الحدث و الحقيقة صدر للباحث عبد الصمد الكباص ، عن دار إفريقيا الشرق ، كتاب جديد بعنوان " الحدث و الحقيقة " يُعلن فيه صاحبه أنه بحث في بنية الحقيقة كوظيفة تأسيسية للكذب في مجال الصحافة ، و حفر في خلفايت ذلك الحث اليومي الذي يوجه ممتهني الإخبار بمختلف أرجاء العالم ، بأن يضخوا في المجال العمومي حقائق متتالية حول أحداث متباينة ، و أن يهيئوا للجمهور صيغة يفصح بها العالم عن نفسه في حدوثه المجزّأ و المشتت . و يتساءل الكباص : ماهي حقيقة ما نفعله عندما ننتج أخبار نشحن بها الفضاء العمومي؟ ما الذي نفعله بالعالم نفسه و نحن نحث اللغة على تصنيع حقيقته ؟ لماذا تصبح الأحداث التي لم تقع أصلا مؤثرة بمجرد ما تصنع حولها أخبار ؟ ما نصيب مثل هذه الأخبار التي تصف حدثا لم يكن له وجود أصلا من الموضوعية و خاصة أنها تعمل كواقع ينفصل عن الذات التي صاغتها ، بمجرد أن تظفر بكيانها كخبر ؟ ألا يحمل الكذب موضوعية خاصة مساوية لتلك التي يحملها الصدق في الخبر الصحافي تسمح له بالاشتغال كحقيقة بفضل ذلك الاستقلال المزدوج عن الحدث الذي قد يكون وهميا و مع ذلك يكون ما يقال عنه في الخبر حقيقيا ، و كذا استقلاله عن الذات، هذا الاستقلال الذي توفره عملية النشر؟ ألا يدمر الخبر مرجعه و يستولي عليه بأن يحل محله و يفرض الواقع الذي يسود باسمه ؟ مؤكدا أن مثل هذه الأسئلة توفر إمكانيتين اثنتين .أولهما إعادة النظر في ما نحن بصدد فعله من خلال مهنة الإخبار، أي ما نحن بصدد فعله بالعالم و بالجمهور و بأنفسنا . و ثانيهما تحليل تلك الممارسات التي يمثل الخبر إنجازا لها و التي في نفس الوقت تجعل من الموضوعية سؤالا عاما يغطي اشتغالها. ففي الصحافة لا يتعلق الأمر بمفهوم مجرد يخلق حقولا لانطباقه، و لكن بممارسات تجعل من هذا المفهوم سؤالا. إنه يهم تلك الممارسات التي تحمل مساءلة للموضوعية التي تحاول أن تقيس بها نفسها. و يرى الكباص في كتابه " الحدث و الحقيقة " أن إشكالية الموضوعية في الخبر الصحافي لا يمكن أن تطرح من خلال الثنائية الكلاسيكية :الذات و الموضوع، التي رهنت النقاش الابستمولوجي بخصوص سؤال الموضوعية في العلوم ، بل ينبغي طرحها من خلال ثنائية اللغة و الحدث . إذ لا يجب أن ننسى بأننا عندما نكون أمام الخبر الصحافي فإننا نكون بصدد ذلك الفعل الذي يسبق فاعله ،بل و ينتجه ؛ كما القراءة التي تنتج القارئ، و الكتابة التي تنتج الكاتب و ليس العكس . و الفاعل في هذه الحالة يكون نتيجة قصدية من دون قاصد و استراتيجية من دون مُخطط . و هي القصدية التي تسكن اللغة بغض النظر عن من يسخرها لحسابه الخاص لمواجهة الحدث المبني اقتصاديا على الفورية و التلاشي و التناهي والتي تجعلها موجّهة لأن تنتزع منه ما يمكن ادخاره كموضوع و تحويله إلى واقع قابل للاستهلاك . ففي قلب ثنائية اللغة و الحدث ينشأ كل ذلك التوتر الذي يمنح لمسألة الموضوعية معناها في الخبر الصحافي . كيف يمكن للغة أن تسترجع الحدث ؟و أن تُحوِّل ما لا يحقق نفسه إلاّ من خلال فورية حدوثه التي تعني تلاشيه السريع قبل تدخل اللغة ، إلى كلية تُحفظ و تُمنَحُ حقيقةً و تُطرح للتداول في الفضاء العمومي ؟ إن الأمر يتعلق بنمط من التحويل يفرض نفسه قبل تدخل نوايا الذات الطيبة منها و المغرضة بل و تشملها به فتجد نفسها واقعة تحت نفوذه . كما يؤكد أن الشكل الذي تطرح به الموضوعية في أدبيات الصحافة ( قوانين ، قواعد ديونتولوجية ، توجيهات مدرسية ..) التي تربطها بواجب قول الحقيقة ، يتمسك بسذاجة حاولت روح العصر الثقافية التخلص منها . إن الخطاب الذي ينشأ حول هذه الإشكالية في الصحافة لا يتم على نفس الأرضية التي تبلورت في الأزمنة الحديثة و التي ترسي فلسفيا و إبستومولوجيا علاقة حذرة بمجموعة من المفاهيم كالحقيقة و الواقع و الصدق و التأويل و المعنى ، بل و أخرجتها من بداهتها و حاولت الحد من نفوذها النظري و الأخلاقي . لكن في الصحافة و الخطاب الذي يُبنى حولها تنشأ نظرة للموضوعية مؤسسة على ثقة ساذجة في هذه المفاهيم . إنها لا تتساءل مثلا إن كان بإمكان اللغة أن تقول حقيقة الحدث، و أن تحوّل العالم إلى خبر دون أن تتدخل فيه و تُعَدِّل من طبيعة وجوده . مثلما تتحدث عن الواقع كما لو لم يكن للذات نصيب في تكوينه . . . فإلى أي شيء تؤول هذه الموضوعية إذا انطلقنا في تقديرها ،مثلا ، من فرضية وورف سابير في اللغة أو من نظرة نتشه للاستعارة أو من تصور فوكو للتأويل أو من رؤية ريتشارد رورتي للحقيقة ؟ و يشير إلى أن الصحافيين وهم يمتثلون للوصية العامة التي توجههم والتي تقول "الحقيقة هي ما نطلبه منكم"، ينسون أن الحقيقة مجرد بناء منظم، وأن الوصف ينظم أيضا ما يصف وأن الخطابات تخلق حقيقة الموضوعات التي تصفها. فالأكيد أن الصحافي يعمل على إيصال شيء ما إلى جمهوره ، لكنه لا ينقل شيئا موجودا سلفا، وإنما يخلقه انطلاقا من آثار دالة على اختفاء الحدث. و يؤكد عبد الصمد الكباص في عمله أن الخبر عكس ما يُعتقد محكوم بغياب الحدث، إنه يتأسس على قاعدة فقدانه. والحقيقة التي يصنعها تُعوِّض نوعا من الخصاص الذي يخلفه الحدث بعد انقضائه. معنى ذلك أن الحقيقة في الخبر هي علامة ضياع الحدث. يستتبع ذلك حسب استنتاجات الكباص أن الصحافي لا يستخرج الحقيقة من الواقع وإنما يفرضها عليه ويسمح بتسويقها باسمه. ومن هذه الواقعة ينبع كل ذلك التخوف والشك الذي تواجه به الصحافة لأنها في العمق حقيقتنا التي تصاغ في غيابنا وصورتنا التي ترسم بعيدا عنا. مبادئ ثورة قادمة و عن دار إفرقيا الشرق صدر لعبد الصمد الكباص كتابا ثانيا يحمل عنوان : " الجسد و الكونية : مبادئ ثورة قادمة " يقع في 106 صفحة من القطع المتوسط . وضع له كشعار " استحق جسدي ، استحق حاضري ، و لا تفاوض في ذلك " . الكتاب عبارة عن محاولة لبناء مبادئ نظام مُشبع للحرية الإنسانية ينطلق من الطابع التأسيسي لمبدأ حرية الفرد التي لا يمكن أن نتصور أي مشروع تحرري من دونها ، و ينتهي بحرية الجسد كتتويج لها . إذ يرى أنه بالاستغناء عن حرية الجسد نستغني أيضا عن حرية الفرد ، و بالاستغناء عن هذه الأخيرة نستغني عن الحرية ذاتها . و يلح عبد الصمد الكباص و هو يحلل مبادئ تصوره ، التي رأى فيها أنها مبادئ ثورة قادمة ، على أن الحق في الجسد يرسم القاعدة الكونية المؤسسة للمشروع الإنساني للحرية ، أي المشروع الذي يضمن لكل فرد أن يحيا حرا مهما تباينت الأنظمة الاجتماعية و الثقافية .