دراجة نارية مسرعة تصدم شخصين بطريق طنجة البالية وإصابة أحدهما خطيرة    كيف ارتقى المسار العسكري لولي العهد مولاي الحسن إلى رتبة كولونيل ماجور..    الحدود المغربية الجزائرية في الخطاب الملكي    "رسوم جديدة" تُربك الأسواق العالمية    قضية حكيمي تعود فجأة مع اقتراب التصويت على الكرة الذهبية... ومحاميته تندد "اتهامات غير مفهومة"    عيد العرش المجيد .. وزير الداخلية يعقد لقاء عمل مع السادة الولاة والعمال المسؤولين بالإدارة الترابية والمصالح المركزية للوزارة    غزة.. ارتفاع وفيات التجويع الإسرائيلي إلى 162 فلسطينيا بينهم 92 طفلا    ترامب يأمر بنشر غواصتين نوويتين ردا على تصريحات روسية "استفزازية"    24 تلميذا مغربيا يجتازون بنجاح مباراة الالتحاق بمدرسة "بوليتكنيك" لسنة 2025        جوق المعهد الموسيقي للطرب الأندلسي يضرب موعدا لضيوف الدورة 39 لملتقى الأندلسيات بشفشاون    المنتخب المغربي يدخل "الشان" بخبرة البطولات وطموح التتويج    أمين حارث يُقنع دي زيربي ويعزز حظوظه في البقاء مع مارسيليا    مديرية الأرصاد الجوية تحذر من موجة حر من السبت إلى الأربعاء بعدد من مناطق المملكة    المغرب يتصدى لمحاولة تسييس الجزائر لاتفاقية "رامسار" للمناطق الرطبة    "القسام" تنشر فيديو لرهينة إسرائيلي    سعر الدولار يتراجع بعد بيانات ضعيفة    وزير العدل : لا قانون يلزم الموظفين بشهادة مغادرة البلاد    الجمارك المغربية تحبط محاولة تهريب أزيد من 54 ألف قرص مهلوس بباب سبتة    لقاء سياسي مرتقب بوزارة الداخلية لمناقشة المنظومة الانتخابية المقبلة    تقدير فلسطيني للمساعدة الإنسانية والطبية العاجلة للشعب الفلسطيني، وخاصة ساكنة قطاع غزة        تتناول قضية الصحراء المغربية.. الكاتب الطنجاوي عبد الواحد استيتو يطلق أول رواية هجينة في العالم    "مكتب الفوسفاط" يخطط لزيادة إنتاج أسمدة "تي.إس.بي" إلى 7 ملايين طن نهاية 2025    "قد يبدو الأمر غريبا!".. لماذا لا نتخذ من التايلاند نموذجا للسياحة في المغرب؟    المبعوث الأميركي ويتكوف يزور غزة وسط كارثة إنسانية    رشيد الوالي: فيلم «الطابع» تكريم للعمال المغاربة في مناجم فرنسا    المهرجان المتوسطي للناظور يختتم نسخته الحادية عشرة وسط حضور جماهيري غير مسبوق    عبد العلي النكاع فنان مغربي يبدع بإلهام في فن التصوير الفوتوغرافي الضوئي    وثائق مزورة وأموال "النوار" .. فضائح ضريبية تنكشف في سوق العقار    بطولة العالم للألعاب المائية (سنغافورة 2025) .. الصيني تشين يحرز ذهبية ثانية في منافسات السباحة على الصدر    دراسة: مشروب غازي "دايت" واحد يوميا يرفع خطر الإصابة بالسكري بنسبة 38%    رئيس البنك الإفريقي للتنمية: المغرب بقيادة الملك محمد السادس يرسخ مكانته كقوة صاعدة في إفريقيا    نشوب حريق بالغابات المجاورة لدواوير تمروت وبني بشير    بعد الخطاب الملكي.. "ائتلاف الجبل" يراسل أخنوش لإنصاف الهامش والقطع مع مغرب يسير بسرعتين    الشيخات وجامعة ابن طفيل.. أين يكمن الخلل؟    فرنسا توقف استقبال فلسطينيين من غزة بعد رصد منشورات تحريضية لطالبة    دراسة تُظهِر أن البطاطا متحدرة من الطماطم    الطعن في قرارات "فيفا" ممكن خارج سويسرا    التوفيق: كلفة الحج مرتبطة بالخدمات    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية البنين بمناسبة العيد الوطني لبلاده    إسبانيا تُزيل علمها بهدوء من جزيرتين قبالة سواحل الحسيمة    مجدلاني يشيد بالمساندة المغربية لغزة    أسامة العزوزي ينضم رسميا إلى نادي أوكسير الفرنسي    أربعة قتلى حصيلة سلسلة الغارات الإسرائيلية الخميس على لبنان    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    ديواني: اعتماد الحافلات الكهربائية في المغرب يطرح تحديات متعددة    "غلوفو" توقع اتفاقا مع مجلس المنافسة وتعلن عن خطة دعم لعمال التوصيل    تحكيم المغرب خارج مونديال الفتيات    أوسيمهن ينضم لغلطة سراي بصفة نهائية مقابل 75 مليون أورو    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    بعد فصيلة "الريف" اكتشاف فصيلة دم جديدة تُسجّل لأول مرة في العالم        ما مدة صلاحية المستحضرات الخاصة بالتجميل؟    في ذكرى عيد العرش: الصحراء المغربية وثلاثة ملوك    تطوان تحتفي بحافظات للقرآن الكريم    على ‬بعد ‬أمتار ‬من ‬المسجد ‬النبوي‮…‬ خيال ‬يشتغل ‬على ‬المدينة ‬الأولى‮!‬    اكتشافات أثرية غير مسبوقة بسجلماسة تكشف عن 10 قرون من تاريخ المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموضة
