كثيرا ما يخلط الكاتب و القارئ العادي بين المفهوم في دلالته الشرعية التي تكسبه الزخم و القوة و الامتداد،بل و القدسية أيضا، و بين التداول التاريخي للمفهوم الذي يمثل جهد الإنسان بالتحقق من ذلك المفهوم, و تجنبا لهذا الخلط المفهومي، و بعد إبراز الدلالة الشرعية للمفهوم، يجذر بنا أن نبرز تطوراته و تقلباته التاريخية في التفكير الإسلامي. ووظف المصطلح ملتبسا بمفهوم الهوية، المجاور له دلاليا، ففي مجال العقيدة أيضا ،وظفه فخر الدين الرازي عند حديثه عن ذات الله موضحا : “أن خصوصية ذاته (هي)التي بها امتازت عن سائر الذوات ،بمعنى المميزات التي لا تنبغي لغيره، و وظفه أيضا بمعنى الماهية. و خالف الإيجي صاحبُ ?كتاب المواقف? الرازيَ في هذا التحديد، فقد ذكر اللفظ مرات عديدة ، مضافة إلى الذات بمعنى ماهيتها ووجودها المستقل الذي يميزها عن غيرها، بل فصل في الحكم المنطقي على الشيء بأن “حكمه من حَيْثُ خُصُوصِيَّة ذَاته غير حكمه من حَيْثُ أَنه فَرد من أَفْرَاد مَوْضُوع الْكُلية".و لم يقبل التطابق بين الهوية والماهية باعتبار لوازم خصوصية الهوية التي تحقق وجودها الخارجي على عكس التصورات الذهنية، بل وميز بين المقدورات بناء على اختِلاف الشَّرَائِط الْمُعْتَبرَة فِي وجود المقدورات الْمُخْتَلفَة ،موضحا أن “ خُصُوصِيَّة كل مَقْدُور لَهَا شَرط مَخْصُوص بِهِ يعين وجودهَا من بَين المقدورات الْمُشْتَركَة". و خلص الشهرستاني في ?الملل و النحل? إلى أن “حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له". وغالبا ما يتم توظيف الهوية مضافة إلى الخصوصية بمعنى أن الخصوصية هي من لوازم الهوية، باعتبار الهوية هي الذات الخارجية ، والخصوصية هي الأوصاف التي لا تنفك عنها وتميزها عن غيرها. فالْوُجُود فِي الذِّهْن نفس الْمَاهِيّة الَّتِي تُوصَف بالوجود الْخَارِجِي، لكن الهوية هي الوجود المشخص الملموس، أي أن الهوية معطى ناجز ثابت، و إن اختلفت صورنا الذهنية عنه، فإنه لا يتغير في ذاته. فالصور الذهنية تخالف الهوية الخارجية فِي اللوازم المستندة إِلَى خُصُوصِيَّة أحد الوجودين وَإِن كَانَت مُشَاركَة لَهَا فِي لَوَازِم الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ ، فمعرفة الهويات معرفة شكلية سطحية، أما الخلوص إلى كنهها و جوهرها فإنه يستلزم الإحاطة بخصوصياتها . وهكذا يتضح أن الخصوصية هي أحد عوامل بناء الهوية على المستوى الذهني أساسا، بل وبزوال خصوصية الذات لا يبقى معنى لوجود هذه الذات من أساسها، “ إِذْ لكل شَيْء خُصُوصِيَّة مَا هُوَ بهَا هُو،َ فَمَتَى زَالَت الخصوصية لم يبْق ذَلِك الشَيْء" - كما أكد ذلك التفتزاني. بل إننا نجد في التراث الإسلامي بحوثا حول ما يعتبر خصوصية وما لا يعتبر، واختلفوا في ذلك أيما اختلاف، نظرا لأهمية تلك المقدمات النظرية في إثبات القضايا العقدية. وإجمالا فقد راموا التأكيد على أن ما يشكل لازما من لوازم الذات هو من خصوصياتها، وما سوى ذلك فعوارض تلحق الخصوصية لكنها سرعان ما تزول بسبب تغير الزمان أو المكان أو أحد العوارض الأخرى.ولذلك وظفوا الخصوصية بمعنى المنقبة التي تميز شخصا عن سائر الناس، بل وجعلوا صحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم خصوصية لأنها لا تتعدى من حازوا شروطا محددة إلى غيرهم. و نجد عند كل أهل العلوم الإسلامية القدامى، مثل أهل التفسير و علوم الحديث و علم الأصول و غيرها، كلمة خصوصية دالة على ما تميزت به ذات عن باقي الذوات من صفات لم تتعداها إلى غيرها مثل خصوصية آدم وخصوصية الصحابة و خصوصية بعض الآيات وخصوصية العلماء وهلم جرا. والخصوصية عندهم لا تنفي التكامل، نمثل لذلك بما ورد في الموافقات من أَنَّ “الشَّرِيعَةَ لَمْ تَنُصَّ عَلَى حُكْمِ كُلِّ جُزْئِيَّةٍ عَلَى حِدَتِهَا، وَإِنَّمَا أَتَتْ بِأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ تَتَنَاوَلُ أَعْدَادًا لا تَنْحَصِرُ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلِكُلِّ مُعَيَّنٍ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ وَلَوْ فِي نَفْسِ التَّعْيِينِ، وليس ما به الامْتِيَازُ مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ بِإِطْلَاقٍ". إذن في التداول التاريخي حافظت على معنى أصيل مستمر عبر تاريخها الطويل.وقلما استعمل الخصوصي بمعنى الخاص،لكننا نجد أن باحثين متأخرين في التراث الإسلامي قد عدلوا من مفهوم الخصوصية ، فنقلوها من مطلق التميز، إلى غلبة التميز ،كما فعل الدكتور أحمد الريسوني، في حديثه عن خصوصية علاقة المذهب المالكي بمقاصد الشريعة." وقصد تبيين كثرة استناد هذا المذهب لهذا العلم دون أن يقصد نفي اعتماد المذاهب الأخرى عليه. و كذلك اعتماده من قبل الأصوليين إلى -حد كبير- دون أن ينفي نفيا قاطعا اعتماده من قبل الفقهاء، و عاد إلى المعنى الأصيل في موضع آخر من كتابه. وشاع في الاستعمال إطلاق الخصوصية و إرادة ما هو خاص،أو إطلاق مصطلح الهوية و كأنه مرادف للخصوصية،و هو خلط مفهومي ترتب عنه خلط منهجي سنوضح خطورته عند حديثنا عن علاقة مفهوم الخصوصية بمفهومي العولمة و العالمية.