المنتخب المغربي للفتيان يسحق كاليدونيا الجديدة ويعزز آمال التأهل    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    الركراكي يوجه الدعوة لآيت بودلال لتعويض غياب نايف أكرد    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    التجمع الوطني للأحرار بسوس ماسة يتفاعل مع القرار التاريخي لمجلس الأمن حول الصحراء المغربية    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    مغاربة فرنسا يحتفلون بذكرى المسيرة    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    بعد حكيمي.. إصابة أكرد تربك الركراكي وتضعف جدار الأسود قبل المونديال الإفريقي    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البطالة الفكرية والإسقاطات في مناقشة جمع القرآن
نشر في هسبريس يوم 12 - 05 - 2009

أولا:البطالة الفكرية و التناول القاصر للنص الإسلامي ""
من مظاهر التنطع والتناطح المعبر عن البطالة الفكرية لمتفلسفة عصرنا وأقزام الباحثين في مجال الفكر والحضارة قد نجد الإسراع إلى دحرجة الحصيات في الطريق قصد التزليق والانسياق بدعاوي التأثير والاقتباس غير الواعي من الآخر واستصغار واستهجان معطيات الماضي لتحقيق القفز الخروفي مع زعماء الحاضر.
فقد نواجه تعابير مثل الثورة على التراث والثورة على القيم والتجديد من غير تقييد ولا تحديد، ونقد العقل العربي الإسلامي وتفتيت بنيانه دون تقديم بديل لتأسيسه من جديد، وتحريف معاني دينية صريحة وصحيحة وذات تعابير واضحة من قبيل قطعية الدلالة والثبوت إلى معاني ذاتية وهمية وسخيفة لا صلة لها بالوضع الحقيقي للكلمات في أصلها ومفهومها لدى الجمهور العادي والعالم على حد سواء، وفي سائر الأزمنة والأمكنة، كما قد يذهب البعض بهوسهم الفكري إلى التمييز بين النص المكتوب والمسموع تمييزا جوهريا، وكأن الكتابة في واد والسماع في واد آخر. كل هذا جريا وراء هوس التطور وانزلاقا خروفيا في التقليد الأعمى للفلسفات الغربية الحديثة ودراساتها الألسنية والبنيوية المتكلفة التي ليست بفلسفة أصلا وكأن النظرية التطورية الداروينية لم تقتصر على القرد نحو الإنسان وإنما انقلبت من الإنسان نحو القرد، سواء على مستوى السلوك أو على مستوى الفكر والتعريف، حتى بدأنا نسمع بأن تعريف الإنسان المعاصر ليس هو نفسه تعريفه في الماضي سواء على قاعدة أرسطو وهو أنه حيوان ناطق أو على قاعدة ابن خلدون بأنه اجتماعي بطبعه، فلربما سيصبح في زمن من التطور تعريفه أنه حيوان ناهق أو أنه دجاجة لأن كل من يمشي على رجلين حسب السفسطائيين فهو دجاجة، إذ من هذا الهوس أي التجديد بغير تقييد ورفض التقليد الديني الصحيح يكون الواقع غير الواقع والإنسان غير الإنسان لأن الذي يتحدث غير الذي يكتب والذي يكتب غير الذي يسمع، إذن فلنميز بين المتحدث والكاتب والمتكلم والسامع في الخاصية والجوهر والجنس والنوع ولنقل هذه هي فلسفة العصر وإلا فلا!
والأدهى من هذا هو السعي بقصد أو بغيره إلى التشكيك في كمال النصوص الدينية المتواترة وخاصة القرآن الكريم المقروء والمكتوب والمجموع في مصحف عثمان تواترا، وذلك بزعم أن هناك قراءات أخرى لم تدرج فيه تعسفا كقراءة عبد الله بن مسعود وغيره وذلك ما يتخذه الكثير من المبتدعين والمنحرفين مطية من أجل الهروب من النص الموجود بالفعل والقوة الدلالية في متناول الأيدي، ناسين أن هذا الجمع كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأن الصحابة كلهم كانوا يمثلون سلطة دينية بحكم قربهم وتفانيهم في الإيمان بالله وبرسوله، ومن ثم فعدالتهم نفسيا وخلقيا تمنعهم أن يغضوا الطرف عما هو واجب عليهم تجاه الدين الذي تكفل الله بحفظه كما هو وفي صورته الكاملة حتى ولو لم يجمعه جدلا الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه في مصحف واحد وذلك من خلال قول الله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".
