور المهدي المنجرة ليس البداية في قائمة المفكرين الذين دفنهم الغبن والصمت والمنع قبل أن يدفنهم رصيد العمر.. محمد كسوس وعبد الكبير الخطيبي والمهدي بنعبود ومحمد عابد الجابري وإدريس بنعلي وعزيز بلال وكل الأسماء الراحلة التي صنعت مجد الفكر المغربي بعيدا عن لعبة السياسة المقيتة وأحزابها الوصولية. يقول المثل المغربي "ملي كيموت الميت كيطوالو رجليه"، وهذا طبعا ما سيقوله الكثير ممن سيقرؤون هذا المقال الذي قد يشبه، في نظر البعض، أنف الشاعر الفرنسي "سيرانو" المحشور في ما لا يعنيه أو ربما قد ينعتني البعض بأنني من سلالة أشعب الطماع، أفتش لي في سرادق العزاء عن المقعد الأقرب إلى هبرة اللحم في صحن الوليمة.. عبده حقي* * كاتب وإعلامي