محطة القطار "الرباط الرياض" تفتتح تأهبا لاستقبال كان المغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    الصين.. حجم صناعة الذكاء الاصطناعي سيتجاوز 170 مليار دولار في 2025    رافينيا يحسم مستقبله مع برشلونة بقرار مثير: "لن أغادر الفريق قبل التتويج بدوري أبطال أوروبا"    طقس عاصف يوقف الدراسة بالمضيق-الفنيدق    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات الرعدية بإقليم آسفي إلى 37 وفاة واستنفار متواصل للسلطات    فاجعة الفيضانات.. الحزب الاشتراكي الموحد بآسفي يحمّل المسؤولية للمسؤولين على التدبير المحلي    عريضة توقيعات تطالب بالإفراج عن الرابور "PAUSE" وتدق ناقوس الخطر حول حرية الإبداع بالمغرب    بنسليمان تحتضن المعرض الجهوي للكتاب من 17 إلى 22 دجنبر احتفاءً بالقراءة في زمن التحول الرقمي    كيوسك الاثنين | إطلاق أكبر مخطط هيكلة لشبكات الماء الشروب بجهة الدار البيضاء    مطالب بإحداث مطبّات لتخفيف السرعة أمام مدرسة البلسم الخاصة بالجديدة    من المعبد إلى المدرّج: كرة القدم بوصفها دينا ضمنيا    آلاء بنهروال... كفاءة مغربية شابة تتوج مسارها الأكاديمي بماستر في علوم البيولوجيا بجامعة مونبليي    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    محكمة الاستئناف بالجديدة تُدين ممرضا في الصحة النفسية بتهمة التحرش بعد إلغاء حكم البراءة    إشادات بشجاعة بائع الفواكه أحمد الأحمد.. "البطل" الذي تصدى لمنفذي هجوم استراليا    الأمطار الغزيرة في آسفي توحد جهود المجتمع والدولة لمواجهة الفاجعة    كأس العالم للأندية سيدات .. الجيش الملكي يضرب موعدًا مع أرسنال في نصف النهائي    ارتفاع حصيلة ضحايا هجوم سيدني إلى 16 قتيلا و40 مصابا    أمطار قوية وتساقطات ثلجية ورياح عاصفية مرتقبة بعدد من مناطق المغرب    من باريس.. فرحات مهني يعلن ميلاد جمهورية القبائل ويطرق أبواب الاعتراف الدولي        لقجع ل"فرانس فوتبول": كرة القدم المغربية بُنيت بعقل استراتيجي لا بمنطق الإنجاز العابر    التوفيق يبرز بواعث الحاجة إلى المذهب المالكي في ظل التحولات المجتمعية    الخصوصية التفاعلية والقاتلة    انتخاب محمد شويكة رئيسا للجمعية المغربية لنقاد السينما    الرباط تحتضن مهرجان "ربادوك" للسينما الوثائقية    طنجة تحتضن البطولة الوطنية للشرطة في الجيدو والكراطي بمشاركة واسعة    رونار: السلامي صديقي لكن عليه التوقف    أكادير تحتفي بعشرين سنة من تيميتار: دورة إفريقية بامتياز تسبق كأس أمم إفريقيا وتجمع الموسيقى الأمازيغية بالعالم    المغرب يوقّع على سابقة غير مسبوقة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    من شفشاون إلى الرباط: ميلاد مشروع حول الصناعة التاريخية    توقيف مشتبه به في حادث جامعة براون    تطبيق "يالا" يربك الصحافيين والمشجعين قبل صافرة انطلاق "كان المغرب 2025"    أوجار من الناظور: الإنجازات الحكومية تتجاوز الوعود والمغاربة سيؤكدون ثقتهم في "الأحرار" عام 2026    احتفال يهودي بأستراليا ينتهي بإطلاق النار ومصرع 10 أشخاص    ائتلاف يدعو إلى وقف تهميش المناطق الجبلية وإقرار تدابير حقيقية للنهوض بأوضاع الساكنة    مقتل 10 أشخاص في إطلاق نار خلال فعالية يهودية في سيدني    مجلس النواب والجمعية الوطنية لمالاوي يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون البرلماني    استقالات جماعية تهز نقابة umt بتارودانت وتكشف عن شرخ تنظيمي.    إسرائيل تندد ب"هجوم مروع على اليهود"    ألمانيا: توقيف خمسة رجال للاشتباه بتخطيطهم لهجوم بسوق عيد الميلاد    زلزال بقوة 5,1 درجات يضرب غرب إندونيسيا    مسؤول ينفي "تهجير" كتب بتطوان    إطلاق قطب الجودة الغذائية باللوكوس... لبنة جديدة لتعزيز التنمية الفلاحية والصناعية بإقليم العرائش    البنك الإفريقي للتنمية يدعم مشروع توسعة مطار طنجة    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    بورصة البيضاء .. ملخص الأداء الأسبوعي    من الناظور... أخنوش: الأرقام تتكلم والتحسن الاقتصادي ينعكس مباشرة على معيشة المغاربة        المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    تناول الأفوكادو بانتظام يخفض الكوليسترول الضار والدهون الثلاثية    منظمة الصحة العالمية .. لا أدلة علمية تربط اللقاحات باضطرابات طيف التوحد    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مُنوِّماتُ نِينِّي لَا تَنِي!