وفي هذه النقطة قد يتقارب بعض المتفلسفة العلمانيين وكثير من الشيعة، وهو ما يفسر أيضا وجه التقارب بينهم وبين المعتزلة فيما مضى، كما يقول ابن حزم عن مذهبهم: "ومن قول الأمامية كلها قديما وحديثا أن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير، حاشا علي بن الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان إماميا فيهم يظاهر بالاعتزال، ومع ذلك كان ينكر هذا القول، ويكفر من قاله، وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي، وأبو القاسم الرازي,
قال أبو محمد: القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صريح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم" .
2- وحينما لا يستطيع متفلسفة عصرنا التصريح بالتشكيك في نصوص القرآن الكريم كمداراة وتقنع حتى لا يثيروا عليهم الجمهور من العلماء والعامة، فإنهم يلجأون بأسلوب ماكر إلى الطعن في نصوص الحديث فيما يتعلق بمسائل الحكم والعدالة والاقتصاد والحقوق بصفة عامة وبالأخص حقوق المرأة، ومن أهم الكتب الحديثية التي يركز عليها صحيح البخاري بالدرجة الأولى، وعند هذه النقطة يلتقي المعتزلة والشيعة والمتلفة والمتسلفة في خط واحد، إذ أن المتسلفة بدورهم بدأت تبدر منهم محاولات للطعن في بعض الأحاديث الواردة في الصحيح بدعاوي مختلفة منها ما يتعلق بزعم العلل في المتن ومنها الرواية، وهذه كلها مقدمات للتشكيك فيما هو أعلى واثبت، لكن سواء تعلق الأمر بالقرآن الكريم نصوصا ومصحفا كاملا، أو وقف الحد عند صحيح البخاري ومعه مسلم حديثا مخرجا، فإن التشكيك لا يعود بوباله إلا على الذي ابتدعه، لأن كلام الله تعالى حق يبقى صامدا "لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم صادق لأنه لا ينطق عن الهوى. وقد أوتي القرآن ومثله معه وهو سنته وحديثه كجوامع للكلم.
ثانيا: قطعية النص القرآني بين الواقعية التاريخية والتحدي
ومن هنا فلا مجال للمقارنة كما يفعل بعض المتفلسفة في عصرنا بين القرآن والتوراة والأناجيل الموجودة الآن على مستوى الثبوت وصدق النسبة لأنه قد ثبت بالتواتر نصا سواء كتابة أو سماعا، كما أنه لا مجال للتجديد في كتاب الله القرآن على نمط وأسلوب التجديد الذي أحدثه اليهود أو النصارى في توراتهم وأناجيلهم، لأن هذه الأخيرة قد طال التحريف والبتر نصوصها، وأدرجت فيها الأكاذيب والألاعيب، ومن ثم فإن السعي إلى تجديدها قد يكون مقبولا بالنسبة إليهم، لأنهم مقتنعون بأن النصوص التي بين أيديهم ليست بنصوص مقدسة صرفة، وبهذا التحريف والتغيير في غير محله ومقتضاه وقعوا في الضلال وحل عليهم الغضب كما وصفهم القرآن الكريم، بحيث أن عملية التجديد المستمر في بنية النصوص والأحكام سيؤدي بالضرورة إلى إهدار النص الأصلي وإقباره وبالتالي لم تعد حينئذ لديهم سوى الأكاذيب والمختلقات والمضللات التي لا صلة لها بالدين الأصلي بأي وجه. وهذا ما يؤكده ابن حزم باعتباره مفكرا مسلما وناقدا حصيفا في باب علم الملل والنحل حيث يقول عن النصارى وأناجيلهم:
