الخط : إستمع للمقال كل المقومات حاضرة لتجعل منها الشاعرة الهرم، المازجة بين ثقافة عريقة متوارثة، ولمسات إبداعية حديثة ومتطورة: الصدق، الأنفة، العمق، الشهامة.. شاعرة تضيف على المفردات معاني ودلالات منبثقة من مخزون قلبها، وتريدها مشتركا إنسانيا مع الآخرين. عالية من دون أن تكون متعالية، تضع لنفسها مسافة للترقب والاحتماء. احتلت مع نخبة من الشعراء المغاربة، الصدارة في بورصة التميُّز، وتقاسمت معهم أغلفة المجلات الثقافية المغربية والعربية.. إنها الشاعرة الحكيمة، لطيفة السليماني الغراس، التي صارت بها رحلة الأجداد من تلمسان إلى البرانس، وبعدها قرية با محمد الشرقي، ثم مدينة الفاتح (المولى إدريس)، لتستقر بمكناس، مدينة الميلاد والنشأة والتألق. مخزونها الأدبي الغزير والمتميز، مَرّ في مساره التراكمي، بتأثيرات واتجاهات أضفت عليه جمالية لصيقة بجماليات المتنبي، بشعره البلاغي الفريد، وابن زيدون بعطائه الرومنسي المتدفق، وقد فتح خيالها، كما تقول، "على عالم الأندلس، في نقلة من بغداد إلى قرطبة وغرناطة، وما رافق ذلك من رُقي في الفن الغنائي، وفي الموشحات، الفن الشعري الأندلسي بامتياز". ومن الشعر الموزون المقفى الذي نظمت به بعض القصائد، جاء بدر شاكر السياب، أمير الشعر الحر، ليمارس عليها جاذبية ثلاثية المقاصد والأغراض: جاذبية الشعر النضالي ضد الاحتلال والقهر، وقد عايشت وهي طالبة هزيمة 67 التي "وسمت ذاكرتي، تقول لطيفة، بميسم ما نسيته أبدا، وبعدها حرب العراق، ونسجتُ من آثارها نصوصا تحمل شجن الوطن العربي". ثم جاذبية الشعر الوجداني الذي اجتاح أعماقها، وحوّل قصائدها من شعر بطولي ملحمي، إلى شعر يرسم الواقع العربي برؤية تراجيدية، ويمنح الحوادث ثقلها الإنساني. شعر قادها ولا يزال، إلى البحث في أعماق ضميرها عن معنى الكائن الذي أسهمت العولمة السياسية والثقافية في تشييئه وتبضيعه. "أعشق الغوص في أعماق الذات بحثا عن أجوبة شافية لكافة الأسئلة الوجودية.. في حالة من البحث المستمر عن ذاتي في مرآة القصيدة، بعيدا عن ظلم هذا العالم وجهله"، تقول شاعرتنا المكناسية، قبل أن تستطرد: "الشعر بكل اشكاله واساليبه، هو بالنسبة إليّ، فعل صوفي، عملية انجذاب (لغوي) تجاه اللايقين والمجهول". وفي سياق هذا التميز المتشبع بروح الهوية والانتماء، تأتي الجاذبية الثالثة من الشاعر المتمرد، أمير الشعر الحر، بدر شاكر السياب الذي أيقظ فيها، ومعه نازك الملائكة، وغيرهما من رموز القصيدة النثرية، شعلة الكلمة المتحررة من قيود الوزن والعروض. "كنت أنظر إلى قصيدة البحور والقوافي، على أنها ذروة الإبداع، لا يدركها إلا الشعراء الفطاحل. وظل هذا اليقين يعشعش في مخيلتي لمدة من الزمن، قبل أن أخرج بقناعة على أن "الشعر، كما الإبداع بمختلف أشكاله، حاضنته الحرية التي تحميه من سلطة المرجعيات القديمة، وتساعده على ممارسة فعل التغيير في النسق الكتابي شكلا ومضمونا"، تقول لطيفة، قبل أن تستدرك بأن عشقها للسّياب، ونازك الملائكة، ومحمود درويش وغيرهم من أمراء الشعر النضالي الحر، لم يُحدِث أية قطيعة لها مع الشعر المُقفّى الذي سكن الوجدان العربي بأعلامه الكبار، لقرون من الزمن. لم يُصرفها الإبداع عن الحقل الجمعوي والسياسي، ومشاغل الناس، كعضوة سابقة في جمعية الشبيبة الاستقلالية، ثم في الاتحاد العام لطلبة المغرب، قبل أن تنخرط في عدة جمعيات لرعاية الأسرة وحماية الطفولة. وهي طالبة جامعية، كانت لها محاولات في القصة القصيرة، لكن الشعر أخذها بعيدا إلى "عالمه المتشعب المتلون، بين الملاحم القديمة والشعر الجاهلي والأموي والعباسي والمعاصر...". "تملّكني عشق الكتابة الشعرية بلحظاته الوجودية واللاوجودية، وبزخمه الإنساني الفسيح، واستهوتني حركة