نشر في هسبريس يوم 02 - 10 - 2009


من أجل قراءة سوسيولوجية
«لكي يُحفَظ، في مجال العلم السياسي [أو الاجتماعي]، حيادٌ مُمَاثل لذلك الذي ألفناه فيما يتعلق بمفاهيم الرياضيات، فقد أَخَذْتُ على نفسي بقوةٍ ألَّا أتخذ الأفعال البشرية هُزؤًا، ألَّا أستنكرها أو ألعنها، وإنما أن أتفهمها.» (إسبينوزا، رسالة في السلطة السياسية، فصل 1، فقرة 5) ""
أصبح الصحافي "رشيد نيني"، في المجال الإعلامي (وفي المجال الثقافي عموما) بالمغرب، "ظاهرة" شعبية لَافتة للنظر، وذالك منذ بضع سنوات. تُرَى ما سِرُّ هذا "الظهور" الإعلامي (أستعمل لفظ "ظهور" بمعناه الأصلي المزدوج، أي "البروز" و"الغَلَبة") في مجتمع قَلَّمَا يظهر فيه كاتب ويشتهر في الوسط الشعبي؟ وما الآثار الثقافية والسياسية لهذا "الظهور" الإعلامي؟
لا شك أن السيد "رشيد نيني" قد صار "علما" ذائع الصيت في المجال المغربي إلى الحد الذي يجعل من الطبيعي أن يكون هناك كثيرون ممن يَخْطُبون وُدَّه وكثيرون أيضا ممن يَرهَبُون "سلَاطة" قلمه (ولِمَا لا "سُلْطته"). غير أن أول ما ينبغي تأكيده، هنا، هو أنني لست لا من هؤلاء ولا من أولائك، فأنا لا أتناول "نيني" إلا في المدى الذي يندرج ضمن "ظاهرة اجتماعية"، تماما كما يجدر بالباحث السوسيولوجي أن يفعل، من دون أنْ أَنْفِيَ أنني أندرج بالفعل بين اللذين لم يَعُودوا يملكون خيارا (فأنا أعرف، إذن، ضرورتي الخاصة، التي ليست "خاصة" إلا من حيث هي متميزة عن ضرورة غيري) في معارضة "التوجه الاجتماعي" (يُصر آخرون على أنه "سياسي") الذي يمثله "رشيد نيني" وأمثالُه في المجتمع المغربي (وبالتالي، يمكن إدراك "التوجه الاجتماعي" الذي يجعل أمثالي يقفون هذا الموقف). وهذا معناه أنني أُعلِنُ أنني "متحيز"، ليس ضد الشخص "نيني" الذي نعرف (أو يجب أن نعرف "نحن" و"هو") أنه ليس سوى الوجه البارز من واقع يتحدد بأنه أوسع وأعمق وأعقد من شخصه الفردي المعروف، وإنما ضد "سيرورة اجتماعية" معينة هي التي مَكَّنَت من توفير شروط إنتاج واستهلاك (أي قراءة وتداول) مكتوبات الصحافي "رشيد نيني" ؛ ويمكنها، من ثم، أن تسمح بإعادة إنتاجه (أي استمراره). وأن أقول هذا علانيةً، ليس معناه (كما قد يتوهم كثيرون من "أنصاف الدُّهاة") أنني أُقِرُّ ب"نِيَاتٍ سيئة" قبل افتضاحها، حيث إنه سيُسارع "حُمَاةُ الْحِمَى" ("الحِمَى" المتجسد الآن في شخص الصحافي "رشيد نيني") إلى الكشف عن دوافع الحسد والحقد والمنافسة التي حَرَّكت قصدي (وقد تُحَرِّك قصد أي أحد آخر) وأنا أسعى إلى انتقاد "العمل الصحافي" الذي اشتهر بممارسته، منذ مدة، "رشيد نيني". لكن ما يَحْسُن بنا الانتباه إليه هو أن "مُناهضة" تَوجُّهٍ فكري ما لا ينبغي أن يُنظر إليها ك"مهاجمة" تَرمي إلى "تصفية حسابات شخصية" أو القيام بنوع من "الحرب بالوكالة"، لِأنني من هذه الناحية ليست لي مصالحُ مُباشرةٌ (ولم تكن وقد لا تكون) مع السيد "رشيد نيني" حتى يمكن أن يكون هناك ما قد يدعو إلى الدخول في مثل تلك "الأعمال" المعروفة بين الناس، المُنْكرة أخلاقيا والمذمومة معرفيا. ولهذا كله، فإن "الموقع" الذي أتكلم منه ليس سوى مقتضيات البحث السوسيولوجي التي تُلْزِم الباحث بأن يَجتهد، ما وَسِعه الأمر، لكي يتعالى على "النوازع الشخصية" لكي يضمن لخطابه القدر المطلوب من المشروعية العلمية (التي تبقى، بالتأكيد، تَنازُعيةً وفق شروط المجال المعني)، وذالك بعيدا عن كل ما هو شائع من سِجَالٍ يُعَبِّر عن الظاهرة الموصوفة ويُغَذِّيها في الوقت نفسه الذي يظن أصحابُه أنه يَحُدُّ منها أو يتجاوزها.
وهكذا يبدو أنه ليس من السهل، في الواقع، أن نبني بواسطة الخطاب "حقيقة" شخص واحد بخلاف ما يظنه كثير من المُشاركين في السجال حول "رشيد نيني" (هو، في معظم الأحيان، حول "مصالح" معينة يُمثِّلُها "نيني" صاحب صحيفة "المساء"، وهي "مصالح" تتعارض مع "مصالح" الذين يتهجمون عليه). فكيف يستسهل، إذن، هذا الشخص الواحد عرض (وفرض) "حقيقة" كل الأشخاص المتعددين الذين يَدَّعي الصحافي "رشيد نيني" أنه يُمثِّلُهم أو يتحدث بلسانهم حينما يرفع (وهو لا يكاد يُخفي نزعته "الشعبية"، التي ينبغي أن تُسمى "شَعْبانية") لواءَ مُناصرةِ فئات المقهورين والمَسُودين في المجتمع المغربي؟
حقا، إن صعوبة "التوضيع" (objectivation) كعمل علمي بالأساس تجعلُ للناس مَصلحةً مُضاعَفةً في "الترقيع الاستسهالي" الذي يُعَدُّ "رشيد نيني" الآن واحدا من كِبار مُحتَرفِيهِ. ومن هنا تأتي صعوبة العمل التخصصي المتعلق بالخطاب الأكاديمي، حيث إن الباحث المشتغل بممارسة "التوضيع" (يُسَمَّى، إذًا، "المُوَضِّع") لا يملك أن يتكلم بالكيفية العادية نفسها من دون أن يَقبَل (ويَنْقُلَ) فلسفةً كاملةً تتعلق ب"الحس المشترك" الذي يجد فيه معظم الناس (خصوصا بين الصحافيين ومثقفي الإعلام) نُفوسهم وهم يُعيدون تشكيله أو يُعطونه شكلا جديدا من دون أن يتجرأوا على مُساءلته على نحو جذري ومنهجي. لكن الباحث المتخصص لا يُمكنه أن يقوم كباحث إلا إذا اطَّرح "الحس المشترك"، بما فيه "الحس المشترك الأكاديمي" الذي يُشكِّل، في معظم الأحيان، نوعا من "العُرْف" المُتعالِم (المعروف والمُتعارَف بين المشتغلين في مجال معين). ومن هنا تأتي صعوبات إلقاء وتلقي الخطاب الأكاديمي، وتأتي معها ضرورة التيقظ من طرف الباحث لكي لا يرتكس على عقبيه، وهي الضرورة التي تفرض على المتلقي (خصوصا بين عامة الناس) أن يدفع الثمن بالمعنى المزدوج (بأن يقع ضحيةً لخطاب الاستسهال الخاص بالصحافيين والمترسلين و/أو أن يُحْرَم من خطاب "الاستغلاق" الذي يميز المتخصصين) ؛ وهو الثمن اللذي لا سبيل إلى جعله يُجَازى بشكل مناسب إلّا بالسعي إلى نشر واكتساب الحد الأدنى من أدوات "الدفاع