"وأما فساد دينهم فلا إشكال فيه على من له مسكة عقل، ولسنا نحتاج إلى تكلف برهان في أن الأناجيل وسائر كتب النصارى ليست من عند الله عز وجل، ولا من عند المسيح عليه السلام كما احتجنا إلى ذلك في التوراة والكتب المنسوبة إلى الأنبياء عند اليهود، لأن جمهور اليهود يزعمون أن التوراة التي بأيديهم منزلة من عند الله عز وجل على موسى عليه السلام فاحتجنا إلى إقامة البرهان على بطلان دعواهم في ذلك، وأما النصارى فقد كفونا هذه المؤنة كلها لأنهم لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند الله تعالى على المسيح، ولا أن المسيح عليه السلام أتاهم بها، بل كلهم أولهم عن آخرهم آريوسيهم وملكيهم ونسطوريهم ويعقوبيهم ومارونيهم وبولقانيهم لا يختلفون في أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة..." .
وعلى عكس ما يذهب إليه متفلسفة عصرنا من تقليد خروفي لمتفلسفة الغرب ومفكريهم الذين وجدوا الكنيسة في وضعية غير وضعية المسجد عند المسلمين، كما أن واقع المسيحية وأناجيلها غير واقع القرآن الكريم ومعه الأحاديث الصحيحة يرى ابن حزم أن غياب السلطة الحامية للدين كانت سبب اندثاره وانهياره وبالتالي تحريفه وإدخال الأكاذيب عليه، سواء تعلق الأمر بالمسيحية أو اليهودية، مع العلم أن الدين عند الله في كل الأزمان والعصور لم يكن ولن يكون سوى الإسلام.
فيقول ابن حزم في هذا الصدد: واعلموا أن أمر النصارى أضعف من أمر اليهود بكثير، لأن اليهود كانت لهم مملكة وجمع عظيم مع موسى عليه السلام وبعده وكان فيهم أنبياء كثير ظاهرون آمرون مطاعون، كموسى وهارون ويوشع وشموال وداود وسليمان عليهم السلام، وإنما دخلت الداخلة في التوراة بعد سليمان عليه السلام، إذ ظهر فيهم الكفر وعبادة الأوثان وقتل الأنبياء وحرق التوراة ونهب البيت مرة بعد مرة، واتصل كفر جميعهم إلى أن تلفت دولتهم على ذلك.
وأما النصارى فلا خلاف بين أحد منهم ولا من غيرهم في أنه لم يؤمن بالمسيح في حياته إلا مائة وعشرون رجلا فقط، هذا في الأفركسيس، ونسوة منهم امرأة وكيل هردوس وغيرها كن ينفقن عليه أموالهن، هكذا في نص إنجيلهم، وأن كل من آمن به فإنهم كانوا مستترين مخافين في حياته وبعده، يدعون إلى دينهم سرا، لا يكشف منهم أحد وجهه إلى الدعاء إلى ملته ولا يظهر دينه، وكل من ظفر به منهم فإنه قتل بالحجارة... وإما صلب.. أو قتلوا بالسيف... أو بالسم. وبقوا على هذه الحال لا يظهرون البتة، ولا لهم مكان يأمنون فيه مدة ثلاثمائة سنة بعد رفع المسيح عليه السلام، وفي خلال ذلك ذهب الإنجيل المنزل من عند الله تعالى إلا فصولا يسيرة أبقاها الله حجة عليهم..." .
