يأتي مشروع القرار الأمريكي في مسودته الأولى في مجلس الأمن، الهادف إلى تأسيس ما يُعرف ب « القوة الدولية للأمن » (ISF)، كخطوة تنفيذية ضمن ما يُعرف ب « خطة ترامب لغزة ». ويُنظر إلى هذه القوة المقترحة باعتبارها الأداة الرئيسية لإدارة مرحلة انتقالية في القطاع، تُكلَّف بمهمتين أساسيتين: تفكيك البنى العسكرية، وتثبيت « بيئة أمنية » جديدة تمهيداً لانسحاب إسرائيلي مرحلي. كما يُقترح أن يمتد تفويض هذه القوة، التي ستقودها الولاياتالمتحدة بمشاركة دول أخرى، حتى عام 2027، مع إمكانية التمديد. من الواضح أنه لا يمكن فصل هذه الخطوة عن سياق الفشل الإسرائيلي؛ فعلى الرغم من فاتورة الألم الهائلة التي دفعها الفلسطينيون على مدى أكثر من عامين من الحرب، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق هدفها المُعلن بالقضاء على المقاومة. لذلك، يمثل هذا المشروع محاولة لتحقيق الأهداف ذاتها، ولكن هذه المرة عبر الاستعانة بأداة دولية مُشرعَنة. ولتوضيح الموقف، يلزم أولاً تحديد طبيعة القوة المقترحة. الإسم الرسمي في النص المسرب هو « القوة الدولية للأمن » (ISF)، وهي تُعرَّف صراحةً بأنها « قوة إنفاذ لا قوة حفظ سلام ». هذا التعريف جوهري، فهي مُخوَّلة باستخدام « كل التدابير اللازمة » لتنفيذ ولايتها وفق القانون الدولي الإنساني، وهو ما يضعها في خانة التفويض التنفيذي، لا مجرد بعثة مراقبة أو حفظ سلام توافقية. يشمل تفويضها مهاماً محددة: « تثبيت البيئة الأمنية » عبر المساهمة في « نزع السلاح/إزالة الطابع العسكري » في غزة، وتأمين الحدود والمناطق الإنسانية، وتدريب شرطة فلسطينية جديدة، مع إمكانية تكليفها ب « مهام إضافية عند الضرورة ». قانونياً، يرتبط مصطلح « الإنفاذ » (Enforcement) عادةً بصلاحيات واسعة (مثل « كل التدابير اللازمة ») وقواعد اشتباك هجومية، خلافاً لعمليات « حفظ السلام » (Peacekeeping) التقليدية التي تعتمد على موافقة الأطراف وتقييد استخدام القوة. من منظور المصلحة الفلسطينية، تكمن خطورة المشروع في ثلاث نقاط مترابطة: * أولاً، القوة المقترحة ليست حيادية، بل قسرية التفويض؛ فهي لا تأتي لحراسة سلام تم التوافق عليه محلياً، بل لفرض معادلة أمنية جديدة تُصنّف الفلسطينيين (وتحديداً بنيات المقاومة التي تشكلت تحت الحصار) ك « حالة أمنية » يجب تفكيك أدواتها. * ثانياً، الإطار الإشرافي المصاحب (المسمى « مجلس السلام ») هو فعلياً وصاية انتقالية خارجية تمتد حتى 2027 على الأقل، بقرار وقيادة غربية، وليس حكومة وطنية مُفوَّضة شعبياً. * ثالثاً، أن الفرق الجوهري بين « الإنفاذ » و »حفظ السلام » يُترجَم عملياً إلى قواعد اشتباك وتمكين عملياتي لنزع سلاح الفصائل وتجفيف مصادر قوتها. وهو ما يعني ببساطة: تحقيق ما عجز الاحتلال عن فرضه بالقوة العسكرية المباشرة، ولكن عبر تفويض دولي وبأدوات متعددة الجنسيات. على أرض الواقع، تُترجم هذه الخطة إلى مهام ملموسة: انتشار قوات متعددة الجنسيات على الحدود مع مصر وإسرائيل، وفي الواجهة البحرية والنقاط الحيوية؛ حماية الممرات الإنسانية؛ وشراكة أمنية مع شرطة فلسطينية جديدة « مُنتقاة »؛ وضمان عدم إعادة بناء « البنى العسكرية والهجومية » و »التجهيزات الإرهابية » (وفق تعبير المسودة). هذا يعني فعلياً الانتقال من احتلال مباشر إلى احتلال مؤقت مُقَنَّع؛ احتلال يمنح إسرائيل « أمن النتائج » دون تحمّل كلفة الإدارة اليومية المباشرة، ويمنح واشنطن وحلفاءها اليد العليا في صياغة مستقبل غزة الأمني والسياسي. تتجاوز الإشكالية حدود التنفيذ لتطال أسس الشرعية والمسؤولية. فقرار مجلس الأمن لا يمكن أن يكون بديلاً عن الإرادة الوطنية الفلسطينية. وأي مشاركة في قوة « إنفاذ » بهذه الصيغة، دون أفق واضح لدولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتها القدس، ستُعتبر (سياسياً وأخلاقياً) جريمة جديدة بحق الشعب الفلسطيني. هنا، تبرز مسؤولية تاريخية على عاتق الدول العربية والإسلامية (كتلك التي اجتمعت في إسطنبول)، فهي أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تثبيت خط أحمر واضح يربط أي تفويض أمني بمسار سياسي نحو الدولة والسيادة والمساءلة، أو الانزلاق نحو شراكة غير مباشرة في تجريد الفلسطينيين من عناصر قوتهم المدنية والمقاوِمة. الخلاصة ببساطة ووضوح هو ان المعركة لم تنتهِ، بل تدخل أخطر فصولها بأدوات أممية وألفاظ قانونية « أنيقة ». وسيحاول هذا المشروع إنجاز ما عجزت عنه إسرائيل على مدى عامين وأكثر لكسر إرادة المقاومة، ولكن تحت غطاء « الاستقرار » و »إعادة البناء ». لذا، يجب على الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي الحر أن يبقى يقظاً، وأن يضغط لرفض المشاركة في قوة إنفاذ بلا أفق سيادي، والمطالبة بربط أي ترتيبات أمنية بوقف العدوان ورفع الحصار ومسار دولة ذات سيادة ومساءلة عادلة. إن المعركة اليوم تدور حول الاختيار بين مسارين: إما سلام حقيقي يُبنى على إرادة الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير وبناء دولة ذات سيادة عاصمتها القدس، وإما وصاية دولية تُكرّس السيطرة بأدوات قانونية دولية أكثر مكرا.