الذاتي" المُمكِّنة من مقاومة السيطرة الثقافية (حسب بيير بورديو). والحال أن السواد الأعظم ممن يُمثلون زبائن "رشيد نيني" في السوق الصحافي (والثقافي) بالمغرب يَفتقدون، في معظمهم، لا فقط تلك الوسائل، وإنما أيضا الاستعداد لاستعمالها، خصوصا حينما نعلم أنهم صاروا مُدْمِنين على تلقي جُرعتهم اليومية من "إنتاج نيني" (وهو إنتاج مُغَذٍّ ماديا وثقافيا لبعضهم، ومُخَدِّر أو مُنَوِّم لبعضهم). ومن هنا، فإنه ليس من السهل أن يُنْقَل ويُبَلَّغ، تداوليا واجتماعيا، كل ما يُمكن أن يُقال عن "نيني" في المدى الذي يجعله منخرطا بالضرورة ضمن "ظاهرة اجتماعية" متعلقة بالمغرب (وليس به وحده). والسبب يتمثل في أسباب اجتماعية كل شيء يعمل، في الواقع، على تعزيزها وسَتْرها. والأدهى أن "ظاهرة نيني" قد أصبحت من بين هذه الأسباب أو أنها، على الأقل، تشتغل بالاستناد إليها.
لا شك أن كثيرا من اللذين يُزعجُهم "نيني" لا يرجع السبب لديهم لكونه ينتقد أقطاب السلطة بشدة وعلى نحو لَاذع، ولا لكونه صاحب خطاب له قدرةٌ مُعيَّنة على توجيه "الرأي العام" (بالتأكيد يُعَدُّ "نيني" مُزعجًا لكثيرين من هاتين الناحيتين)، وإنما بالأساس لكونه يُقرأ بكثرة، أي يبيع ويُباع في السوق أكثر من غيره. فلا يُعَادى، إذن، "نيني" إلا من أجل من يُنافسونه على حِصَص سوق الإشهار والإعلان والتداول بالمغرب. ومن هذه الناحية، نجد أن "نيني" قد سحب البساط من تحت أقدام كثيرين، بل انتزع الكتف من بين أيدي أو أسنان كثيرين. لكن ما يُستغرَبُ، في هذا كله، هو أن حصة "نيني" في السوق مماثلةٌ أو مُساويةٌ لِحِصَص آخرين خصوصا بين المغنين والفنانين والرياضيين، ولا تكاد تقترب من حصص أصحاب الإشهار والإعلان في التلفزة من باعة كل شيء (خصوصا أجهزة الهاتف المحمول، السيارات، الحواسيب، المنازل، الأجهزة الإلكترومنزلية، المُنَظِّفَات، إلخ.)، وإنْ يَكُن "نيني" مُنافسا لها بحصته اللتي ليست هينة بأي حال. ولأن "نيني" قد أصبح بكل هذه الأهمية الاقتصادية، فإنه حتما موضوع للنزاع. غير أننا لكي نُحيط بأبعاد هذه الظاهرة، فلابد من توسيع البعد "الاقتصادي" فيها. إذ أن النظر إلى "نيني" كمجرد صحافي صاحب حصة في سوق الاستهلاك، يجعلنا نُغفِل بالحركة نفسها أنه يندرج ضمن بنية سوق الإنتاج المادي والرمزي بالمغرب في مجموعها، ومن ثم ضرورة استحضار شروط تَكوُّن هذه البنية الإنتاجية-الاستهلاكية لمعرفة موقع "نيني" ودوره وحدوده. ومن دون هذا الاستحضار يبقى كل مجال توزيع/تَوَزُّع الواقع الاقتصادي في شموله مُغفَلًا وخفيا، وبالتالي لا يُرى في "نيني" سوى الشخص الذي يملك مواهب خاصة تجعله سيد العمود الساخر والمُثير على مستوى الصحافة المغربية ؛ وهو الأمر اللذي ينتهي به هو ذاته (كما ينتهي بمُشايِعيه) إلى اعتبار نفسه ظاهرة مستجدة في الحقل الإعلامي (والثقافي) بالمغرب.
