عبد الحكيم العياط الأربعاء 25 يونيو 2025 - 0:35 الذكاء الاصطناعي.. أداة ثورية لتقليص الفجوة الصحية في زمن يشهد تسارعًا مذهلًا في التحول الرقمي وتطور أدوات الذكاء الاصطناعي، يبرز سؤال محوري في الميدان الصحي بالمغرب: هل يمكن لهذه الثورة التكنولوجية أن تشكّل رافعة حقيقية للنهوض بالمنظومة الصحية، التي ظلت لعقود رهينة أعطاب بنيوية وتفاوتات مجالية صارخة؟ في ظل عجز واضح في عدد المهنيين الصحيين، وبنيات تحتية تعاني من الهشاشة، تبدو الحاجة ملحة إلى حلول مبتكرة تتيح تقليص الفجوة في الولوج إلى الرعاية، خصوصًا في المناطق القروية والمعزولة. وهنا تفرض تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي نفسها كبديل واعد، ليس لتجاوز الخصاص فقط، بل أيضًا لإعادة رسم خريطة الخدمات الصحية بشكل أكثر عدالة ونجاعة. تشير أحدث المعطيات إلى أن المغرب يتوفر على حوالي 7.3 إلى 8 أطباء فقط لكل 10 آلاف نسمة، وهي نسبة أقل بكثير من الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية والمحدد في 23 طبيبًا لكل 10 آلاف نسمة. هذا النقص الهيكلي يتفاقم في المناطق القروية والجبلية، حيث لا توجد في بعض الجماعات القروية سوى ممرض واحد أو اثنين لتغطية آلاف السكان. كما يواجه المغرب خصاصًا يقارب 32 ألف طبيب و65 ألف ممرض لتلبية الحد الأدنى من المعايير الدولية. وبالنظر إلى هذا الوضع، يصبح من الصعب الحديث عن عدالة صحية أو عن رعاية صحية ذات جودة لجميع المواطنين، خصوصًا في ظل استمرار هجرة الأطباء إلى الخارج والتمركز الحضري المفرط للموارد. في هذا السياق، يقدّم الذكاء الاصطناعي إمكانيات هائلة لتعويض جزء من هذا العجز. فمن خلال تطبيقات متقدمة، أصبح بالإمكان استخدام الخوارزميات لتحليل الصور الطبية (مثل صور الأشعة أو الرنين المغناطيسي)، وتشخيص أمراض معقدة مثل سرطان الثدي أو السل الرئوي بدقة عالية وفي وقت قياسي، حتى في غياب الأخصائيين. كما يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بتطور الأمراض المزمنة كداء السكري أو ارتفاع الضغط الدموي، من خلال تحليل البيانات الصحية للمريض وتقديم توصيات استباقية. ولعل من أبرز التجارب المغربية في هذا المجال، ما شهدته جهة مراكش–آسفي من مبادرة نموذجية تمثلت في إطلاق أولى خدمات الطب عن بُعد انطلاقًا من سنة 2020، حيث تم ربط عدد من المراكز الصحية القروية بالمركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس بمراكش عبر منصات تشخيص عن بعد، مكنت من إجراء استشارات طبية فورية وتحويل المرضى المحتاجين لتدخل سريع إلى المستشفيات الجهوية. وقد أثبتت هذه التجربة نجاعتها في تقليص زمن الاستجابة الطبية وفي تحسين مؤشرات الرعاية الأولية. ورغم أن الذكاء الاصطناعي لم يكن الحاضر الأبرز، فإن البنية الرقمية التي رافقت الحملة (كاستعمال قواعد البيانات الطبية الإلكترونية وتوجيه الحالات وفق الأولويات) تُمهد الطريق لتوظيف أكثر انتظامًا للذكاء الاصطناعي مستقبلاً في هذا النوع من المبادرات. أظهرت دراسات دولية حديثة أن تقنيات الذكاء الاصطناعي، خصوصاً نماذج التعلم الآلي (Machine Learning)، قد ساهمت بشكل ملموس في تحسين جودة تتبع مرضى السكري من خلال تحليل كميات ضخمة من بياناتهم الطبية، مما مكّن من التنبؤ المبكر بمضاعفات مثل اعتلال الشبكية السكري وأمراض الكلى بدقة تراوحت بين 80% و90%. وقد استخدمت هذه النماذج من قبل مؤسسات بحثية كبرى، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ومايو كلينك، لتطوير حلول تساعد الأطباء على اتخاذ قرارات مبنية على معطيات دقيقة وواقعية، مما أدى إلى تقليص حالات الاستشفاء غير الضرورية وتوجيه المرضى إلى الفحوصات المناسبة في الوقت المناسب. رغم هذه المؤشرات الإيجابية، تبقى تحديات إدماج الذكاء الاصطناعي في النظام الصحي المغربي عديدة. فضعف البنية التحتية الرقمية، خاصة في القرى والمناطق الجبلية، يعرقل تعميم هذه الأدوات. كما أن نسبة مهمة من الأطر الصحية تفتقر للتكوين اللازم في التعامل مع التطبيقات الذكية أو ترفضها بسبب غياب الثقة أو القلق من فقدان دورها في المنظومة. من جهة أخرى، فإن غياب إطار قانوني متكامل يؤطر استخدام البيانات الصحية الشخصية والتقنيات الذكية يشكّل عائقًا حقيقيًا أمام انخراط فعلي وشامل في هذه الثورة الرقمية. لكن، في المقابل، لا يمكن إنكار أن الوقت قد حان لتبنّي رؤية وطنية شاملة لإدماج الذكاء الاصطناعي في السياسة الصحية، تُراعي العدالة المجالية وتضع الإنسان في صلب التحول الرقمي. هذه الرؤية يجب أن ترتكز على أربعة محاور رئيسية: تقوية البنيات الرقمية في المراكز الصحية، تكوين مهنيي الصحة في استخدام هذه الأدوات، تشجيع البحث العلمي والتعاون مع الجامعات والتقنيين المغاربة، ووضع إطار قانوني واضح لضمان حماية المعطيات والشفافية. إن المغرب، وهو يخوض مرحلة إصلاح عميق للمنظومة الصحية في إطار تنزيل النموذج التنموي الجديد، لا يمكنه أن ينجح دون اعتماد الذكاء الاصطناعي كأداة مركزية، ليس فقط لتحسين جودة العلاج، بل لبناء ثقة المواطن في الخدمات الصحية. الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا تكنولوجيًا، بل ضرورة وجودية في زمن الشح الطبي، ويكفي أن نعرف أن طبيبًا واحدًا مدعومًا بتقنية تشخيص ذكية يمكن أن يعالج في ساعة واحدة عددًا من المرضى أكبر مما يستطيع في يوم عمل كامل. إن الرهان اليوم ليس على التقنية في حد ذاتها، بل على إرادة سياسية حقيقية تجعل منها وسيلة لتحقيق العدالة الصحية وضمان الحق في العلاج لكل مواطن أينما كان. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة