في زُحمة الحياة وتَلاحُقِ مُتطلَباتِها، الّتي لا تنتهي، قلّما تجُود علينا أيّامُنا، المُهروِلة بلا كثيرِ معنى' نحو الأمام، بلحظاتِ صفاءٍ نفارق فيها "بُرودة" الإسمنت.. فقد كثر القتل وازداد، وعظمت الجرائم واشتدت المعاناة، وحالات القتل قد تضاعفت، وانتشر الموت في كل مكان، وعم كل البلاد، وما استثنى الموتُ من حممه الأطفال والنساء ولا الشيوخ، بل دمر المنازل والبيوت، وخرب كل شيء مما كان للإنسان، ومما عمّر به الوطن، وما زالت طاحونة الموت تدور، تحصد أرواح الآمنين، وتقتل المواطنين، ممن يسألون الله في كل الأيام أن يرحمهم، وأن يحفظ بلادهم، ويعيد إليهم حقوقهم. كما سادت الفوضى أوطاننا، وتآمر على الحق رجالنا، وتحالف مع البعض على البعض من بين أهألينا، وانقلب فريقٌ على الشرعية، وخالف نتائج الديمقراطية، وأعلن الفتنة على فئةٍ من الأمة، بلا ذنبٍ ارتكبته.. فلا رحمة علينا، ولا شفقة على أوضاعنا، بل نهم التجار، وجشع أصحاب رأس المال.. إهانة الآخر في مجتمعنا أصبح فنا نتقنه، ونطوره ونحسنه، نرثه ونورثه، نعلمه لأطفالنا، وينشأ عليه شبابنا، ونحاسب أنفسنا إن قصرنا في رد الإساءة، أو عفونا عن مقدرة، أو سامحنا عن إرادةٍ لا عجز، أو تجاوزنا عن رغبةٍ ومحبة، فلا مكان عندنا للصفح الجميل، ولا للكلمة الرقيقة، ولا للابتسامة الجميلة، ولا للفتة الحلوة، ولا قدرة عندنا على الاستيعاب وكظم الغيظ والعفو عن الناس، غضبنا كالبركان، يحرق ويدمر ويخرب، يثور فجأة، وتتصاعد حممه بسرعة، وتعلو ألسنته كالشياطين، ولساننا كالبندقية الآلية، سريعُ الطلقات لا يتوقف ولا يتعثر، ولا يستريح ولا يستكين، وشياطيننا حاضرة، جاهزة ومستعدة، من الإنس والجن على السواء، كلاهما يتبارى مع الآخر، أيهم يكون أسرع غضباً، وأشد لعناً، وأقسى وجعاً وإيلاماً… في المغرب أماكنُ كثيرة تستحقّ أن نهرُبَنهرُبَ إليها من روتينَ أيّامنا نحو أحضانِها السّخيّة لاكتشاف سحر طبيعتها والاستمتاع به والتّعرّف إلى ناسِها الحقيقيين. لكنّنا نترك هذا الامتيّاز للغُرباء، لننشغل نحنُ بمُطارَدة مُتطلّباتٍ لا تنتهي في زمنٍ مُهرولٍ بلا مَعنى' -بلا مَعانٍ- لِمَ لا نسأل هؤلاء الذين يهرُبون أزمانَهُم المُتسارِعة هناك، في بُلدانِهم الباردة، ويتنافسون في الإيغال في جغرافيانا الخلفيّة الرّائعة!.. كمْ يكون صعْباً أن تجد فجوة، ولو ضيّقة، في زمنِنا اللاهث هذا، للهُروب من اليوميِّ الجاثم على صدْرك بمسؤولية ثقيلة اسمُها ضرورة توفيرُ مُتطلَّبات الحياة الصّعْبة، التي فرضها عليك السّعي وراء "طْرفْ ديالْ الخْبزْ"!.. لكنْ حين تتأتّى' هذه الفجوة، ويتخلّص الواحدُ منّا من مشاغله، التي لا تنتهي.. حين تهرُب (أنتَ، أنا ونحنُ) بعيداً عن ضجيج المدينة وتنسَلّ إلى أماكنَ في العُمقِ المغربي، الجميل، وتُتيح لنفسِك فرصة استرجاع الأنفاس من الضغط اليومي الخانق.. حين تصعد نحو لحظاتٍ صادقة مع النّفس، بعيداً عن زحمة الشّوارع