لذالك، فإن النظر إلى "نيني" في إطار مجموع الشروط المُحدِّدة لإنتاجه واستهلاكه بحقله الخاص يقود بالضرورة إلى استحضار التاريخ المرتبط بهذا الحقل، مما سيكشف عن شروط (وبالتالي حدود) "الجِدَّة" في العمل الصحافي ل"رشيد نيني". ومن ثم سيصير أقرب إلى الواقع أن يُقال: لَا جديد تحت الشمس. إذ فقط لقِصَر ذاكرة المتلقي/المستهلك ولغياب تاريخ حقيقي للأعمال الخاصة بمختلف حقول الاشتغال بالمجال المغربي، نَجِد أن القارئ العادي ل"نيني" يسهل عليه الميلُ إلى اعتقاد أن هناك جديدا وبِدْعًا مُحدَثًا (وليس في هذا المجال وحده) من دون أي صلة بتاريخ التكوُّن الفردي والجماعي (إذ يجدر بنا أن نتذكر دائما درس بورديو: «ولَكِنْ من الذي خَلَقَ المبدعين؟») ؛ وإلا فإن أي جديد يأتي في مجال مُعين تكون له جملةُ شروط مُحَدِّدة هي التي تجعله ممكنا وتُيَسِّرُ مجيئَه بالشكل الذي يجئ به على يد فلان أو علان من الناس. غير أن هذه الحقيقة تُعَدُّ آخر ما يَودُّ معرفته الذين يُسمون ب"المبدعين" و"النجوم" (وبالتالي المعجبون أو المُفتتنون بهم) بخصوص مختلف مجالات الإنتاج.
وحينما نتأمل في واقع المجتمع المغربي، نجد أنه منذ الاستقلال إلى الآن قد كان موضوعا لجملةٍ من التحولات الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية التي تَوَّجت فترة الحماية (كفترة ساهمت في نقل المغرب من عالم القرون الوسطى إلى العالم الحديث) والتي صَحِبَتها وتَخلَّلتها مجموعة من التغيرات الثقافية والرمزية تميزت، على الخصوص، بظهور إنتاج أدبي وثقافي وفني يُواصل، بهذا القدر أو ذاك، الكفاح الوطني من أجل التحرر والتقدم والازدهار، وهو الإنتاج الذي ارتبط بأهم الأسماء المغربية في أكثر من مجال (من بين آخرين نذكر: علال الفاسي، محمد بن الحسن الوزاني، المختار السوسي، عبد المجيد بن جلون، عبد الكريم غلاب، عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي ؛ مجموعات ناس الغيوان، جيل جيلالة، المشاهب، إلخ.). وهكذا بعد ثلاثة عقود تقريبا من الاستقلال، أخذت تتبلور مجموعة من الظواهر الاجتماعية والثقافية التي تُشير إلى نوع من التراجع في أكثر من مستوى، وهي الظواهر التي أصبحت واضحة للعيان منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. وكانت نتيجةُ كل تلك الأشكال من التراجع أن ظهرت أنواعٌ من الخطاب الثقافي والفني تتميز بانحسار التوجه الطليعي والتقدمي وبُروز أشكال أخرى تُؤكد صعود نوع من الانتهازية والامتثالية في أوساط النُّخَب المغربية. وعموما، فبعد فَورات من الصحافة الحزبية المُناضلة وزخم من الكتابات المُثقفية الرصينة، تنامى الخطاب الإسلاماني المحتج والتخليقي، إلى جانب طوفان من صحف الإثارة المُشَدِّدة لأغراض التسلية المربحة ؛ وبعد موجة الصحف المستقلة وشبه