ويعلق ابن حزم كتحليل علمي لواقع النصرانية فيقول: "وكل دين كان هكذا فمحال أن يصح فيه نقل متصل لكثرة الدواخل الواقعة فيما لا يوجد إلا سرا تحت السيف لا يقدر أهله على حمايته ولا على المنع من تبديله" . "...ثم لما ظهر دينهم بتنصر قسطنطين كما ذكرنا فشا فيهم دخول المنانية تقية ولم يكن فيهم غير منانية مدلسون عليهم، فأمكنهم بهذا أن يدخلوا من الضلال ما أحبوا ولا يمكن البتة أن ينقل أحد عن شمعون باطرة ولا عن يوحنا، ولا عن متى ولا مارقش ولا لوقا ولا بولش آية ظاهرة، ولا معجزة فاشية لما ذكرنا أنهم كانوا مختفين مستترين مظاهرين بدين اليهود من التزام السبت وغيره طول حياتهم إلى أن ظفر بهم فقتلوا".
وهذا التحليل عند ابن حزم قد يتوافق مع تحليلات متفلسفة عصرنا في تناول قضايا الدين والمجتمع من حيث الأسلوب والطريقة المبدئية لكنه يختلف عنها بأنه موضوعي وواقعي وليس بإسقاطي ولا تقليدي، وإنما هو نابع من معطيات الحس والمشاهدة واستنتاجات العقل والنظر السليم، إذ واقع النص الديني الإسلامي ليس هو واقع المسيحية أو اليهودية، وذلك لعدة اعتبارات ومعطيات على رأسها انقطاع السند عند المسيحية وطول الأمد المنسي عند اليهودية، هذا مع غياب الرقابة العلمية والسلطوية للمسار الديني في المجتمع الذي تشرف عليه. وهذا ما نص عليه القرآن الكريم نفسه من خلال قوله تعالى: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون".
ولهذا فبالنسبة إلى (اليهودية) كما ذكر ابن حزم أنها كانت في بداية أمرها، قبل أن يحرف الإسلام الأصلي وهو ملة إبراهيم عليه السلام المحمية بسلطة الأنبياء والحكام والرسل إلى مصطلح يهودية منحرفة، بمعنى أن السلطة التي أشرفت على حماية الدين من التلف والضياع هي ذات مصداقية وعدالة تقتضي التصديق والتسليم بما تحميه من أجل الجماعة، لكن بعد عهد سليمان عليه السلام وانقطاع هذه المراقبة دخل التلاعب في التوراة، وانبثقت تلك الكمائن المكبوتة لليهود منذ عهد سيدنا موسى عليه السلام والمتميزة بالتعنت واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ومن ثم وقع الانحراف والانجراف.
أما بالنسبة إلى النصارى فإن الأمر يختلف لأنه عرف انقطاع السند وغياب الحماية منذ البداية، فطال الأمد في هذا الانقطاع إلى أن أتت السلطة لحماية النصرانية ولكن على أساس مزيف ومقهور ومشتت. فكان بذلك الضلال عن الحقيقة وتسرب الدخائل والخرافات إلى جانب الكلام الحق ولكن بصورة جد مكثفة أتلفته حتى لم يعد يميز عن الباطل في صياغته وسماعه أو في عبارته ومعناه.
