في وقتٍ يعيش فيه المغرب واحدة من أنجح مراحل مسيرته الدبلوماسية الحديثة، بعد القرار التاريخي لمحلس الأمن الدولي وبعد أن باتت غالبية الدول المؤثرة تؤيد مبادرته للحكم الذاتي كحلّ وحيد لقضية الصحراء، لا تزال قناة الجزيرة القطرية تثير الجدل بتغطياتها التي يعتبرها المغاربة منحازة ومُسيئة لصورتهم ووحدتهم الترابية. والمفارقة أنّ هذا الإصرار الإعلامي يأتي في لحظةٍ أصبح فيها الموقف الأممي واضحًا لصالح المغرب، حيث تتوالى بيانات الدعم من إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، في حين اختارت القناة القطرية أن تواصل بث تقارير تحمل طابعًا استفزازيًا ومُشككًا. منذ سنوات، والعلاقة بين الرباط والجزيرة تتأرجح بين التوتر والقطيعة، بسبب تغطيات وخرائط وتصريحات تعتبرها الرباط انتهاكًا لسيادتها، فيما تبرر القناة ذلك بكونها تمارس "حرية إعلامية". غير أنّ القراءة المتأنية لطبيعة المواد التي تُبث تكشف عن نمط متكرر في استهداف المغرب، سواء عبر التشكيك في مشاريعه التنموية في الأقاليم الجنوبية أو من خلال منح مساحة إعلامية لأطراف تدّعي تمثيل سكان الصحراء خارج الإطار الأممي المعترف به. هذا التوجه لا يمكن اعتباره مجرد خطأ صحفي عابر، بل يبدو امتدادًا لسياسة إعلامية تسعى للحفاظ على خطّ معين يخدم توازنات إقليمية أكثر منه نقلًا للحقائق. يظهر أنّ جزءًا من هذا الموقف مرتبط بالتحولات الجيوسياسية في المنطقة. فالمغرب، الذي نجح في توسيع تحالفاته وبناء شراكات اقتصادية وأمنية مع قوى كبرى، بات يُنظر إليه كقوة صاعدة في شمال إفريقيا، وهو ما يثير حفيظة أطراف إقليمية تسعى إلى تقليص نفوذه. وفي هذا السياق، تصبح الساحة الإعلامية إحدى أدوات الصراع غير المباشر، حيث تتحول المنابر الكبرى إلى أدوات تأثير تُدار وفق حسابات سياسية دقيقة. ومن هنا يمكن فهم إصرار قناة الجزيرة على تسليط الضوء على أي تفصيل يمكن أن يُفسَّر ضد المغرب، حتى وإن كان على حساب المهنية والموضوعية. لكن اللافت أنّ هذا النهج لم يعد يُحدث التأثير ذاته كما في السابق، فالرأي العام المغربي بات أكثر وعيًا وإدراكًا لموقع بلاده في المشهد الدولي، ويقابل هذه الحملات بثقة متزايدة في مؤسساته ونجاحاته. كما أنّ الردّ الدبلوماسي المغربي لم يعد انفعاليًا، بل يقوم على إقناع الدول والمنظمات الدولية بواقعية الحل المغربي واستقراره، وهو ما جعل مواقف داعمة من واشنطن ومدريد وباريس وبلدان إفريقية وأمريكية لاتينية تتحول إلى قاعدة إجماع حول مشروعية الطرح المغربي. ورغم هذا الزخم الدولي، تبدو الجزيرة وكأنها تسبح عكس التيار، متجاهلة التحول العالمي نحو الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء. هذا التناقض يطرح سؤالًا أعمق عن أهدافها الحقيقية: هل هو مجرد تمسك بخط تحرير "مستقل"، أم محاولة لتأجيج الخلافات خدمةً لمصالح أطرافٍ لا تزال تراهن على إضعاف المغرب إعلاميًا بعدما فشلت سياسيًا ودبلوماسيًا؟ يبقى الواقع واضحًا: المغرب اليوم في موقع قوة غير مسبوق، يحظى بدعم دولي واسع، ويعتمد خطابًا عقلانيًا يستند إلى الشرعية التاريخية والقانونية. أما محاولات التشويش الإعلامي، مهما تكررت، فلن تغيّر من الحقائق شيئًا، بل تكشف فقط عن ضيق بعض المنابر الإعلامية من رؤية مغربٍ قويٍّ وموحّدٍ يُرسم مستقبله بثقة وسيادة كاملة.