من فضل الله تعالى أن جعل في هذه الأمة مجددين أفرادا وجماعات، يجددون لها أمر دينها كلما تراكم عليها غبار الوهن، أو عضت عليها الذلة بالنواجد، بل إنه سبحانه جعل فيها أياما وذكريات في استحضارها واعتصار حكمها وفوائدها تجديد كذلك، وحفز كبير، وإيقاظ للعزائم والهمم، ومنافع شتى وهاهو حدث الهجرة الذي لا نعده حدثا/رقما كباقي الأحداث، ولكن آية من آيات الله، وفتح من فتوحاته، وكتاب حافل بالدروس الثرة، والعبر الفياضة الجليلة التي لا تنقطع، فإذا كانت الهجرة الأولى قد انقطعت بفتح مكة، فإنها هجرة ماضية يظل شلال الهجرة الباقية بعدها متدفقا هطالا رقراقا، وتبقى معاني الهجرة العامة حاضرة في كل تحرك من تحركات المسلم، وفي كل عزمة من عزماته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».. وهكذا نقرأ معاني الهجرة في عبادات المسلم اليومية والسنوية: فالصلاة هجرة تبدأ بهجر مشاغل الدنيا وملاهيها عند إجابة النداء «الله أكبر»، وتنتهي عند الوقوف بين يدي الله مع التجرد والتخفف من أثقال الأرض ومادياتها. والزكاة هجرة لشح النفس، وللتعلق بالمال المميل. والصوم هجرة للمتع المألوفة، والشهوات المعهودة، وهجرة للسيء من الأفعال، والفاحش من الأقوال. والحج هجرة للوطن والأهل فرارا إلى الله، وتلبية لندائه (وأذن في الناس بالحج) يتجلى ذلك في تلبية الحجاج «لبيك اللهم لبيك»، وذكر الله عامة هجرة لما سوى الله، وفرار إليه، وترك للغفلة.. وفي الهجرة نجد معاني الإخلاص الذي لا تمر الأعمال إلى بر القبول سالمة إلا به وبمعيته، حيث كانت هجرة المهاجرين من مكة إلى المدينة خالصة لوجه الله، لا يبتغون بها عرضا من أعراض الدنيا «ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله رسوله» كما نجد معاني التضحية، حيث ترك المهاجرون متاعهم، وأرضهم وهي عليهم عزيزة حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله! إنك لخير أرض وأحب أرض إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت». وهذا سلمة رضي الله عنه يمنعه المشركون من الهجرة بزوجته وابنه، فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيدا تاركا زوجته وطفله، وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة، حتى تمكنت من الهجرة بابنها. بل، هذا صهيب يمنعه المشركون من الهجرة بدعوى أنه أتى مكة صعلوكا حقيرا فقيرا فكان له المال الكثير من مكة، فما كان عليه إلا أن ترك ماله كله وهاجر، فلما بلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ربح صهيب». وفي خلق الأنصار، وحسن استقبالهم وإيوائهم للمهاجرين دروس جمة حيث كادوا يذهبون بالأجر كله، عن أنس قال: قال المهاجرون: «يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير.. حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله»، وهذا سعد بن الربيع الأنصاري يقول لعبد الرحمان بن عوف المهاجر وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما إن لي مالا فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك فأنا أطلقها فإذا حلت فتزوجها» وفي مثل هذه النماذج درس للمسلمين اليوم الذين تقاعسوا عن نصرة إخوانهم في فلسطين وأفغانستان وفي أكثر من مكان والذين يواجهون الإبادة والتقتيل والتنكيل.. وتبقى العبرة المستخلصة السارية من الهجرة: ذلك الفرار المستمر إلى الله باتباع أمره، وتلك الهجرة الدائمة من أشواك المعاصي «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وإعادة الاعتبار للعقيدة ونصرتها في زمن أخلد المسلمون للأرض وصارت الدنيا أكبر همهم، وقبلة هجرتهم؟! المصطفى الناصري