الخط : إستمع للمقال في حوار منشور على صفحات صحيفة La Libre Belgique بتاريخ 24 ماي 2025، خرج عمر الراضي مرة أخرى، لا ليواجه أسئلة جادة أو تحقيقا صحفيا حقيقيا، بل ليُستقبل بما يشبه جلسة تدليك رمزي كامل، عنوانها: "مرحبا بك يا ضحية، احكِ لنا مأساة مظلوميتك". من العنوان، الذي وصف إدانة الراضي بأنها "انتقام وفضيحة"، وحتى آخر سؤال، بدا الحوار وكأنه سُجّل داخل غرفة علاقات عامة لا داخل قاعة تحرير مستقلة. الصحفي Vincent Braun، الذي يفترض أنه ينتمي إلى مؤسسة إعلامية محترمة، لم يُكلّف نفسه عناء استحضار التهم الخطيرة التي أُدين بها الراضي بحكم نهائي من محكمة مغربية، ولا أبدى الحد الأدنى من الالتزام المهني في طرح الأسئلة. لم يُسائل الضيف عن تفاصيل القضية، لم يطلب منه تفسير المراسلات المثبتة مع عناصر استخبارات أجنبية، ولا عن علاقته التمويليّة بمؤسسات ذات خلفيات أمنية، ولا حتى عن هوية "أرنولد سيمون" التي شكّلت مفصلا استخباراتيا في الملف، بل اكتفى بدور الناقل السلبي لرواية ضحية مزعومة تبحث عن تلميع سجلها. فبعيدا عن مقتضيات الصحافة المهنية، جاءت الأسئلة مصاغة كأنها خُطّت مسبقا على طاولة تحرير مع محامي الدفاع: "هل كانت إدانتك وسيلة لتشويهك كصحفي؟"، "هل تعتبر نفسك حرا؟"، "ما شعورك بعد العفو الملكي؟"... كلها صيغ تعزز المظلومية دون أن تتقاطع مرة واحدة مع جوهر القضية: كيف ولماذا أدين عمر الراضي بتهمة التخابر؟ وأين هي شهادة الضحية في جريمة الاغتصاب؟ وماذا تقول المحاضر الرسمية والاعترافات والمراسلات المحجوزة؟ في الحقيقة، لم يكن هذا حوارا، بل تمرينا فاشلا في العلاقات العامة، يهدف إلى هندسة سردية جديدة لعمر الراضي كمفكر حر و"رمز مضطهد"، في حين أن الوقائع القضائية والوثائق الأمنية تكشف عن شيء مختلف تماما. عمر الراضي لم يُعتقل بسبب رأي أو مقال، بل بسبب تورطه في نشاط استخباراتي تم توثيقه بالأدلة، وباعترافاته هو نفسه. الرجل كان على اتصال دائم بالضابط البريطاني السابق كلايف نيويل، وهو عميل سابق في جهاز MI6 البريطاني، عمل في موسكو وطهران وكابول، وشغل لاحقا موقعا مؤثرا في شركة G3 Governance البريطانية المختصة بتقديم خدمات استخباراتية للقطاع الخاص والمؤسسات السيادية الغربية. الراضي لم يُخفِ عمله مع كلايف نيويل، بل أقرّ به صراحة وادعى أنه كان تعاونا في إطار دراسة اقتصادية حول استثمار أجنبي في شركة مغربية. غير أن النيابة العامة، استنادا إلى نتائج تحقيقات الشرطة القضائية، اعتبرت أن طبيعة هذا "التعاون" تتجاوز الإطار الاقتصادي الظاهري، لتندرج ضمن أنشطة استخباراتية مموّهة. فالسياق المهني لنيويل كضابط استخبارات سابق في MI6، والمصطلحات المستخدمة في الرسائل المتبادلة مثل "الحصول على معلومات من مصادر بشرية"، إلى جانب هوية الجهة المشغّلة له، وهي شركة G3 Governance ذات العلاقات الأمنية الوثيقة، كلها عناصر دفعت إلى تصنيف هذا النشاط على أنه يُشكل خطرا على الأمن الوطني ولا يمت بصلة للعمل الصحفي أو البحث الأكاديمي. وإلى جانب نيويل، كان الراضي على اتصال دوري بشخص يُدعى أرنولد سيمون، والذي تبيّن لاحقًا أنه اسم مستعار لضابط استخبارات بلجيكي يعمل بالتنسيق مع سفارة هولندا. وقد قدم الراضي عدة روايات متضاربة حوله: تارة مسؤول علاقات عامة، وتارة موظف حفلات، ما عزز فرضية كونه شخصية استخباراتية حقيقية لا مدنية. كما كان للراضي علاقات تمويلية مشبوهة مع مؤسسة Bertha Foundation، التي تمول باحثين في مواضيع شديدة الحساسية، خصوصا ما يرتبط بالنظام الملكي والعلاقات الخارجية للمغرب، وقد ربطته هذه المؤسسة بمنصات دعائية مثل Witness وFiSahara، المعروفة بخدمة أجندة انفصالية ممنهجة ضد المغرب. ناهيك عن ارتباطاته بمكتب K2 Intelligence، المختص في الاستخبارات الاقتصادية، والذي تشير تحقيقات دولية إلى اعتياده استخدام الصحفيين كغطاء لجمع معلومات استخباراتية وتحويل الأموال عبر شبكات غير تقليدية. فهل هذه الوقائع التي وثقتها التحقيقات وأكدتها أحكام القضاء المغربي مجرد "خرافة انتقام سياسي"؟ وهل المطلوب من الرأي العام أن يبتلع هذه المزاعم دون مساءلة؟ الراضي قال في الحوار إنه كان "في عزلة تامة" في سجن تيفلت، لكنه في نفس الوقت تحدث عن قراءة الكتب، الاستماع للراديو، مشاهدة التلفاز، التحدث بالعزف على العود، إجراء تدريبات، وغيرها من الأنشطة. ثم يقول: "لا أعرف سبب اعتقالي"، في تناقض سافر مع ما كشفه التحقيق حول تعامله المالي والمراسلات الاستخباراتية. إن هذه الخرجة الإعلامية الجديدة التي قام بها عمر الراضي تتقاطع من حيث الغايات والمضمون مع ظهوره السابق في بودكاست "بصيغة أخرى"، والذي سبق أن شكل بدوره عملية دعائية لإعادة تأهيل صورته عبر خطاب الضحية والتحايل على تفاصيل الملف القضائي. في الحقيقة، الراضي لا يتحدث للجمهور المغربي. خطابه موجّه للرأي العام الغربي، للمنظمات الحقوقية، وللدوائر الإعلامية التي تسعى لتصنيع أيقونات وهمية تخدم أجندات سياسية معروفة. هو اليوم لا يسعى لتبرئة اسمه قانونيا، بل لتلميع صورته رمزيا وإعلاميا. خرجة La Libre، شأنها شأن البودكاست السابق، ليست إلا حلقة جديدة في مسلسل تبييض السجل الاستخباراتي للراضي، وصياغة "سيرة بديلة" مفصّلة على مقاس استثمارات مستقبلية في منظمات أو مراكز دراسات أو حتى مشاريع إعلامية أو ربما ملف "لجوء سياسي"، حيث يُعاد تدوير "العميل السابق" في هيئة "صحفي منفي". ما وقع في هذا الحوار لا يندرج ضمن حرية التعبير، بل ضمن حملة تضليل ممنهجة. وما فعله الصحفي Vincent Braun ليس مساءلة، بل تواطؤ. أما عمر الراضي، فهو لا يدافع عن قضية حرية، بل يسعى لغسل ماضٍ مثقل بالتخابر والاعتداء الجنسي، عبر نحت سردية مصطنعة وزائفة. إن هذا التواطؤ الإعلامي مع عمر الراضي لا يمكن فصله عن نمط منهجي في تعامل الإعلام الغربي، وخاصة البلجيكي، مع قضايا التخابر والصحافة. هذا الإعلام الذي منح الراضي منبرا لتبييض سجله، سبق له أن تبنى خطابا مغايرا تماما في حالات مشابهة عندما تمس القضية الأمن القومي البلجيكي أو عندما يكون المعني صحفيا بلجيكيا متهما من طرف دولة أخرى. فعندما وُجهت تهم التخابر مثلا إلى الصحفي البلجيكي غيدو كيندت (Guido Kindt)، الذي اعترف بتجسسه لصالح المخابرات السوفياتية على مدى 25 سنة، لم تُفتح له المنصات ليبرر أفعاله أو يدّعي الاضطهاد، بل تم التعامل معه كخائن ومهدد لأمن بلاده، وقدمت الصحيفة تفاصيل القضية بلهجة رصينة تستند للرواية الرسمية دون تبرير أو تلاعب بالسردية القضائية. لم يكن هناك أي حديث عن السياق السياسي أو الذهنية البوليسية، بل تم احترام مؤسسات الدولة ونقل الوقائع كما هي. وعندما يتعلق الأمر بصحفيين بلجيكيين يتعرضون للاتهام خارج بلجيكا، حتى في حالات الاشتباه الجدي بالتجسس كما حدث مع صحفيي قناة VTM في لبنان، فإن النبرة تنقلب لتصبح دفاعية، بل تُوجَّه الاتهامات إلى الدولة المُضيفة التي يُشَكّك فورا في روايتها، بينما يُقدَّم الصحفي البلجيكي دائما كضحية تُلاحَق بسبب جنسيته أو نشاطه الإعلامي، حتى وإن وُجدت مؤشرات على خرق قانوني أو أمني. لكن المفارقة العميقة تتجلى عندما يكون الصحفي غير بلجيكي، ومن دولة غير بلجيكا... كالمغرب مثلا، وتكون القضية مرتبطة بأمنها القومي. في هذه الحالة، تُقصى الرواية الرسمية تماما، وتُمنح المنصة للمدان لتقديم نفسه ك"رمز للحرية"، وتُطمس الأدلة الجنائية، وتُستبدل بسرديات عاطفية عن العزلة والظلم والسجن، بينما يُغض الطرف عن الارتباطات الاستخباراتية الموثقة والعقوبات القضائية الصادرة بحقه. هذا الانحياز الانتقائي لا يُعبّر عن تضامن حقوقي، بقدر ما يكشف عن منطق استعلائي حقير، حيث تُمنح السيادة القانونية للدولة الغربية وحدها، وتُطعن شرعية المؤسسات في دول الجنوب كلما مست صحفيا يتحدث بلغة "الضحية"، ولو كان مدانا بحكم نهائي في جرائم تمس الأمن والكرامة الإنسانية. الوسوم المغرب بوغطاط المغربي عمر الراضي