الضّاجّة والفضاءاتِ المُلوَّثة والعقولِ المجنُونة.. حين تصيرُ (أصيرُ ونصير) رفقة الطّبيعة العذراءِ، السّعيدة في صمتها، الذي لا يخدشُه إلاّ خريرُ ميّاهٍ منسابةٍ في صفاء لا يُضاهيه غيرُ صفاءِ الأمكنة والنّاس أو هبّةُ ريحٍ لطيفةٌ أو صوتُ طائرٍ، وحيدٍ أو رفقة سربٍ.. حينذاك، تشعُر كمْ هيّ الحياة قاسيّة وغيرُ رحيمة بك (وبكثيرين مثلك ولا شكّ)، وهي تحْرِمُك (وتحرمهم) متعة الاختلاء إلى النّفسِ والتوقّفِ، ولو ساعاتٍ، عن اللّهاث خلْفَ سرابِ اسمُه الآتي، اسمُه المُستقبَل.. حين تحضنُك الطّبيعة، بنقائها الأبديّ، وتنتشلُك من أوهامِك الحمقى'، ومن حساباتِك، الّتي لا تنتهي، في وضعِ الخطط والإستراتيجيّات، القاصرة لو تدري، لمُجابهة حياة جامحة، ضاغطة، مُستفِزّة، ساخرة من أحلامك التّافهة.. حينذاك، تشعرُ كم أنت ضئيلٌ، وكم هي بَلهاءُ كلُّ انشغالاتك بتحسين ظروف الحياة وبناء مجدٍ و/أو أمجادٍ شخصيةٍ صغيرة.. حين تُجالسُ أشخاصاً حقيقيّين، نفوساً خاماً، مُجرَّدة من كلّ الحسابات الفردية الضيّقة، مِن التّطاحُن اليومّي على دروب الحياةِ من أجْلِ غدٍ قد يكون أفضلَ وقد لا يكون.. حين تستمع إلى نبض الحياة الجماعيّة وتطلُّعاتِ أناسٍ بسطاءَ يُوزّعُون، ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال، وبلا حساب أو "تخطيط، ابتساماتٍ خالصةً، غيرَ مدفُوعة الثّمن، تشي بنقاء الرّوح وصفاءِ السّريرة وبغيابٍ تامٍّ، وجماعيٍ، لشيءٍ تافِهٍ لا يُعششُ في غير دماغك وأدمغة أمثالِك ممّن سلبتْهُم روعةَ الحياة ونكهتَها مَشاغلُ مريضة وهوَسٌ غيرُ مُبرَّرٍ.. حينذاك تشعُرُ أنّ المدينة قد سلبتْك الكثيرَ من صدقك، من إنسانيّتك ومن حقيقتِك، الّتي طمرتْها جدرانُ البناياتِ الشّاهقة في مُدنٍ إسمنتيّة باردة صرتَ، بين مُنعرجاتِها المُلتويّة وضغوطِها الخادعة، غيرَ نفسِك.. تشْعر أنّك فقَدْتَ، بشكْلٍ من الأشكال، غيْرَ قليلٍ من حقيقتِك.. الكثيرَ مِنْ أنتَ!.. وليس ما قد يجعلُ مثلَ هذا السّفَر يبدو بكلّ هذه القيمة ما ينقُص.. فحين تكُون عاطلاً (بل مُعطَّلاً) تمَلّ كُلّ الأسفارِ وتعتبرُها مُجرّدَ عبثٍ لا يفوقُه عبث، فكُلّ أيامِك سَفَرٌ لا مُنتَهٍ في الفراغِ وبحثٌ عن الذاتِ في عالَمٍ لا يرحَمُ، إلى درجةِ أنّه يُصَيِّرُ لحظاتٍ جميلة في نظرِك سوداءَ لن تزيدَ لونَ أيّامِك إلا قتامة وحُلكة.. أما حين يحدُث وتجد عملاً فلْيَسكُنْكَ اليقينُ: لن تجدَ وقتاً "تحُكّ فيه رأسَك"، وفق المأثورةِ الشّعبيّة السّائرة.. تقول إحدى الحكم: "لو اكتفى الإنسان بأن يكون سعيدًا لهان الأمر، ولكنه يريد أن يكون أسعد من سواه وهذا شعور مستحيل". الزمان تغير وتأتي سنة، وتذهب سنة، ويموت أشخاص ويولد أشخاص، والعالم يتأخر… والعقول تتطور نحو الأسوأ؟… لكن تذكر أن كل يوم في حياتك نعمة من الخالق ولا تهتم بكلام المخلوق، فيوم واحد يمكن أن يغير حياتك ويوم يمكن أن يهدمها فتأمل وراجع نفسك.