لم يكن وصف مجلة "بانوراما" الإيطالية العريقة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ب"نابليون الصغير"، ولا توصيفها لفرنسا بأنها "الطفل المريض (بالدين) لأوروبا"، مجرد عنوان صحافي مثير؛ بل خلاصة لواقعٍ تتراكم شواهده يومًا بعد يوم. فبلد كان يُنظر إليه لعقود على أنه قلب أوروبا النابض، يجد نفسه اليوم في موقع المريض الذي يُنقل إلى غرفة الإنعاش الاقتصادي، بعدما أثقلته الديون، واهتزت ثقة الأسواق فيه، وتراجعت قدرته على فرض الانضباط الذي طالما بشّر به الآخرين. إيطاليا التي عاشت طويلًا تحت هذا الوصف – "الرجل المريض لأوروبا" – صارت تبتسم بارتياح وهي ترى باريس تتخبط حيث كانت روما بالأمس. ومع ذلك، لم تتردّد الصحافة الإيطالية في ممارسة النقد الذاتي وتشخيص أزماتها بصرامة، فجاء مقال "بانوراما" المنشور منذ أيام ليفضح انهيار النموذج الفرنسي، ويكشف هشاشة بنية اقتصاده وارتباك قيادته السياسية. في المقابل، ماذا تفعل الصحافة الفرنسية في لحظة مرضها الداخلي؟ بدل أن تنكب على مساءلة حكومتها وقيادتها التي جعلت البلاد على حافة الانهيار المالي، تنشغل جريدة مثل "لوموند" باختلاق "تحقيقات" حول المغرب، مدججة بمصادر مجهولة وأقاويل لا يجرؤ أصحابها على وضع أسمائهم. هنا المفارقة: صحافة بلد مريض تهرب من مواجهة واقعها الداخلي لتبحث عن مادة دسمة في الخارج، وتغفل عن باريس التي تتأرجح تحت وطأة أزمة ديون غير مسبوقة. الفرق بين "بانوراما" و"لوموند" هو الفرق بين صحافة مسؤولة تُشخّص علّة وطنها وبين صحافة مأزومة تحشر أنفها بتعالٍ ونظرة استعلائية في شؤون الآخرين. الإيطاليون كتبوا بوضوح: فرنسا اليوم تدفع ثمن سياسات ماكرون المتعجرفة؛ أسواق المال لا ترحم، والشارع لا يثق، والمؤسسات باتت في حالة موت سريري. أما الفرنسيون، أو بالأحرى بعض صحافتهم، فقد آثروا أن يتغافلوا عن هذا الانحدار، لينسجوا قصصًا عن "همسات في الرباط"، و"مقربين من القصر"، و"دبلوماسيين مجهولين". إن ازدواجية الخطاب تكشف نفسها بلا أقنعة. فرنسا، التي تئن تحت وطأة دين عام متضخم وحكومة فقدت البوصلة وصحافة محلية باتت عاجزة عن كسر دوائر النفوذ في باريس، تسمح لجريدة ك"لوموند" بأن تفتح جبهات وهمية في المغرب؛ بينما عجزت عن فتح تحقيق شجاع في ديون بلادها أو في مسار "نابليون الصغير" الذي يقودها إلى قاعة الإنعاش. المغرب، بكل وضوح، لا يحتاج إلى دروس من صحافة تعيش في بلد يوصف رسميًا في أوروبا ب"الطفل المريض"؛ بل إن المقارنة تفضح أكثر مما تخفي: بين إعلام إيطالي ينشر نقدًا قاسيًا لواقع فرنسا، وبين إعلام فرنسي يحوّل صحافته إلى منبر للنميمة السياسية حول المغرب. إنها مفارقة تكشف عن مأزق مزدوج: مرض فرنسي داخلي ينهك اقتصادًا وسياسة، ومرض صحافي ينهك مهنة تحوّلت إلى أداة للتضليل والتشهير. والحقيقة أن القارة كلها تعلم: إذا كان المريض اليوم هو فرنسا؛ فالعدوى ستصيب أوروبا بأكملها. أما المغرب، الذي حاولت "لوموند" النيل منه، فقد قدّم، عبر مؤسساته وشفافيته، صورة نقيضة: وضوح في القرارات، وتواصل رسمي حول صحة ملك البلاد، ومكانة دولية متصاعدة تقلق من لا يريد أن يرى المغرب لاعبًا مستقلًا ووازنًا. في النهاية، لن تغير "نميمة لوموند" من الحقائق شيئًا. ماكرون سيبقى "نابليون الصغير" الذي تهاوت صورته في عيون الأوروبيين، وفرنسا ستبقى "الطفل المريض" الذي يحتاج إلى علاج داخلي قبل أن يمد إصبعه ليتهم الآخرين. أما المغرب فسيبقى، برغم ضجيج الأقلام المأزومة، بلدًا يفرض حضوره بإنجازاته، لا بما تكتبه صحف فقدت البوصلة.