نشر في المساء يوم 07 - 12 - 2014


‬سعد ‬سرحان
ذات ‬مرة، ‬دخلت ‬إحدى ‬تلميذاتي ‬إلى ‬الفصل ‬وهي ‬ترتدي ‬أسمالا ‬حقيقية. ‬الفتاة ‬من ‬أسرة ‬ميسورة، ‬بدليل ‬ملابسها ‬السابقة، ‬وهو ‬الأمر ‬الذي ‬لم ‬يفاقم ‬من ‬دهشتي ‬بقدرما ‬فعل ‬عدم ‬استغراب ‬أي ‬من ‬زملائها ‬ما ‬آلت ‬إليه. ‬قلت ‬مع ‬نفسي: ‬لا ‬بد ‬أن ‬حدثا ‬جللا، ‬لا ‬بد ‬أن ‬طارئا ‬رهيبا، ‬أو ‬لا ‬بد ‬أن ‬ارحموا ‬عزيز ‬قوم ‬ذل. ‬ثم ‬قررت ‬أن ‬أتحاشى ‬النظر ‬إليها ‬طيلة ‬الحصة، ‬وهو ‬القرار ‬الذي ‬نقضته ‬مع ‬أول ‬التفاتة. ‬كانت ‬تلميذتي، ‬رغم ‬مصابها، ‬تتصرف ‬بشكل ‬عادي ‬طيلة ‬أطوار ‬الدرس. ‬ولقد ‬أبدت ‬رباطة ‬جأش ‬تحسد ‬عليها ‬حين ‬طلبت ‬أن ‬تقوم ‬إلى ‬السبورة ‬لإنجاز ‬أحد ‬التمارين ‬التطبيقية. ‬ولكي ‬لا ‬أجعل ‬منها ‬عارضة ‬أسمال ‬فوق ‬مصطبة ‬الفصل، ‬اخترت ‬تلميذا ‬آخر. ‬حين ‬دق ‬الجرس، ‬أشرت ‬إليها ‬أن ‬انتظري ‬قليلا، ‬حتى ‬إذا ‬خلا ‬الفصل ‬تقدمت ‬نحوها ‬وجعلت ‬أسرد ‬عليها ‬كل ‬العبارات ‬التي ‬كنت ‬قد ‬أعددتها ‬فيما ‬كان ‬التلاميذ ‬ينقلون ‬الدرس ‬في ‬دفاترهم، ‬فقلت ‬لها ‬مثلا: ‬سبحان ‬مبدل ‬الأحوال، ‬ومن ‬لم ‬يخرج ‬من ‬الدنيا ‬لم ‬يخرج ‬من ‬عواقبها، ‬ودوام ‬الحال ‬من ‬المحال.. ‬و.. ‬و.. ‬ومع ‬مطلع ‬رثاء ‬الأندلس ‬لأبي ‬البقاء ‬الرندي ‬كانت ‬ديباجتي ‬قد ‬وصلت ‬إلى ‬ذروة ‬السخافة، ‬وهو ‬ما ‬أحسست ‬به ‬حين ‬تعمدت ‬تلميذتي ‬النظر ‬إلى ‬ساعتها. ‬ساعتها، ‬لملمت ‬ارتباكي ‬وقلت ‬بما ‬يكفي ‬من ‬الجد:‬ ‬اسمعي، ‬باختصار ‬أنا ‬مستعد ‬لاصطحابك ‬إلى ‬أي ‬محل ‬تشائين ‬لأشتري ‬لك ‬ملابس ‬أخرى ‬تغنيك ‬عن ‬هذه ‬الأسمال، ‬فقاطعتني ‬ضاحكة: ‬هذه ‬ليست ‬أسمالا، ‬هذي ‬حوايج ‬لاموض ‬آمسيو... ‬هكذا ‬أسقط ‬في ‬يد ‬مسيو، ‬مسيو ‬الذي ‬هو ‬أنا ‬طبعا. ‬وكان ‬أن ‬نظر ‬مسيو ‬إلى ‬ملابسه، ‬فإذا ‬هي ‬ركيكة ‬جدا ‬إذ ‬لا ‬أثر ‬فيها ‬لبلاغة ‬الموضة.‬