أما عندنا نحن المسلمين فهذه الدواخل والفجوات لم تحدث فيه أبدا ولم تصل النص القرآني أيدي التزييف، ولم يعرف انقطاع السند كما لم يخضع للسرية بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان النص وما يزال مرتفعا صوته مجهورا به قراءة وتلاوة ومتواترا كتابة ورسما، إضافة إلى أن السلطة التي تولت حفظه هي عينها التي ناصرت النبي في حياته وبعد مماته، وهي التي خضعت له في سرها وعلانيتها وعلى يديه تربت وتكونت أفكارها وعقيدتها وأخلاقها، وتصفت سرائرها ونواياها، ومن ثم بقي الدين صحيحا وسليما نصا وصيغة عبارة ومعنى، مكتملا في سوره وآياته وأحرفه وكلماته: "لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"
ومن هذه المعطيات فلا يجوز لمتفلسفة عصرنا أن يسقطوا مفهوم السلطة عند الغرب على مفهومه عند المسلمين وخاصة في عهد الخلافة الراشدية لأن الفرق شاسع بين هذه وتلك كما أن حماية الدين في السلطة الإسلامية لا تقابل استغلاله في المجتمع الغربي وفي عهد الاكليروس والاستبداد الكنسي من خلال رفع شعار "ما لله لله وما لقيصر لقيصر" بل إن الامارات الكنسية أصبحت مع تحريفها للدين واستغلالها لعقول وقلوب المعتقدين فيها ذات قوة في الحكم بدون حاجة إلى كثرة العساكر أو الجنود بحيث قد استبدت حتى بعقول رواد الخداع السياسي أمثال مكيافللي الذي يسلم لها عقديا ويعتبرها فوق المناقشة أو التحليل كما نجده يقول عنها: "ولكن لما كانت دعائمها أسباب رفيعة لا يستطيع العقل البشري الوصول إليها فسأتجنب الحديث عنها، إذ أن كون الله هو الذي يمجدها ويحافظ عليها، يجعل من السخف والحماقة البحث فيها!
ومع ذلك فقد يسألني سائل كيف تمكنت الكنيسة من الوصول إلى مثل هذه القوة الزمنية العظيمة، بينما لم يكن الزعماء إلا بطاليون قبل عهد البابا أليكساندر السادس، سواء الأقوياء منهم أو الضعفاء، الذين يشتملون على كل سيد أو نبيل مهما ضؤل شأنه، لا ينظرون إليها بعين الاعتبار من ناحية السلطان الزمني، واضحت الآن قادرة على إرهاب ملك فرنسا وإرغامه على الخروج من إيطاليا، وكذلك على تحطيم البنادقة وتدميرهم، وعلى الرغم من أن الرد على هذا السؤال، معروف جيدا للجميع، إلا أنني أعتقد أن ليس من نافلة القول تكراره والتذكير به" .
ثالثا:القرآن الكريم بين مناعة الإعجاز ورقابة الأمة ضد التحريف
فإذا جاز للمسيحيين أو اليهود بحسب واقعهم المنحل دينيا وسياسيا إعادة قراءة التوراة والإنجيل، وحذف ما بدا لهم حذفه أو إضافة ما يحلو لهم إضافته، فإنه لا يجوز بتاتا اتخاذ مثل هذه الإجراءات بالنسبة إلى النص القرآني أو حتى الحديثي الصحيح والثابت بشروط الرواية، إذ النص القرآني لم تدخله الشوائب والتحريفات كما بينا وذلك من خلال صموده بالتحدي والإعجاز العلمي والمعرفي من جهة، ومن أخرى حمايته من طرف السلطة المعتقدة به ابتداء وجزما وكذلك من طرف العلماء الصادقين الذين كانوا يمثلون عين السلطة، وفي المراحل الأولى من الدولة الإسلامية ثم بعدها أصبحوا ذوي سلطة على السلطة نفسها وعلى المجتمع ككل، وبدون أن يخضعوا إلى هيئة رسمية أو مجمع إلزامي يقيد فتاواهم أو استنباطاتهم، إذ عددهم لا يكاد يحصى، واندماجهم في المجتمع قائم بغير وسائط ولا حواجز. ومن ثم فإن النص الديني قد كان متداولا بينهم على امتداد الأزمان واتساع الأمكنة التي دخلها الإسلام نصا وشخصا،ومن ثم فلا يوجد قرآن مختلف عن الذي تواتر حفظا وكتابة عبر العالم سواء في الزمن الماضي أو الحاضر .في حين أنه مهما أقدم عليه أعداء الإسلام من محاولة لزرع تحريف ما من داخل النص ولو بحرف أو كلمة فقد يتفطن لها المسلمون ويفضحونها ولو كان مدسوسا في أقصى الكهوف وبشتى التمويهات،وهذا الإقدام قد سبق ولم يفلح ولكن حول النص وليس من داخله وذلك من خلال ما يعرف بالإسرائيليات التي قد تأثر ببعضها قليل من المفسرين على سبيل الاستئناس ليس إلا.ومع هذا فقد كانت مضرة بموضوع التفسير إلى مستوى ما واستغلها بعض الزنادقة للتشكيك في بعض معاني النصوص أو النصوص نفسها، كما يفعل بعض أقزام متفلسفة عصرنا الآن ولم ولن يصلوا إلى هدفهم الخبيث والضال المضل،الشيء الذي دفع بمفسرين آخرين إلى رفض هذا الإدراج التوضيحي أو التفسيري الأجنبي والرجوع أصلا إلى ما يعرف بتفسير القرآن بالقرآن أو التفسير بالمأثور من داخل المصادر الإسلامية الموثقة والسليمة معنى ورواية.