فك أغلال القصيدة، ونقل ما يعتور في نفسي من أحداث ومواقف"، تقول الأديبة لطيفة في دردشة ثقافية جمعتنا على ضفاف نهر السين بباريس. وجاء التحدي الذي فتح أبواب الإصرار بداخلها، من خلال ديوانها الأول "دخان اللهب"، تلاه "صخب النفس"، ثم " الصراخ المبحوح"، و" ذيول الذكريات"، إلى الديوان التاسع قيد الطبع، "وللشعر نبرات". في منحى الحديث مع لطيفة الإنسانة، تسكنك القناعة بأن طريقها لم يكن مفروشا فقط بالزهور، وهي التي تحملت جبالا من المسئوليات، بدأت بمسئولية البيت، والأسرة، والعمل كأستاذة ومفتشة بالتعليم الثانوي، ثم مسئولية العمل الجمعوي والثقافي، كرئيسة لجمعية "عبق الخريف للثقافة والإبداع"، التي تولى رئاستها الشرفية الكاتب والناقد المسرحي الكبير، الدكتور عبد الرحمان بن زيدان، وتضم نخبة من أبرز النقاد والشعراء المكناسيين. أشرفَت قبل سنتين على تنظيم مهرجان "عبق الخريف للشعر" الذي خصص نسخته الأولى للمولى إسماعيل، ولفن الملحون كرمزين للمدينة. فيما ستخصص النسخة الثانية لرمز الصوفية، سيدي قدور العلمي. أنشأت صالونا أدبيا أسمته "صالون خناثة بنت بكار" وهي من رموز تاريخ مكناس. مثلّت المغرب في الكثير من الملتقيات العربية والدولية، وحلّت ضيفة شرف على الملتقى الأدبي والفني الذي نظمه "منتدى أدباء المهجر بباريس" في الذكرى التاسعة لتأسيسه، كما تُرجمت بعض نصوصها الشعرية إلى اللغة الفرنسية، من طرف الدكتور أحمد إسماعيلي، والشاعرتين أمال برادة، وصباح الهزاز. حين تسألها عن الوضع الإبداعي الإنساني الراهن، ترد الشاعرة الغراس بنبرة تحسُّرية عن واقع يتميز، برأيها، ب"توحش العولمة الثقافية. واقع يقتضي من رجالات الأدب دورا أخلاقيا فاضحا لقيم الاستهلاك والتبضيع". والسؤال الذي يجب طرحه وإعادة طرحه الآن، تضيف الشاعرة الحكيمة، كما يلقبونها، هو إلى أين يسير الإبداع في عالم الذكاء الاصطناعي؟ "فإذا كنا على علم، بما أسماه كانت Kant بالكسل الفكري، أي ترك الآخر يوجهنا، وتأكيد نظرية السيد والعبد(هيجلHegel )، ومشاركة الإعلام والسياسة في تشكيل الرأي العام، عن طريق الكلمة الملغمة، والتي يتحقق بواسطتها فعل التبعية والهيمنة، فما بالنا بتحكم الآلة ومنع وجود العقل الفعال (الفارابي). أما عن الواقع الإبداعي المغربي، فيُسير، برأيها، في المنحى الصحيح، لولا "الزور الإعلامي" الذي تمارسه بعض المنابر والمواقع المغربية، والقائم على "تحميد وتمجيد أشباه الشعراء الغارقين في البلاجيا وفي السرقات الأدبية، على حساب شعراء دمغوا بقوة الشعر المغربي بشقيه العربي والفرنكفوني، ولهم ما يلزم من مقومات فنية وتخيُّلية مكنتهم من الإبداع في الحداثة الشعرية دون تزويق أو مكيجة ". دور الأدباء، تضيف شاعرة الوجدان، يقتضي "تصحيح الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه "الإعلام الثقافي"، وتبيان أن من يمتلك قلما صادقا، فهو يمتلك ضميرا نقيا". "وإني لأعجب في هذا الباب، من شاعرات أصدرن قبل خمس سنوات، ديوانا واحدا بالفرنسية من بضع صفحات، في مسيرة تأليفية عمرها 40 سنة، وتجدهن، في زمن الضجيج التضليلي، في الصدارة الإعلامية، فيما الديوان المذكور الذي طُبع بدار نشر أجنبية، لا أثر له، لا في الخزائن، ولا في المكتبات، ولا حتى في الأكشاك المغربية. ديوان لم تنته صاحبته من قراءته، حتى أحدث ضجيجا إعلاميا مُقززا، بشأن لونه وعطره وهندسته. إنه لعمري التتفيه الثقافي في أبهى صوره، ينضاف إلى ظاهرة تفريخ وتناسل ما يشبه الجمعيات الثقافية المترنحة بين تنظيم السهرات الغنائية، مدفوعة الثمن، وبين استضافة كُتاب لتقديم مؤلفات بالية طواها النسيان. استضافات سطحية، مظهرية، تروم الاستهلاك والتزويق والمكيجة، في تعاملها مع الفعل الثقافي.