وفي ‬مرة ‬أخرى، ‬جاء ‬أحد ‬تلامذتي ‬بملابس ‬ملطخة ‬بالصباغة ‬من ‬كل ‬لون. ‬ولكم ‬أشفقت ‬لحاله ‬ولعنت ‬في ‬نفسي ‬ضيق ‬ذات ‬اليد ‬وهذا ‬الزمن ‬الذي ‬لا ‬يرحم، ‬فكيف ‬سيوِّفق ‬الولد ‬بين ‬الدراسة ‬وورشة ‬الصباغة ‬حيث ‬يعمل؟ ‬وهل ‬يعقل ‬أن ‬يكون ‬والداه، ‬في ‬حالة ‬عدم ‬عوزهما، ‬قد ‬اقتنعا ‬بأن ‬المدرسة ‬لم ‬تعد ‬طريقا ‬سالكا ‬إلى ‬المستقبل ‬فعبّدا ‬أمام ‬الابن ‬طريقا ‬موازيا؟ ‬مهما ‬يكن ‬من ‬أمر، ‬فقد ‬قررت ‬أن ‬أساعد ‬الولد ‬بأن ‬أعطيه ‬ما ‬يتقاضاه ‬من ‬مشغله ‬حتى ‬نهاية ‬السنة ‬الدراسية ‬على ‬الأقل. ‬ولهذه ‬الغاية ‬استبقيته ‬في ‬آخر ‬الحصة. ‬لكن، ‬ما ‬إن ‬فاتحته ‬في ‬الموضوع، ‬أنا ‬الذي ‬لا ‬أرعوي، ‬حتى ‬لدغت ‬من ‬نفس ‬الجحر.‬
وفي ‬مرة ‬ثالثة، ‬حضر ‬أحد ‬تلاميذي ‬من ‬ذوي ‬البنية ‬المحترمة ‬وقد ‬حلق ‬رأسه ‬حلاقة ‬خفيفة ‬جدّا ‬أسفرت ‬عن ‬ندبة ‬مقوسة ‬في ‬مقدمة ‬رأسه ‬جعلته ‬يبدو ‬شرسا. ‬وحين ‬سألته ‬عن ‬الأمر، ‬طمأنني ‬بأنها ‬ندبة ‬اصطناعية ‬وأن ‬الهدف ‬منها ‬هو ‬ما ‬حدث ‬معي ‬بالضبط. ‬وتجميل ‬القبح ‬هذا ‬يذكرني ‬ببعض ‬زعران ‬حومتنا ‬القديمة، ‬فقد ‬كانوا ‬يسمون ‬الندبة ‬على ‬الخد "‬حفرة ‬الزين" ‬كما ‬كانوا ‬يستقبلون ‬الخارج ‬للتو ‬من ‬السجن ‬على ‬أنه "‬عائد ‬من ‬هولندا"‬؛ ‬فشكرا ‬للغة، ‬شكرا ‬لمَكْرها ‬تحديدا.‬
في ‬حينا ‬القديم، ‬كانت ‬إحدى ‬المتسولات ‬تمر ‬كل ‬صباح ‬لتستجدي ‬الخبز ‬اليابس (‬كان ‬ذلك ‬تخصصها). ‬لقد ‬حاولت ‬مرارا ‬أن ‬أفهم ‬لماذا، ‬كما ‬حاولت ‬تكرارا ‬أن ‬أسألها، ‬سوى ‬أني ‬لم ‬أستطع ‬أبدا. ‬ولقد ‬علمت ‬بعد ‬ذلك ‬بكثير ‬أن ‬ساعية ‬حومتنا ‬إنما ‬هي ‬واحدة ‬من ‬سعاة ‬كثيرين ‬يجمعون ‬الخبز ‬اليابس ‬لفائدة ‬شركات ‬ذكية ‬تخضعه ‬لعمليات ‬تجميل ‬دقيقة (‬من ‬الدقيق ‬طبعا) ‬يخرج ‬بعدها ‬في ‬طبعة ‬مزيدة ‬ومنقحة ‬فإذا ‬هو ‬بسكويت. ‬وللإنصاف، ‬فما ‬تقوم ‬به ‬هذه ‬الشركات ‬هو ‬عمل ‬بيداغوجي ‬يمتح ‬مباشرة ‬من ‬نظرية ‬التغذية ‬الراجعة (‬Feedback)‬؛ ‬فالأولاد ‬الذين ‬يزهدون ‬في ‬خبز ‬البيت ‬هم ‬أنفسهم ‬الذين ‬يحرنون ‬أمام ‬واجهات ‬الدكاكين ‬حيث ‬الخبز ‬إياه ‬وقد ‬تنكر ‬في ‬اسمه ‬الجديد. ‬إن ‬عملية ‬البَسْكَتة (‬لاحظوا ‬الاسم ‬Bis ‬وcuit) ‬أشبه ‬ما ‬تكون ‬بالسحر، ‬والقائمون ‬عليها ‬هم ‬حواة ‬حقيقيون؛ ‬فبفضلها ‬صار ‬خبز ‬أمي ‬ينتهي ‬نهاية ‬سعيدة، ‬إذ ‬بدل ‬أن ‬يبلل ‬وينثر ‬للدجاج ‬فوق ‬سطح ‬البيت، ‬أصبح ‬يحظى ‬برفوف ‬أنيقة ‬في ‬المتاجر ‬الكبرى ‬بعد ‬أن ‬تم ‬تلفيفه (‬تلفيفه ‬أم ‬تلفيقه؟) ‬في ‬بريق ‬حقيقي، ‬كما ‬أصبح ‬الكثير ‬من ‬الأولاد ‬يشهرونه ‬في ‬وجه ‬جوعهم ‬مع ‬كل ‬استراحة ‬مدرسية.‬
وفي ‬حينا ‬القديم ‬أيضا، ‬كان ‬يمر ‬بين ‬الفينة ‬والأخرى ‬أحد ‬المشترين ‬المتجولين ‬طالبا ‬من ‬السكان ‬أن ‬يبيعوه ‬ملابسهم ‬البالية. ‬ومع ‬أن ‬الكثير ‬من ‬الناس ‬كانوا ‬يعرضون ‬عليه ‬خرقا ‬حقيقية، ‬فإنه ‬ما ‬كان ‬يعترض ‬أو ‬يتذمر، ‬بل ‬كان ‬يقدر ‬ثمنا ‬لكل ‬قطعة، ‬وهو ‬الثمن ‬الذي ‬يرتفع ‬كلما ‬كانت ‬آثار ‬الزمن ‬ظاهرة؛ ‬فالرجل ‬كان ‬يهوى ‬الملابس ‬العتيقة ‬مثلما ‬يهوى ‬غيره ‬الخمور ‬المعتقة. ‬وللتاريخ ‬فقط، ‬فقد ‬كان ‬يجد ‬ضالته ‬في ‬دربنا ‬بالذات ‬حيث ‬لا ‬يعرضون ‬عليه ‬القميص ‬إلا ‬بعد ‬أن ‬يكون ‬قد ‬نشر ‬على ‬معظم ‬أغصان ‬شجرة ‬العائلة. ‬لقد ‬كنت ‬أقل ‬جرأة ‬من ‬أن ‬أسأل ‬الرجل ‬إلى ‬أين ‬يذهب ‬بتلك ‬الملابس (‬هل ‬هي ‬ملابس؟) ‬ومع ‬ذلك ‬فلم ‬أنتظر ‬الجواب ‬طويلا، ‬إذ ‬خلال ‬تلك ‬السنوات ‬بدأ ‬يتوافد ‬على ‬بلادنا ‬قوم ‬يقال ‬لهم ‬الهيبِّي، ‬قدَّرت، ‬ما ‬إن ‬رأيت ‬أول ‬أفواجهم، ‬أن ‬أسمالنا ‬تنتهي ‬عندهم. ‬ولكم ‬لُمت، ‬بيني ‬وبين ‬نفسي، ‬جيراننا ‬شديدي ‬الإملاق ‬على ‬تقاضيهم ‬ثمنا ‬لخِرَقهم، ‬فهي ‬أقل ‬من ‬صدقة ‬وأولئك ‬أقل ‬من ‬متسولين. ‬وإليهم ‬يرجع ‬الفضل ‬في ‬إقناع ‬الكثيرين ‬بأن ‬التخلف ‬هو ‬منتهى ‬الحضارة، ‬وهي ‬القناعة ‬التي ‬انبرى ‬لترويجها ‬الآن ‬شباب ‬الموضة ‬الذين ‬لا ‬يدرك ‬معظمهم ‬أن ‬بلاده ‬أسمال ‬حقيقية ‬إذا ‬ما ‬قورنت ‬ببعض ‬البلدان ‬التي ‬تشبه ‬ملابس ‬السهرات.‬
تكاد ‬الموضة ‬تكون ‬العطار ‬الذي ‬يصلح ‬ما ‬أفسده ‬الدهر، ‬خبزا ‬كان، ‬ملابس، ‬موسيقى... ‬أو ‬بشرا ‬حتى. ‬وإليها ‬يرجع ‬الفضل ‬في ‬امّحاء ‬الخطوط ‬الفاصلة ‬بين ‬الغنى ‬والفقر، ‬بين ‬الشباب ‬والشيخوخة، ‬بين ‬العافية ‬والسقم، ‬بين ‬الجمال ‬والقبح، ‬بين ‬العز ‬والذل.. ‬وليس ‬أخيرا ‬بين ‬الفطنة ‬والسذاجة: ‬فكلما ‬اجتهدت ‬في ‬الأولى ‬نجحت ‬في ‬الثانية، ‬فمن ‬كانت ‬في ‬أسمال ‬مهلهلة ‬اتضح ‬أنها ‬أحد ‬الأبناء ‬البررة ‬للموضة، ‬ومن ‬كان ‬يرتدي ‬ملابس ‬ملطخة ‬بالصباغة ‬تبين ‬أنه ‬ابن ‬عصره، ‬عصر ‬الصباغة ‬أعني، ‬وما ‬حسبته ‬تمزقا ‬عند ‬الركبة ‬أو ‬لطخة ‬كان ‬توقيع ‬مصمم ‬الأسمال. ‬وعند ‬هذه ‬النقطة ‬تحديدا، ‬أدعوك ‬أيها ‬القارئ ‬الكريم ‬إلى ‬الوقوف ‬دقيقة ‬صمت ‬ترحما ‬على ‬مّي ‬زهرة، ‬فقد ‬ماتت ‬مغمورة (‬والأصح ‬مغمومة) ‬مع ‬أن ‬أبناءها ‬كانوا ‬يرتدون ‬ملابس ‬تحمل ‬توقيعات ‬في ‬منتهى ‬الموضة. ‬تلك ‬الملابس ‬كانت ‬تصفها ‬أمي، ‬أمد ‬الله ‬في ‬عمرها، ‬بكونها "‬كتعقل ‬على ‬جد ‬النمل ‬منين ‬كان ‬عتروس". ‬وهي ‬عبارة ‬ثمينة ‬قد ‬ترفعها ‬إحدى ‬دور ‬الأسمال ‬شعارا ‬لها ‬أو ‬توظفها ‬في ‬إشهار ‬منتوجاتها؛ ‬فالمؤكد ‬تاريخيا ‬أن ‬جد ‬النمل ‬كان ‬تيسا، ‬لكن ‬لا ‬أحد ‬يعرف ‬أية ‬ملابس ‬كان ‬الناس ‬يرتدون ‬في ‬ذلك ‬الزمن. ‬ولقد ‬نجحت ‬في ‬السذاجة ‬مرة ‬أخرى ‬حين ‬ظننتها ‬متسولة ‬خبز ‬يابس ‬تلك ‬الممثلة ‬المتنكرة ‬لإحدى ‬شركات ‬البسكويت؛ ‬أما ‬الرجل ‬الذي ‬كان ‬يشتري ‬الخرق ‬في ‬حيّنا ‬فقد ‬أسفر ‬عن ‬أكثر ‬من ‬وجه، ‬فمن ‬قائل ‬إنه ‬كان ‬عميلا ‬للهيبيين ‬وأضرابهم ‬يبيعهم ‬أسرارنا ‬الكالحة، ‬ومن ‬قائل ‬إن ‬الرجل ‬ذو ‬نبوءة، ‬فقد ‬كان ‬يعرف ‬أن ‬الملابس ‬المحترمة ‬سيدور ‬عليها ‬الزمان ‬ويطوقها ‬بملابس ‬أكثر ‬احتراما: ‬الأسمال؛ ‬أما ‬بالنسبة ‬إلي، ‬فإنه ‬ليس ‬فقط ‬ذا ‬بعد ‬نظر ‬وإنما ‬صاحب ‬نظرية ‬أيضا، ‬فإذا ‬كانت ‬البسكتة ‬تمتح ‬من ‬Feedback ‬فإن ‬الأسْمَلَة ‬تمتح ‬من ‬توأمها ‬السيامي ‬Wearback ‬وهي ‬نظرية ‬ذات ‬حذافير، ‬لذلك ‬فقد ‬وجدت ‬من ‬يطبقها ‬بحذافيرها.‬
وبسبب ‬امّحاء ‬الخطوط ‬الفاصلة، ‬تعرضت ‬غيرما ‬مرة ‬للحرج ‬أمام ‬نفسي.‬
