في مقالي السابق حول "روائح مقاهي المكسيك"، قلت إن منطلقي في الحكم النقدي على النصوص ينبني على المقولة البنيوية المشهورة :"النص ولاشيئ غير النص" ،مادام أن الأدبية بمفهوم تودوروف (poétique) واقعة نصية موجودة في النص ذاته لا في خارجه، وتتجسد في النظام اللغوي والتركيبي والأسلوبي والسردي لأي عمل أدبي...وبناء على ماسبق، سأحاول مساءلة هذا العمل السردي انطلاقا من مجموعة من المؤشرات النصية ،للإجابة عن الأسئلة التالية:هل نحن أمام رواية بالفعل كما جاء في الغلاف الخارجي؟ وأين تتجلى مظاهر الروائية في هذا العمل؟ وهل الكاتب واع بأنه يكتب رواية بالفعل؟ وماهي الخصائص العامة لهذا العمل السردي؟ وهل استطاع أن يتمثل مفهوم الأدبية في ذاته؟ إن قراءتي المتأنية والفاحصة (قرأته ثلاثة مرات) لهذا العمل السردي،قادتني إلى الاشتغال على مجموعة من الظواهرالتي فرضت نفسها علي وأثارت انتباهي إلى أبعد حد ،ومن خلالها سأجيب عن الأسئلة المطروحة آنفا ومنها: 2-ظاهرة التجنيس: يلاحظ القارئ أن الغلاف الخارجي لهذا العمل السردي، ينص على أن "روائح مقاهي المكسيك "رواية"، وبالتالي فهو يحدد اتجاه القراءة وأفقها ومداخلها وآلياتها ،لذلك ينتظر القارئ عملا بمواصفات وخصائص الرواية الحديثة: من تعدد الأحداث والفضاءات والأصوات والأزمنة وتنوع سردي وحواري وتخييل، وصهر كل ذلك في لغة روائية ذات مستويات متنوعة ...غير أن الانتهاء من قراءة هذا العمل، يجعل القارئ يخرج بقناعة أخرى، تجعله يؤطرهذا العمل ضمن الكتابة السيرية، وليس الروائية بحكم هيمنة مجموعة من المؤشرات الدالة على ذلك وسنركز منها على: 2-1-على مستوى البنية السردية: يلاحظ هيمنة السارد الحاضر،و (الرؤية مع)التي حددها تودوروف بعد حون بوييون،على امتداد الرواية وعدم تنازله عن سلطته السردية ،ويتشخصن هذا السارد في ضمير المتكلم "أنا" وفي هذه الحالة يكون السارد شخصية من شخصيات المحكي بل يكون هو الشخصية /البؤرة التي تنتظم حوله الأحداث والشخوص والمشاهدات.وهذا مؤشر قوي ودال على أننا أمام عمل سردي سيري. غير أن المفارقة العجيبة التي يكتشفها القارئ،هي أن السارد الحاضر (أنا) بحسب الرؤية السردية مع يتميز بكون معرفته بعالمه الروائي تساوي معرفة الشخصيات الأخرى أي أنه لايعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات وبالتالي فهو يكتفي بسرد ما يعيشه أويشاهده أو يسمعه.غير أننا نلاحظ أن السارد في روائح مقاهي المكسيك يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات الأخرى ،يعرف أحوالها النفسية ونواياها وما تفكرفيه بل أنه يتعدى ذلك في وفي أغلب مقاطع هذا العمل إلى التعليق على الأحداث والإدلاء بآرائه ومواقفه وهو ما يتنافى وخصائص السارد الحاضر والأمثلة الدالة على ذلك كثير ة نورد البعض منها : (وحتى وهم في المرحاض كانوايكملون أحاديثهم الفارغة التي لا تنتهي...)ص29 / (تحولت إلى جاسوس... أحفظ أسماءهم ونوع القرابة بينهم ...وهؤلاء أبناء غير شرعيينمن أين أتوا وإلى أين هم متجهون .. وأدرك بحصافة بصيرتي نواياهم ) ص36 /(لا يوجد أي مسوغ معقول لأن يمارس هؤلاء تفاهاتهم على هذا النحو ولا يشبعون )ة ص37/ وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج إلى أن "الكاتب" يستعمل ضمير المتكلم دون وعي بوظيفته و خصائصه وبالتالي فهو لايميز بين الوظيفة السردية لضمير المتكلم والوظيفة السردية لضمير الغائب.لكلذلك ننصحه بالرجوع إلى النظرية السردية عامة وإلى نظرية الرواية خاصة حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود لتستطيع تجاوز هذا المأزق في أعمال قادمة. 2-2-مايعزز فرضية انتماء هذا العمل إلى السيرة وليس الرواية مؤشر نصي لغوي وسردي حاضر بقوة في النص وهو هيمنة السرد الاسترجاعي/الاستذكاري بحكم أن السارد يشتغل على الماضي ويلملم أحداثه وتفاصيله وهذا يعني أن الذاكرة تشغل حيزا مهما وكبيرا في تشكيل بنية هذا العمل وليس أدل على ذلك من كثرة حضور المعجم الدال على الذاكرة بتنويعاته الفعلية والإسمية(ذاكرتي –ذكريات-أتذكر- ذكرى...)في الصفحة 7 (ذكرياتي/الذاكرة) والصفحة 10(ذاكرتي/ذاكرتي) والصفحة 12(ذكريات/أتذكر/الذكريات)والصفحة 13(الذكريات /بذاكرتي/ذاكرتي) والصفحة 15( أتذكر) والصفحة 17 (ذكرى) والصفحة 18 (الذاكرة/أتذكر/أتذكر) ولا يتسع المقام لاستخراج كل مفردات هذا المعجم من النص.ومعلوم أن الفرق بين السيرة والرواية هو هذه المسافة التي تفصل بين الذاكرة التي هي منبع ومحرك الكتابة السيرية وبين التخييل الذي هوعصب الكتابة الروائية .فهل الكاتب واع بهذا الفرق بين الكتابتين؟ وما الداعي الذي دعاه إلى تسمية هذا العمل السيري رواية ؟ يتبع