لا تعد مزدلفة مكانًا عابرًا في رحلة الحج، بل هي فسحة بين الصرخة والسكينة، بين عرفة ومنى. إنها تلك اللحظة التي لا تطلب منك شيئًا سوى أن تمكث. أن تصمت. أن تُبيت جسدك على الأرض، وتدع روحك ترفع رأسها إلى السماء. في مزدلفة، لا طواف، لا سعي، لا رمي، بل وقفة وجودية مع أبسط شروط الإنسان: الأرض، الليل، السماء. هناك، تنام دون فراش، في عراء كامل، كأنك تعود إلى أصلك الأول، حفنة تراب تنتظر أن يُنفخ فيها من جديد. وفي هذا التجرّد تتجلى أعظم لحظات القرب، لأنك لم تعد تملك ما تتشبث به إلا الله. قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 198]، وكأن الله يقول: إن الدموع التي سقطت في عرفة تحتاج إلى ليلة تُخزَّن فيها بهدوء، حيث يلتقط القلب أنفاسه. الليل في مزدلفة ليس نومًا، بل يقظة من نوع آخر. في صمته تكشف نفسك: من كنت في عرفات؟ من ستكون في منى؟ وما الذي تحمله معك من ذلك الدعاء المنهال الذي أطلقته مع المغيب؟ هنا، لا أحد يراك، لا أحد يسمعك، لكنك في حضرة من لا ينام. ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: 20]. وأنت هنا لا تقوم، بل تضطجع، لكنه اضطجاع تسليم، لا كسل. استسلام العارف، لا نوم الغافل. ومن بين لحظات مزدلفة ما يُؤخذ ولا يُترك: جمع الحصى. حصى صغيرة، لكنها محمّلة بنوايا كبيرة. في عتمة الليل، يبحث الحاج عن الحصى التي سيرجم بها أوهامه، شهواته، خوفه، غيظه، وسكوت قلبه عن النداء. كأنك تقول: "من هذا السكون، سأستخرج ما أحتاجه لمواجهة الضجيج". مزدلفة هي اختبار الصبر قبل منى، والسكينة بعد عرفة. بينهما تتوازن الروح، وتتعلم أن ما من رحلة إلى الله بدون مبيت في وادي الصمت. وكأن ترتيب المناسك يقول: "من لم يعرف الله واقفًا في عرفات، ولا هادئًا في مزدلفة، فلن يعرفه مناضلًا في منى". وفي نهاية تلك الليلة، حين يغمر أول ضوء وجهك، تدرك أن الليل قد علّمك أكثر مما علمك النهار، وأن الستر كان بابًا للانكشاف، وأن السكون كان صوتًا آخر للوحي، لا يُسمع بالأذن بل بالقلب. مزدلفة لا تعتبر فقط مشعرًا حرامًا، بل هي موعد مع الصمت المقدّس، حيث يتعلم الإنسان أن أكثر الليالي إشراقًا هي تلك التي نام فيها على الأرض لكنه استيقظ داخل السماء.