يسر من حيث سارت عصاه، يمشي متثاقل الخطوات، يعثر تارة ثم ينهض، ينفض النقع عن ثيابه، لا يرى أمامه سوى العتمة في واضحة النهار. المحجوب الرجل المكافح، بين حرارة زقاق "جنان المخزن" ب دمنات، والنور، الذي انطفئ من عينيه البلوريتين مند أن كان صغيرا. بشوش المحيى، لا يفارق عصاه ومذياعه؛ ففيهما وجد الخليل السرمدي في وحشة الغربة النكراء. المحجوب، حفرت سنين العدم أخاديد عدة في سحنتيه، قسمات وجهه شهدت على تغيرات الزمان والمكان وتعاقب الأجيال، من بيته ينطلق انطلاقة السلحفاة، يساحل سور سيدي واجهات المنازل ليصل إلى مقهى الحصير عند "عمي بكير" قرب "المارشي"، هناك يجالس أبناء جلدته، يناقش .. يضحك ..يسعل.. يمسح بلغما تجمهر على أنفه الأمجن.. لا يدخن إلى أعقاب السجائر، مردوف بين الفينة والأخرى برشفة من كوب قهوة مرصع باللازورد. حباه الله بذاكرة قوية وبرجاحة عقل، وعلم كامل بشتى المجالات .. لا يتحدث إلى و اقتنعت، ولا يجادل إلا وأفحم كل الإدعاءات .. رغم أنه لم يحمل لوحا ولم يزاوج بين قلم ومحبرة ولم يطالع كتاب ولا دفتره.. وهو القائل "سر اليوم يتفضح غدة، يا لي نعاس جنب الحية، ماتاكل لا عشى ولا غدة، وتبقى حالتك هي هي" في دليل عن النمام والواشي، الذي لا طالما يحذر خلانه منهم، ضمن ثقافة يستمدها من مذياعه الملفوف بشريط من "لاستيك"، معتبرا إياه منبع العلم و مفتاح لغز العالم. لتسأله فيجيب، وتستفسره عن ظاهرة ما فيحلل، و يفسر، و يعزز كلامه بأمثلة مقنِعة غير مقنَعة. المحجوب كانت أزهى أيامه، حينما تراه متأبطا جُزة الصلاة قاصدا باب مسجد القصبة، ليؤدي صلاة الجمعة، يرخي السمع لصوت الخطيب، ينفعل في الترهيب ويخشع في الترغيب، وهو لا يكف عن الغمغمة في سره، ويده لا تبخل في مداعبة لحيته المجعلكة. المحجوب قبيل انتشار العباد في الأرض، تجده يزحم باللقمة اللقمة، ويسرع في المضغة المضغة بعد أن ولجت يده في قصعة الكسكس كالرخ. لا يتكلم ولا ينبس بحرف، يتحسس اللحم من بين سبع خضار، فيسحب يده لتهوى ثم يعيدها لتحارب أسراب الأيادي الأخرى، في محاولات جادة لسد رمق بطنه، ولو كلفه ذلك الرعي في أرض الجيران، متحدثا وهو يلعق يده اليمنى، التي علق بها فتات الكسكس "الجوع كافر، وأنا شحال هادي ماكليت الطعام.." مستطردا حواره العشوائي "كون غير جابو لينا شي زكَيفة ديال البن..". يقول عبد السلام المجاري، أحد أصدقائه المقربين " كنا نراه آتيا من بعيد ونحن زمرة من الشيوخ داخل مقهى الحصير، بعد أن فتحنا موضوعا للنقاش صعُب علينا التشعب فيه، والإطناب في تحليل مجمل جوانبه، ليقف على رؤوسنا، بعد تحية ألقاها علينا قائلا : أين أنتم من الحديث..فنقول هنا وهنا ..ليجلس جلسة القرفصاء، ضاربا الأخماس بالأسداس ومستشهدا بقولة هذا، وناهيا عن فعل ذلك.. ومحللا بلباقة، ومحترما بذلك مبدأ ثقافة الاختلاف. المحجوب هو واحد من الناس الذين يأكلون "القوت وينتظرون الموت" لا يطمح في التغير، لا يندب حظه العاثر في فقدانه لنعمة البصر، فبصيرة قلبه بمثابة نبراس ينير له طريقه المضني، ويحول له ألوان الظلام الدامس إلى ألوان زاهية، يمزجها كيفما يحلو له، ويرسم بها أشكالا في عالمه المنسي ذلك. هشام الضوو صحافي بجريدة "الصحراتء المغربية"