كما أن ترتيب السور والآيات القرآنية هي ذات خاصية رياضية قدسية وبنيوية لا يمكن إقصاء حرف منها على حساب حرف وإلا انهار البناء من أساسه "وإن كنتم في ريب مما أنزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين،فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين"، "قل لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".فالتعجيز مازال وسيبقى قائما إلى يوم القيامة ،والنص محفوظ بصاحبه الذي تكفل به وهو الله تعالى من خلال النص نفسه:"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".
ونقطة أخرى أضيفها في هذا المجال وهي أن مفهوم رجال الدين عند المسيحيين أو اليهود لا يمكن إسقاطه على علماء الدين عند المسلمين، لأن هؤلاء الأخيرين ليسوا سوى مبينين أو معلمين للجمهور أحكام دينهم. فإذا أخذوا منهم أصبحوا في حكمهم ضرورة، ومن ثم فلا يستقلون بشيء من دونهم، فلربما يكون المتعلم أحسن حالا من العالم حينما يأخذ عنه علمه ويلتزم بمبادئه، فيجمع حينئذ بين فضيلة العلم والعمل "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم"الحديث.
ولهذا فالعلماء المسلمون لا يتخوفون من العلوم المادية مهما تسامت وتطورت أو خالفت فهمهم الديني الذي فهموه من نصوص ظنية الدلالة وذات أبعاد إشارية، لأنهم واثقون بأن النص الديني الذي يأخذون به وعنه كله في أصله من الله تعالى، وهو بهذا كله حق، والحق لا يضاد الحق، على عكس ما هو الحال عليه عند رجال الدين المسيحيين أو اليهود، فإنهم يحاربون العلم إذا اصطدم مع النصوص التي بين أيديهم ذات الدلالة القطعية في تفصيل ظاهرة ما أو حدث ما، إما لأنهم يعلمون أن تلك النصوص غير صحيحة ويخشون أن يصرحوا بذلك فيطال الإبطال باقي النصوص كلها، وإما أنهم يعتقدون صحتها في زعمهم ولكنهم لا يسلمون بالدلائل التاريخية والعلمية والتوثيقية المؤكدة لفسادها فيقعون في المعارضة والصراع مع معطيات النظر الصحيح ونتائج التجارب الحسية الملموسة، فيلجأون إلى قبر كل ما يخالف اعتقادهم بالقوة والإقصاء، كما فعلوا مع جاليلو ورأيه حول دوران الأرض...إلخ.
فقد كان من واجب متفلسفة زماننا أن يريحوا أنفسهم من هذا التقليد الذي لا مستند له في التشبيه أو المقارنة، وأن يتفادوا الإسقاطات التي تنم في الحقيقة عن بطالة فكرية لا تؤدي إلى مصلحة علمية ولا حضارية وعقدية، وإنما هي عبارة عن تشويش فكري زمذر مفضوح وعاجز، الغاية منه في الغالب إما خدمة مصالح أجنبية ضدا على المصلحة العامة للأمة أو محاولة استقطاب الاهتمام والنظر بهذه الهيستيريا الفكرية لتحقيق غاية شاذة وهي خالف تعرف!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.