إن التطورات التي عرفتها المجتمعات في السنوات الأخيرة ألقت بحمل ثقيل على كاهل المشرع، باعتباره المسؤول الأول عن هذه التحولات في الكثير من الأحيان، والمسؤول الأول والأخير عن أثرها في كل الأحيان، تحولات تقتضي مواكبتها بعملية التشريع قصد تنظيم العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع، وإلا ستفقد القواعد القانونية سلطتها الأسمى في التعبير عن إرادة الأمة كما ينص على ذلك الفصل السادس من الدستور. في خضم هذه التحولات التي عرفها المجتمع المغربي، والمرتبطة أساسا بغزو وسائل الاتصال الرقمي لأغلب تكتلات النسيج المجتمعي، برزت الحاجة ماسة إلى تنظيم علاقات الأفراد على المستوى الرقمي كما تم تنظيمها قبلا على مستوى الواقع، وهنا بدأت تطرح مجموعة من الأسئلة الشائكة المرتبطة بهذا التقنين، بعضها مرتبط بحدود الفضاءين العام والخاص، وبعضها مرتبط بتكييف النصوص المؤطرة للواقع على مستوى المواقع، وأخرى مرتبطة بتكييف الوقائع والأفعال في ظلال قواعد التشريع. وعلى اعتبار البون الشاسع بين سلوك الأفراد على مستوى الواقع وسلوكهم في العالم الافتراضي، حيث إن أنماط التعبير تتغير وأبعاد الجرأة تتمدد. لهذه الاعتبارات وأخرى، برزت مجموعة الأفعال التي تكلف المجتمع بتصنيفها وتكييفها بكونها مخالفة للنظام العام، وهو ما بات يعرف مجتمعيا بالتفاهة، أو بالمحتوى التافه. وبالنظر إلى الدور الذي يضطلع به التشريع في مواكبة التطورات التي يعرفها المجتمع، وبالنظر إلى المهمة الأساسية المنوطة بالمشرع، والمرتبطة مبدئيا بالحفاظ على النظام العام، إن على المستوى الواقعي أو على المستوى الافتراضي؛ كان لا بد من البحث عن تكييف مثل هذه السلوكات التي تنال من ازدراء المجتمع الكثير، بل وتبدو مخالفة تماما للمشترك العام من الآداب، أو بصيغة أخرى للحد الأدنى من قواعد السلوك السوي للأفراد. على ضوء فصول مجموعة القانون الجنائي المغربي، يتبين أن المشرع المغربي إبان تعديله لنص القانون الجنائي -الذي يعود إلى فترة الحماية- لم يدرج حتى هذه اللحظة كلمة التفاهة أو جرائم التفاهة بهذا اللفظ، لكن تحليل الأفعال والتصرفات داخل الفضاءات المفتوحة للعالم الافتراضي على ضوء القانون المغربي، والتي شكل بعضها قضايا رأي عام، بتحليل بعضها أو أغلبها يتبين أن هناك مقتضيات قانونية كيفت هذه التصرفات بوصفها جرائم منتهكة للآداب، والحديث يحيلنا بشكل دقيق على الفصل 483 من القانون الجنائي، الذي أدرج مفهوم البذاءة، واعتبر الأفعال والإشارات الموسومة به تصرفات تستلزم الزجر القانوني، على اعتبار دخولها في كنف جريمة الإخلال العلني بالحياء. لقد رتب التشريع عن ارتكاب أفعال أو إشارات بذيئة عقوبة حبسية تتراوح بين الشهر الواحد والسنتين، بالإضافة إلى غرامة مالية تتراوح بين المائتين والخمسمائة درهم. ولا شك أن السؤال الذي يعلق بذهن المتلقي في هذه اللحظات هو ذلك المتعلق بمدى إمكانية تكييف مقتضيات هذا الفصل مع ما تعارف عليه المجتمع بالتفاهة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والجواب عنه بسيط، على اعتبار أن مجموعة من مقاطع الفيديو، ومجموعة من مقاطع البث الحي تتضمن بشكل أو بآخر أفعالا وإشارات من هذا القبيل، وبالتالي فسوط القانون يدركها وسلطته تطالها. إن هذا التكييف، وإن كان محله المفترض قرارا صادرا عن أحد ممثلي النيابة العامة، أو حكما نهائيا صادرا عن هيئة قضائية، إلا أننا ندلي به في هذا المقام من باب الاستئناس، ومساهمة بسيطة في المخاض العسير الذي يعرفه المجتمع بين مختلف أطيافه، مخاض يطرح أسئلة كثيرة حول حدود الحريات الفردية، ومدى حاجة المجتمع لزيادة صولة القانون والمؤسسة القضائية من جهة، وتخوفات مجموعة من الأطياف لتقييد حرية التعبير والفعل من جهة أخرى. في خضم هذا التدافع، بين تيارات محافظة ترنو تعزيز قواعد الضبط، وأخرى ليبرالية ترنو التحرر من آليات التقييد ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وفي ظل هذا التناقض الذي تعبر عنه مكونات المجتمع، بين فئة تعبر عن الازدراء والتنصل مما بات يعرف بالمحتوى الرقمي التافه، وفئة أخرى تستفيد ماديا من المتعة الذهنية التي تعبر عنها فئة ليست بالقليلة عن طريق نسب المشاهدة العالية، والتي تنتمي إلى المجتمع نفسه، بل وقد يكون جزء منها من مناصري الفئة الأولى الساخطة، بين هذه وتلك، يتجلى دور المؤسسة القضائية ومؤسسة النيابة العامة على الخصوص في تحقيق ملاءمة عسيرة، وتوازن صعب، بين تحريك مسطرة المتابعة أو تجميدها، سلطة تقديرية تصعب من مهمة القضاء الواقف أكثر فأكثر.