فذات ‬مرة ‬عرض ‬التلفزيون ‬برنامجا ‬يقطع ‬القلب: ‬على ‬مصطبة ‬طويلة ‬وأمام ‬جمهور ‬يعاني ‬من ‬فائض ‬الشفقة، ‬كانت ‬تمر ‬تباعا ‬فتيات ‬لولا ‬وقع ‬كعوبهن ‬لما ‬كن ‬ليظهرن ‬على ‬الشاشة ‬لفرط ‬نحولهن. ‬ناديت ‬على ‬زوجتي: ‬تعالي ‬نتبرع. ‬كنت ‬قدَّرت ‬أن ‬إحدى ‬الجمعيات ‬الخيرية ‬قد ‬اكترت ‬قليلا ‬من ‬التلفزيون ‬لاستدرار ‬عطف ‬ورحمة ‬المشاهدين ‬بعرض ‬تلك ‬الفتيات ‬المقطوعات ‬من ‬شجرة ‬فعلا ‬لا ‬مجازا، ‬فهن ‬كأغصان ‬ومنهن ‬من ‬ترتدي ‬ورقتي ‬توت. ‬وحسب ‬تقديري، ‬فقد ‬توقعت ‬أن ‬يختم ‬البرنامج ‬بإظهار ‬أرقام ‬الهواتف ‬والعناوين ‬التي ‬على ‬ذوي ‬الأريحية ‬الاتصال ‬بها ‬للتبرع. ‬لكن ‬زوجتي ‬أفهمتني ‬غير ‬ذلك ‬تماما. ‬العجفاوات ‬اللائي ‬أشفقت ‬عليهن ‬وعزوت ‬نحولهن ‬الفادح ‬إلى ‬سوء ‬التغذية ‬والأمراض ‬المزمنة، ‬لم ‬أعدم ‬من ‬يشرح ‬لي ‬أنهن ‬في ‬منتهى ‬الصحة ‬والعافية، ‬بل ‬إنهن ‬نماذج ‬للجمال ‬بكل ‬المقاييس ‬بما ‬فيها ‬مقاييس ‬المسطرة ‬والبركار. ‬ولأن ‬الأمر ‬تكرر ‬معي ‬فقد ‬تقرر، ‬وصدقت ‬على ‬مضض، ‬فأنا ‬وريث ‬سلالة ‬كانت ‬تستوثر ‬فراشها ‬وهاهي ‬الآن، ‬جرَّاء ‬الموضة، ‬تنام ‬ملء ‬جفونها ‬على ‬أسرة ‬من ‬الأسلاك ‬والنوابض. ‬أما ‬الفتيان ‬الذين ‬كانوا ‬يرتادون ‬المقهى ‬مع ‬صديقاتهم ‬الكواعب، ‬يسترقون ‬إليهن ‬اللمس ‬ويتضاحكون ‬حد ‬السعال، ‬فقد ‬بدؤوا ‬يموتون ‬الواحد ‬تلو ‬الآخر. ‬ولما ‬أبديت ‬أسفي ‬على ‬شبابهم ‬قيل ‬لي ‬إنهم ‬لم ‬يكونوا ‬شبانا ‬بل ‬شيوخا ‬في ‬أرذل ‬العمر، ‬وبسبب ‬إكسير ‬الموضة ‬جعلوني ‬مصابا ‬بعمى ‬الأعمار.‬
مرة، ‬وأنا ‬عائد ‬إلى ‬بيتي ‬زوالا، ‬صادفت ‬مجموعة ‬من ‬الشباب، ‬أبناء ‬الذوات ‬كما ‬تشي ‬به ‬ملابسهم، ‬فهم ‬ينتعلون ‬قطعا ‬من ‬الجلد ‬أو ‬البلاستيك، ‬ويعتمرون ‬قبعات ‬كالحة ‬ويرتدون ‬سراويل ‬ممزقة ‬عند ‬الركب، ‬وبعضهم ‬ملطخ ‬بالصباغة ‬من ‬كل ‬لون. ‬قلت ‬مع ‬نفسي: ‬لقد ‬تم ‬استلابهم، ‬فالموضة ‬تتقمصهم (‬أو ‬يتقمصونها) ‬من ‬أعلى ‬الرأس ‬إلى ‬أخمص ‬القدمين. ‬ولقد ‬تكررت ‬مشاهدتي ‬لهم ‬أكثر ‬من ‬مرة ‬قبل ‬أن ‬أعلم ‬بأنهم ‬يعملون ‬في ‬ورشة ‬مجاورة ‬للبناء ‬يغادرونها ‬زوالا ‬لتناول ‬ما ‬يقيمون ‬به ‬أودهم. ‬وإذا ‬صح ‬أنهم ‬أثرياء ‬كما ‬قدرت ‬في ‬البداية ‬فليس ‬بسبب ‬الموضة ‬التي ‬فرضت ‬عليهم ‬فرضا، ‬وإنما ‬بسبب ‬أرصدتهم ‬الهائلة ‬في ‬بنك ‬القناعة ‬التي ‬يفنون ‬أعمارهم ‬في ‬سبيل ‬ألا ‬تفنى.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.