المستقلة ذات التوجه الانتقادي والمُسائِل، برزت تيارات الأغاني الشبابية الخفيفة والمسرح الفُكاهي والتجارب السنمائية الملتبسة والمتسائلة بقدر معين من الجرأة. وفي أعقاب هذا كله، ساد تَوجُّهٌ عامٌّ من الاستقالة والاستخفاف في الأوساط الثقافية والفنية مُعزِّزًا من ثم ذلك التوجه السابق للانتهازية والامتثالية، فَصِرْنَا أمام مَشاهِد الانقسام والتقاطب، بالخصوص بين فئات النفوذ والحُظْوة المتنازعة في ساحةٍ مَحْمِيَّة ومُغلَقة، وبين فئات الذين تُركوا لحالهم من الذين أخذوا يُصارعون من أجل انتزاع ما يَفْضُلُ على مائدة اللئام ويتداعى للسقوط بين أيدي الديدان، ديدان المثقفين والفنانين والصحافيين. في هذه الأجواء المليئة بالخيبة واليأس والتذمر، ظهرت تشكلات ثقافية وفنية جديدة تُعَبِّر عن نوع من الرفض والاحتجاج من دون رغبة حقيقية في النضال ومن دون دعامة ثقافية متينة (مجموعات الراب، الهيب هوب، النزوع الشيطاني، سينما وأدب التعري)، فضلا عن الظواهر المفتوحة على العنف والانفجار واللامبالاة. كل هذا الركام من التحولات والتشكلات شهده المجتمع المغربي منذ أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، وهي الفترة التي هيأت لما عُرِف بَعْدُ من الناحية السياسية بفترة الانتقال الديموقراطي وصارت الآن تُسمى، من الناحية الاجتماعية، بفترة "التنمية المستدامة" وبناء "المجتمع الحداثي". غير أن كل هذه التحولات الثقافية والرمزية ليست، في الواقع، سوى تعبير عن عمق التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى إعادة إنتاج بنيات المجتمع بمغرب ما بعد الاستقلال.
في هذا الخضم ظهر "رشيد نيني" مع نهاية التسعينيات: شابٌّ يُعَدُّ، مثل معظم رفاقه وأترابه، نسيجَ كل تلك التغيرات والتبدلات التي تَمَخَّض عنها المجتمع المغربي بفعل كل العوامل اللتي كان موضوعا لها على امتداد قرن تقريبا (منذ استقرار الحماية إلى وفاة الملك الحسن الثاني 1998). ف"رشيد نيني" من جيلٍ أحَسَّ في العمق بتخلي الدولة عنه (بمؤسساتها ونُخَبها) كما تخلت من قبل عن آبائهم وأمهاتهم، جيل تعتصر الحسرةُ والغضبُ قلوبَ أفراده فتجعلهم مُستعدين للتعامل مع الشيطان من أجل إيجاد "شِبْهِ حَلٍّ" لوجودهم ولو بإنهائه في غياهب البحر أو مجاهل العدم بعد أن عجزت غياهبُ السجون عن إثمار "حل حقيقي" يُنهي مآسي مجتمع بكامله. وجيلٌ بكل هذه المُميِّزات لا يُنْتَظر منه أن يفكر بروية من أجل إنضاج حلول مناسبة للأزمة، إذ قد نَضِجَت جُلودُ مُمَثِّلِيه وأعصابهم خارج كل عناية تُؤهلهم لسلوك طريق قد أصبح في عُرف معظم الناس مشبوهًا ومشكوكًا في جدواه. فكل ما صار مطلوبًا من أحدهم إنما هو أن يُلاعِب حبالَ القدر عساه يَظْفَر بفرصة تُنقذه، بقدر الإمكان، من بشاعة الماضي وعبثية الحاضر.
وهكذا نجد أن الخطاب (وكذلك التوجه) الذي يُمثله "رشيد نيني" لا يتخذ معناه الكامل إلا بوضعه في هذا الإطار التاريخي والاجتماعي الذي يحتاج بالتأكيد إلى كثير من التوسع والتفصيل ليس هذا محله. وبوضع خطاب "نيني" بالنسبة إلى مُحِّدداته التكوينية اجتماعيا وثقافيا نتبين حُدوده البنيوية والوظيفية. فالأمر يتعلق بخطاب ترقيعي و"شعباني" لا يكاد يُخفي توجهه الاستثاري والامتثالي إلا بقدر ما يستسلم للترقيع ويميل نحو دغدغة انتظارات وتوهمات عامة الشعب (أي بالتحديد "الغوغاء")، وبالفعل نفسه يتمكن من إخفاء طابعه الانتهازي والمحافظ. ولهذا، فإن آليات تشكيل هذا الخطاب وإخراجه شكليا تتمثل في استنفار أو استحضار "الحس المشترك" ثقافيا ولغويا من دون أي رغبة واضحة أو عزم نافذ في مُساءلته من حيث كونه لا فقط تعبيرا عن أزمة هيكلية مرتبطة بالمجتمع والثقافة المغربيين، وإنما أيضا بصفته تكريسا لذالك "التواطؤ الوجودي" (بتعبير بورديو) بين البنيات الذهنية والبنيات المادية الخاصة بالمجال المغربي، وهو "التواطؤ" الذي يُفلت عادةً من أيدي الوعي المُتَمَنِّع على تعاطي الممارسة الاحترافية بشروطها المعرفية والمنهجية المرتبطة بعلوم الإنسان. ومن هنا نُدرك سر ترديد وترجيع بعض الاقتباسات من العامية المغربية، حيث إن مجيئها في أثناء الخطاب يُمثل بصمة الختم المؤكدة والمُوثِّقة للعهد الحافظ للقرب من معيش العامة على نحو يُوهِم بوجود نوع من التضامن الذي من شأنه حسب الظن الشائع أن يؤدي، في آن واحد، إلى إسماع صوت "الشعب" وإيصال مَطالبه إلى من يهمه (بل إلى من يجب أن يهمه) الأمر ودفعه، بالتالي، إلى الاستجابة لها. فلا عجب، إذن، أن يُقْبِل الجمهور على هذا الخطاب، إذ يجد فيه نفسه ويعثر على ما يُرضي مَشَارِبَهُ «من حيث إنه خطاب لا يقول لجمهوره إلا ما يَوَدُّ سماعه» (بورديو).
فمن يتلقى هذا الخطاب؟ من الراجح أن جريدة "المساء"، حسب "نيني" نفسه، يُباع منها حوالي مئة ألف نسخة، وتُقرأ من قِبَل حوالي خمسمئة ألف قارئ. هذا العدد ماذا يمثل في الواقع؟ إن أخذ عدد القراء هذا من دون تمييز كما لو كانت له دلالة بديهية على نُفوذ ونَفاذ الخطاب المعني لا يخلو من التضليل. ذلك بأنه لو أردنا تحديد هذا العدد بدقة لوجب، بناء على دراسة ميدانية علمية، أن نُميز فيه مجموع الفئات مُمَثلَةً بحسب السن، الجنس، المستوى التعليمي، الكفاءة اللغوية، المستوى الاجتماعي، الانتماء الحضري/القروي، الانتماء الإديولوجي. وحينئذ نستطيع أن نعرف بالتحديد من يتلقى ذلك الخطاب وبأي كيفية. وعموما يمكن القول، من خلال المعطيات المعروفة، بأن اللذين يتلقون خطاب "نيني" يتحددون في معظمهم بكونهم شبابا ذكورا ذوي مستوى تعليمي يدور حول البكالوريا، من مستوى اجتماعي متوسط أو قريب منه، ينتمون أساسا إلى المجال الحضري وشبه الحضري، لهم تَمَكُّن لا بأس به من العربية الشائعة، وأنهم من الناحية الإيديولوجية ذوو توجه وَسَطي سياسيا ومُحافظ أخلاقيا. ومن هنا نكون أمام فئات تفتقد، من بين ما تفتقده، القدرة على إدراك ذلك الخطاب بالنسبة إلى مُحدِّداته اجتماعيا وثقافيا، ومن ثم ازدياد احتمالات إمكان استعماله بشكل سَلْبي يُقَوِّي كل التوجهات الاجتماعية والثقافية في ميلها الفعلي نحو التراجع والانحباس.
وبعيدا عن الاتجاه الذي يرى في ما يُسمى "المخزن" الحجةَ النهائيةَ في كل ما يقع بالمغرب، يجب أن يُنظَر إلى "نيني" لا كخادم مُطيع لِسَيِّدٍ له عليه بعض الأفضال على الأقل، وإنما كدليل على ذالك "التواطؤ الوجودي" بين نوع الاستعدادات اللتي تَكُون للمرء مع المجال الخاص لِتَكَوُّنه واشتغاله، أي إذا كان لا بد من اعتماد "المخزن" كاستعارة دالَّة فإنه ينبغي أن يُتَّخذ باعتباره تجليا واقعيا لمجموع أنماط الإنتاج الاجتماعي والثقافي المتعلقة تاريخيا بالبنيات المادية والرمزية للمجتمع المغربي. وبهذا المعنى وحده تبدو الظاهرة التي يُمثلُها "نيني" مُنْتَجَ نِتَاجِ المجتمع المغربي بكامله، أي أنها لا تعبر فقط، إيجابا أو سلبا، عن طرف أو قطب مُعَيَّن قد يُحَمَّلُ المسؤولية في كل ما يرتبط بها، بقدر ما تعبر عن تلك السيرورة الاجتماعية المتميزة بالتراجع والانحباس، والعاجزة عن ترسيخ آليات التراكم المؤسسي وتحريك نوابض الحَراك الاجتماعي والثقافي في إطار "الدولة-الأمة" وفق كل التقلبات المستجدة عالميا.
