كان يجب أن يكون الاشتراكيون المغاربة مسرورين بالنتائج التي حققها رفاقهم في إسبانيا، لكنهم لم يفعلوا. إدريس لشكر، «قايد» النظير المغربي للحزب الاشتراكي العمالي في جارتنا، لم يقل شيئا لا يثير السخرية كالعادة، أما اليساريون الآخرون المتحمسون أكثر ل«بوديموس»، فإن هؤلاء الاشتراكيين لا يهمونهم، فهم مشغولون بتجارب اليسار الجديد، حتى وإن كانت قد أفضت، بعد سنوات قليلة، إلى الزج برموزها في السجن. «بوديموس» خسر الانتخابات على كل حال، ومن الطبيعي ألا يجد اليساريون المغاربة سببا مجديا للاهتمام بما حدث. تحولت كلمة «بوديموس» (وتعني بالعربية قادرون) إلى عبارة مثيرة للضحك عندما ولجت المغرب. أمسك حزب الأصالة والمعاصرة بتلابيبها، وسلمها إلى عضو في مكتبه السياسي، وحولها إلى حركة دون رائحة. هذه هي النهايات دائما لكل عملية استيراد سياسي؛ المفاهيم تتشوه بالممارسة العملية الحمقاء. الاشتراكية نفسها لم يصل إلينا منها شيء، لم يشعر الناس بوجودها يوما، وإن كان الاشتراكيون قد حكموا أو شاركوا في الحكم. كان لدينا اشتراكيون أدعياء، ولم تكن لدينا اشتراكية حقيقية. لم يطبق عبد الرحمان اليوسفي أي شعار اشتراكي مفيد، وطيلة السنوات التي قضاها وزيرا أول، لم يحس الناس بأن لولايته طعما اشتراكيا. كل ما فعله، في نهاية المطاف، هو ما يمكن أن يصبو إليه رجل نزيه في بيئة فاسدة؛ إصلاح البيروقراطية، وتحسين أجور جيوش الموظفين العموميين، الذين كانوا دائما العضد السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. بعض التحسينات على قانون الشغل كانت مفيدة، لكنها أُقرت بشروط الليبراليين. حسنا، هذه ليست مشكلة في الواقع، لأن الناخبين لم يصوتوا لهذا الحزب لكي ينفذ إصلاحات اشتراكية، ولا لكي يكون اشتراكيا في الحكم كما كان في المعارضة. أن تدعي الاشتراكية ودونك مسافة يوم على الأقدام من كراسي الحكومة، لا تمتد صلاحيته الزمنية إلى أكثر من يوم حقيقي وأنت على كرسي الحكم.. هذه هي شروط السياسة المحلية. لم يخسر الاتحاديون اشتراكيتهم، وإنما لم يكونوا يوما اشتراكيين حقيقيين. دعونا من التدقيقات الإيديولوجية غير النافعة، يمكن رجل سياسة ذا بصيرة، بغض النظر عن خلفيته، أن ينفذ الإصلاحات الاشتراكية دون أن يكون اشتراكيا، لكنه، بوصفه رجلا متحررا من القيود الثقافية للإيديولوجيا، يمكنه أن يفرغ مضامين تلك الإصلاحات من مدلولها. فعلها بنكيران، كما لم يجد اليوسفي أيضا حرجا في القيام بذلك. يمكن أن يرتَّب تحسين أجور العمال، بعناية، في مصفوفة واحدة بجانب بيع ممتلكات الدولة للشركات الخاصة، كما يمكن أن يصطف صرف دعم للأرامل، وتعويض العمال عن فقدان العمل، دون أي شعور بالقلق، خلف تنفيذ خطة كريهة لرفع سن التقاعد. إن الخلاصة الوحيدة هي أننا لا نملك في المغرب اشتراكيين كما لا نملك ليبراليين. أما اليمين، فهو مجرد حكايات مسلية. ومن حسن الحظ أن الناس لا يطلبون منك أن تكون يساريا أو ليبراليا أو يمينيا. إن المأساة السياسية دفعت الناس إلى البحث عن الرجال النزهاء فحسب. وأولئك القانطون من العثور على هؤلاء، فإنهم إما يطلبون المال، وإما يأخذون عطلة يوم الاقتراع. الاشتراكيون المغاربة -خصوصا الاتحاد الاشتراكي- يعانون الهذيان، فهم يطلبون منا تصديق اشتراكيتهم، لكنهم لا يستطيعون إخفاء زيفها عنا. وحتى بالتغييرات الكثيرة التي لونت بها عقيدتهم الأصلية، مازال هؤلاء يشبهون أي شيء إلا الاشتراكيين. والنتيجة التي وصل إليها الاتحاديون تتركنا نشعر بشكوك عميقة إزاء أي محاولة لبعث مشروع سياسي اشتراكي. يحق لليساريين، الذين يخططون لتشكيل حزب اشتراكي موحد، أن يفعلوا ما يشاؤون، لكن زيف الاشتراكية المغربية سيطاردهم لا محالة. إن تكوين حزب مثل هذا، دون الاتحاد الاشتراكي كما دون التقدم والاشتراكية، ليس عملا متهورا على كل حال، لكنه سيضع مشروع التوحيد نفسه في مشكلة. الاتحاديون الذين ينتحلون صفات الاشتراكيين، والتقدميون الذين لا هم شيوعيون ولا هم يساريون واضحون، سيدفعوننا إلى الاعتقاد بأننا لسنا إزاء تخلص متعب من الاشتراكيين المزيفين، بل في مواجهة محاولة جديدة لصنع زيف آخر. هذه ليست دعوة كئيبة إلى تحويل السياسيين إلى رجال آليين متشابهين، لكنها صلاة، بالأحرى، لكي يكف هؤلاء عن خداعنا. هناك، في إسبانيا، قام الاشتراكيون بخدعة روتينية؛ التخويف من اليمين المتطرف. يفعلها نظراؤهم في أوروبا على الدوام. الاشتراكيون المغاربة حاولوا تقليد ذلك، لكن بالوسائل الفاسدة نفسها التي تدفع الناس إلى الاعتقاد بأن هؤلاء المزيفين قد صنعوا عدوا مزيفا، وتلك فعلا كانت الحقيقة. في المغرب، التقدم الديمقراطي ليس مسألة تقاس باختلاف المرجعيات، وإنما بما يجعل المرء ديمقراطيا وما لا يجعله كذلك. ويمكن اليساريين أن يكونوا على الحالين، كما اليمينيين أو الليبراليين. وفي الديمقراطية، لا تكون الحاجة إلى اليسار سوى تأفف زائد. كل ما يجب الحرص عليه هو ألا يكون للفاشيين دور، وبعدها، فإن الأمور ستكون على ما يرام. لم يعش الإسبان تقهقرا ديمقراطيا حينما حكمهم اليمين، ولم يحيوا رغد العيش عندما قادهم الاشتراكيون. بعض الاختلافات في التفاصيل لا تكون مهمة إذا كانت آلة الديمقراطية تعمل بنجاح، وما على اليسار، كما اليمين، سوى حمايتها من الصدأ. العطب في السياسة المغربية، بعبارة واحدة، هو أن مشكلة السياسيين، يسارا ويمينا، ليست أنهم تحولوا إلى أشخاص متشابهين، ولكن في محاولاتهم الدؤوبة لرمي الناس بنوع من السحر ضعيف المفعول، لدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم لم يصبحوا كذلك. ضاعت المصداقية في هذا الطريق، ولم يبق لنا للتدليل على ذلك سوى إدريس لشكر «أنموذجا».