الدخول إلى قرطبة يشبه دخول مكان عشت فيه لسنوات طويلة ثم غادرته وعدت إليه.. يبدو المكان أليفا جدا، لكنك تحس عن بعد برائحة الكآبة تخيم فوق القبب الحمراء للمنازل والكاثدرائيات والساحات والأسوار. من أجل دخول قرطبة العتيقة لا بد أن تعبر أحد الجسور فوق الوادي الكبير، وجسرها الرئيسي له صوت، صوت موسيقى شجية تأتيك عن بعد فتعتقد أنه صوت ماء النهر الذي يحيط بالمدينة، لكنه في الحقيقة مجرد صوت أكورديون يعزفه موسيقي لا يتعب ويقتعد كرسيا واطئا ويملأ عابري الجسر بهجة وحنينا مقابل بضع سنتيمات توضع في قبعته. اسم قرطبة له رنين خاص، لكن أن ترى ليس كأن تسمع، فهذه المدينة تبدو وكأنها خرجت من حرب إبادة قبل أشهر أو سنوات فقط، حيث إن الجسر الكبير يحمل اسم «جسر النصر»، وأول ساحة كبيرة تدلف إليها بعد الجسر تسمى «ساحة المجد». يا إلهي.. القرطبيون يسمون كل شيء بأسماء الحروب، لكن.. حروب ضد من؟ لا بأس.. فالعدو يبدو مباشرة عند منعطف ساحة المجد وزقاق ضيق.. هنا يوجد فندق «أوميّاس» (بني أمية). قرطبة تبدو وكأنها تتلذذ بتعذيب نفسها؛ ففي المتحف الموجود على حافة القنطرة الكبيرة لا توجد إشارة واحدة إلى محاكم التفتيش التي ذبحت وأحرقت مئات الآلاف من الأندلسيين. لا بد من تزوير التاريخ حتى لا يحس السياح بالحزن والكآبة، لكن الكآبة في قرطبة واقع مرّ رغم النهر والقبب والنوارس وطيور البط وآلات التصوير والحمام المختبئ بين القصب وشقوق الأسوار. حين تسأل إسبانِيّاً عن تاريخ قرطبة يتحدث إليك عن تاريخها العربي، لكن قرطبة لم تكن يوما عربية، كانت فقط تتحدث العربية، أما هي فكانت أندلسية، والأندلسيون هم سكان البلاد الأصليون الذين اعتنقوا الإسلام؛ وما حدث هو أنه بعد سقوط غرناطة، ظهرت أكذوبة «العرب في الأندلس»، وبدت تلك القرون الثمانية من زمن الأندلس وكأنها احتلال عربي لشبه الجزيرة الإيبيرية.. هذا هو تزوير التاريخ عْلى حقّو وطْريقو.. هناك مؤرخون أوربيون يتحدثون اليوم عن مرتزقة مسيحيين جاؤوا من مختلف بلدان أوربا لإبادة الأندلسيين بدعم من الكنيسة الكاثوليكية المتطرفة. كان زمنا رهيبا، لكن الجميع متواطئون على تناسيه.. كان زمن «هولوكوست» حقيقي.. لكن المنهزمين لا أب لهم يسأل. عكس إشبيلية، التي تبدو مدينة بهيجة بسماء مفتوحة وشمس رائقة وبواديها الكبير، فإن قرطبة تبدو مثل قبر كبير رغم أن السماء هي السماء والشمس هي الشمس والوادي الكبير هو نفسه. هنا في المسجد الكبير، الذي صار كنيسة، مجموعة من الغجر المتأنقين ببذلات فاقعة الزرقة يهتفون لعريسين «فيفان لوس نوبيوس» (عاش العريسان)؛ يمر قرطبي حكيم ويسخر من العريس «أنت لا تعرف ما ينتظرك»؛ يجيبه رفيقه: فعلا.. هذا الغبي يبدو مسرورا جدا بالزواج. الغجريات في ساحة الكاثدرائية لا علاقة لهن بغجريات الروايات والأفلام. الغجريات بدينات ودميمات وحاقدات ومتذمرات دوما. تقترب سائحة أمريكية من غجرية فتقرأ لها الكف وتكرر عليها نفس ما قالته لسائحة مثلها قبل عشر سنوات. السواح، رغم ذلك، يحبون هذه البهرجة ويشربون الكثير من الجعة.. ويتجشؤون. سكان قرطبة يعيشون على ما يدره عليهم التاريخ، فلا شيء هنا غير رائحة الأندلس في كل مكان، لا شيء غير أشباح القساوسة وهم يطاردون الأندلسيين بالمشانق وحطب المحارق. في قرطبة، لاتزال النوارس تحلق كل مساء فوق حواف النهر تماما كما كانت تفعل النسور أيام المجازر بحثا عن جثث الأندلسيين المنكوبين. هنا كل شيء برائحة الماضي.. رائحة المجد.. وأيضا رائحة القتل والمجازر حين أنهت زمنا وجاءت بزمن آخر. في قرطبة، يكاد يغالبك البكاء وتدق جدران البيوت العتيقة وتقول هذا البيت بيتي.. في قرطبة، لا تتذكر عبد الرحمن الداخل وزمن المجد الذهبي أكثر مما تتذكر الشاعر عندما وصف نكبة المدينة: ما في الطلول من الأحبة مخبر .. فمن الذي عن حالها نستخبر لا تسألن سوى الفراق فإنه .. ينبيك عنهم آنجدوا أم أغوروا جار الزمان عليهم فتفرقوا .. في كل ناحية وباد الأكثر جرت الخطوب على محل ديارهم .. وعليهم فتغيرت وتغيروا فدع الزمان يصوغ في عرصاتهم .. نورا تكاد له القلوب تنوّر في قرطبة يحدث لك ما حدث للشاعر نزار قباني.. تمر ببيت من بيوتها فتهم بإخراج مفتاح دارك في دمشق.. أو طنجة أو الرباط. في قرطبة، ترى منزلك القديم.. وحجرة كانت أمك بها تسد وسادك.. في قرطبة، ترى ظلك القديم وأحلامك المدفونة جنب شجرة الكرز.. في قرطبة ترى دمع ودم أجدادك ينساب شلالا عبر الأزقة نحو الوادي.. في قرطبة، كنت ملكا فصرت شبحا.. في قرطبة، كل شيء لك.. ولا شيء لك..