أخيرا وليس حقيرا، تُرى ما الذي يُمْكِن المغربي (نقصد "المغربي المتوسط" من الناحية الإحصائية، أي ذاك الذي يُعاني البطالة و/أو أزمة السكن و/أو مظلمة من المظالم) أن يفعله بعدما ينتهي في كل مرة من قراءة "نيني"؟ إنه ينصرف بالضرورة إلى حال سبيله، وكله يقين أن هذا الرجل بطلٌ شجاع وناصحٌ صادق ؛ ولكنه بصفاته هاته كلها موجودٌ بين جماعة من الفاشلين، الجبناء والكذَّابين، خصوصا بين الساسة ورجال الأعمال والصحافيين. غير أن هذا اليقين الساذج ليس بكافٍ، في الواقع، ليَشُقَّ السبيل الفعلي نحو إيجاد حَلٍّ مناسب لتجاوز سوء حاله. فالأمر كله في ظنه ليس بين يدي الرجل، إذ جزء منه (وهو الجزء الأكبر) بين أيدي عِلْية القوم، في حين يبقى جزء آخر بيد القدر الذي جعله شريكا بهذا "الوطن" أو "المجتمع" الذي لا يمكنك أن تُعَوِّل فيه على أحد، اللهم إلا السيد "رشيد نيني". وهكذا فإن ذلك المسكين لا يتلقى من "نيني" إلا هذه الجرعة من "التنشيط"، وهي غير كافية بالتأكيد لترفعه إلى سماء الفهم لكي يُدرك أن الواقع أعقد مما يتصوره الجميع، وأعقد ما فيه أن شِبَاك السيطرة ضاربة أطنابها في أعمق بنيات المجتمع والتاريخ، وأن من يُقَدِّم نفسه بصفة المُدافع عن "الحق" ليس له، في معظم الأحيان، من "الحق" ما يجعله يتبين "الباطل" في واقعيته التي تجعله أقرب إلى "الحق"، بل ليس له من الجرأة ما يَكْفُل له أن يكشف موضوعيا عن مصالحه الخاصة بإزاء مصالح الآخرين.
وإنه لمن العجيب، بعد ذلك كله، أنْ نَجِد أنَّ "نيني" يبقى مدفوعا بقوة غريبة إلى أن يجعل لنفسه نصيبًا من اسمه: "نيني" في العامية المغربية كلمةٌ تُقالُ للصغير حينما تُهَدْهِدُه الأيدي لتنويمه، والصحافي "نيني" لم يستطع حتى الآن أن يتجاوز إعطاء "مُنَوِّمات" لمن فَقَدُوا القدرة على النوم في ظل الواقع المُؤَرِّق لهم بأكثر من معنى. فهل ستستمر "مُنَوِّمات نيني" مُطَّردةً بحيث تخدم مكر التاريخ ف"لَا تَنِي" (أي لا تتوقف ولا تَضْعُف) عن الاشتغال إلى حين قيام الطوفان؟ ألَا إن من كان يُريد العمل المُوقظ لأبناء الشعب المغربي من أجل إقامة غدٍ يليق بهم كمواطنين ذوي كرامة كاملة ومَصُونة لا يسعه أن يستسلم للاستسهال في سعيه لبناء خطاب يكون بالفعل تنويريا وتحريريا. وأصدق تحية لكل خطاب يُقَدِّم نفسه بهذه الصفة هي أن يكون قابلًا لأن يُفحَص ويُمتَحن نقديا وباستمرار على النحو الذي يُبْرِزُ حدوده ك"خطاب". وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ورَغِمَت أنوفُ "أنصاف الدُّهاة" من كل صنف وبأي وجه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.