الخط : إستمع للمقال بينما تواجه دول كثيرة الإرهاب عبر "تدريب المجتمع على الصمود"، وهي استراتيجية تقوم على تكييف المنظومة السلوكية للأفراد مع المخاطر وتوقع حدوث الهجمات الإرهابية، اختار المغرب المواجهة لمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه وفق مقاربة أمنية وقائية استباقية تقوم على حماية المجتمع من التهديد الإرهابي، إذ تواجه الأجهزة الأمنية التهديدات الإرهابية بنفسها وبكل ثقلها عبر استراتيجيات متغيرة بحسب السياقات والتحولات التي تعرفها التنظيمات الإرهابية ومجالات نشاطها البعيدة أو القريبة من خلال مجهودات استخباراتية وميدانية وعمل متواصل في الحرب على التطرف العنيف. لقد شكلت فكرة "تدريب المجتمع على الصمود" التي دافع عنها "ديفيد أوماند" في نظريته عن "حماية الدولة" مؤشرا على فشل مخططات التنبيه الاستراتيجي والمعلومات الاستخباراتية في منع وقوع الهجمات الإرهابية التي لا يمكن القضاء عليها، وبذلك نهجت الكثير من الأجهزة الاستخباراتية بناء القدرة المجتمعية على الصمود بدل تكثيف الجهود الأمنية في مطاردة الجماعات المتطرفة وتفكيك الخلايا الإرهابية، وهذا ما تفعله الأجهزة الأمنية المغربية اليوم، بمسؤولية وطنية وتضحيات جسيمة، حيث تواجه الإرهاب بدل تدريب المجتمع على الصمود حال وقوعه. إن نجاح خيار المواجهة الذي تبنته المؤسسة الأمنية واضح في حجم الخلايا الإرهابية التي جرى تفكيكها داخل المملكة، سواء المرتبطة بمنطقة الساحل والصحراء أو تلك التي جندها تنظيم الدولة "داعش". وقد شكل تحييد الكثير من المشاريع التخريبية مؤشرا على فشل هذه الجماعات المتطرفة في تحقيق اختراق داخل المملكة. ويبدو أن تفوق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهابية وراء تحرك كبريات الأجهزة الاستخباراتية والأمنية في العالم نحو المغرب لاختبار وتجريب هذا النموذج الذي يعكس تحولا في نمط التفكير بشأن الأمن وإدراك أهمية الاستثمار في بناء مؤسسة أمنية قادرة على مجابهة التحديات بدل الاكتفاء ببناء القدرة الوطنية على الصمود للتخفيف من أثار العمليات الإرهابية. والشاهد اليوم حجم الزيارات وشراكات التعاون التي وقعها عبد اللطيف حموشي مع رؤساء كبريات الأجهزة الأمنية التي تملك تقاليد راسخة في العمل الاستخباراتي. على مستوى الخصوصية يجب الإقرار بأن المغرب هو البلد الوحيد في المنطقة الذي استحالت فيه على التنظيمات الإرهابية خلق بؤرة مجالية داخله، تتخذها مواقع للتدريب والهجوم والتموقع. وقد استمرت محاولات كثيرة لمخطط التوطين باءت كلها بالفشل، كان آخرها "أسود الخلافة في بلاد المغرب الأقصى"، حيث سعى أفراد التنظيم إلى الاستقرار في ضواحي منطقة الرشيدية في محاولة لخلق امتداد ترابي. ربما هذا ما يفسر أن التنظيمات الإرهابية في المغرب تركز على نموذج الخلايا داخل المدن بشكل خاص وإن وقع تحول نوعي خلال السنوات الأخيرة نحو الضواحي والمناطق الجبلية، التحول شمل أيضا تشجيع الجماعات المتطرفة لأسلوب "الذئب المنفرد" بديلا عن العمل الشبكي المنظم في شكل خلايا، مستغلا تنامي وظائف البيئة الرقمية في الاستقطاب والتجنيد. يمكن قياس نجاح النموذج الوطني على ضوء العمليات المتتالية لتفكيك الخلايا والذئاب المنفردة، فالأرقام تشير إلى تراجع عدد الخلايا وانخفاض مستويات التهديدات التي تحرك المشاريع التخريبية، حيث صنف مؤشر الإرهاب العالمي المملكة ضمن البلدان الآمنة من التهديدات، بينما أبقى على مستويات متباينة من المخاطر في بلدان عربية وإفريقية في الجوار وداخل العمق الإفريقي. في التجربة المغربية لا يقف الأمر عند مواجهة المخاطر والتهديدات الأمنية بل يتعداه إلى تقدير مساراتها وتأثيراتها المحتملة، فكل التقديرات الأمنية بشأن ما يجري في الساحل والصحراء يتأكد صحتها ما يدفع المجتمع الدولي إلى زيادة التعاون مع المغرب، وآخرها فرنسا والإمارات العربية المتحدة. تُدرك الجماعات الإرهابية أن الإرهاب معركة تواصلية بامتياز، تُستخدم فيها أحدث التقنيات لتصوير العمليات الإرهابية على أنه انتصار على التخطيط الأمني وهزيمة لتكنولوجيا المراقبة الأمنية وفشل في تقدير الأخطار وتوقعها. وبفضل العولمة والتفاوت في سرعات المواجهة الأمنية لاستخدامات الجماعات المتطرفة للصور والمقاطع للترويج، توجهت الدول إلى تبني استراتيجيات للتقليل من حجم الهجمات الإرهابية داخل البيئة الرقمية. ضمن هذا المستوى أيضا، أبانت المؤسسة الأمنية على استباقية سياساتها نحو تجفيف نشاط "الجهاد الإلكتروني" ومنع تحويله إلى منصة للاستقطاب والتجنيد. تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن تزايد الموالين ل"داعش" من رواد المنصات الذين تم توقيفهم بسبب نشاطهم الإرهابي على الأنترنت، حيث بلغ عدد الموقوفين من قبل المصالح الأمنية المغربية منذ سنة 2016 نحو 650 شخصا حاملين لمشاريع إرهابية. ويؤشر هذا الرقم على حقيقة مفادها أن التنظيمات الإرهابية، بعد فشلها في إيجاد مجال ترابي داخل المملكة والضربات الأمنية التي تلقتها خلاياها، وجدت في الأنترنت ملاذا آمنا وبديلا عن الرقابة وعن افتقارها إلى بنيات وهياكل تنظيميّة على أرض الواقع. ومع ذلك يبقى تنامي الطلب على الأنترنت، في الاستقطاب والتجنيد والدعاية، ظاهرة عالمية وتحديدا في الويب المظلم (Web Dark). إن استمرار تفكيك الخلايا الإرهابية يظهر أن المعركة ضد الإرهاب باقية، وأن إصرار التنظيمات المتطرفة على استهداف أمن واستقرار المملكة لا يتوقف، فالمغرب كان دائما جزءا من أجندة هذه الجماعات الإرهابية منذ ظهور "القاعدة". وحين نستحضر التفوق الأمني على الإرهاب وكيف أن خيار المواجهة التي سلكته الأجهزة الأمنية كان بمثابة تحدي لهذه التنظيمات نفسها، نُدرك جيدا أن الإرهاب والتشهير قد يختلفان في الوسائل لكن هدفهما واحد: إضعاف القدرة الأمنية على المواجهة.
الوسوم الأمن المغرب الحموشي المغرب مكافحة الإرهاب والتطرف