منذ ولادتها المشوّهة قبل أزيد من 75 سنة، سلكت إسرائيل مساراً ثابتاً: الاغتيال السياسي والعسكري كأداة لبناء وجودها وتثبيت هيمنتها. لم يكن ذلك خياراً عابراً، بل نهجاً متأصلاً في بنيتها السياسية والأمنية، أقرب إلى منطق المافيا منه إلى منطق الدولة. يكشف كتاب الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان "انهض واقتل أولاً: التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية" (2018) هذه العقيدة بوضوح: أكثر من 2700 عملية اغتيال منذ الحرب العالمية الثانية، رقم يفوق ما قامت به أي دولة غربية. الكتاب يوثق كيف تحولت العبارة التلمودية "إذا جاء شخص ما ليقتلك، انهض واقتله أولاً" إلى عقيدة سياسية وعسكرية، تبنتها حكومات متعاقبة، وأدارتها أجهزة الموساد والشاباك والجيش بدم بارد. والتاريخ يزخر بالأمثلة: اغتيال اللورد موين (1944) والكونت برنادوت (1948)، فضيحة "لافون" في القاهرة (1954) التي استهدفت اليهود أنفسهم لدفعهم للهجرة، مطاردة العلماء العرب مثل يحيى المشد في باريس (1980) وسعيد السيد بدير في الإسكندرية (1989). ثم جاءت موجات طويلة من التصفيات طالت رموز منظمة التحرير وحماس والجهاد الإسلامي: غسان كنفاني، علي حسن سلامة، أبو جهاد، أبو إياد، أبو علي مصطفى، الشيخ أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي... أما اليوم، فقد تحولت هذه العقيدة من ممارسات سرية إلى سياسة علنية. ففي ثلاثة عشر شهراً فقط (2024–2025) اغتالت إسرائيل إسماعيل هنية، حسن نصر الله، يحيى السنوار، قادة وعلماء في إيران، رئيس حكومة الحوثيين وعدداً من وزرائه، وأخيراً أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام. ثم أعلن رئيس الأركان إيال زامير بلا مواربة: "عملياتنا لم تنته بعد... سنصل إلى قادة حماس في الخارج". إنها ليست لغة دولة مسؤولة، بل خطاب عصابة دولية تُعلن أنها ستطارد خصومها حتى آخر الأرض. لكن التجربة التاريخية تكشف محدودية هذه السياسة. اغتيال أبو جهاد غذّى الانتفاضة الأولى، واغتيال الشيخ أحمد ياسين عزّز مكانة حماس، والسيناريو نفسه يتكرر اليوم مع السنوار وأبو عبيدة. فالأشخاص يُقتلون، لكن الأفكار تبقى وتتجذر، وتتحول دماؤهم إلى وقود لصراع أطول وأعمق. قانونياً، تمثل هذه الممارسات قتلاً خارج نطاق القضاء وانتهاكاً صارخاً لميثاق الأممالمتحدة ومبادئ السيادة الدولية. لكن الصمت العالمي وبيانات "القلق" المكررة حوّل الجريمة إلى ممارسة "مشرعنة بالأمر الواقع". الأخطر أن قبول هذا المنطق يفتح الباب أمام دول أخرى لتقليده، فيتآكل النظام الدولي لصالح شريعة العصابة: البقاء للأقوى، والقانون مجرد ديكور. إن سياسة "انهض واقتل أولاً" ليست مجرد عنوان لكتاب يكشف أسرار الماضي، بل وصف دقيق لعقيدة إسرائيل الراهنة: الدم بديلاً عن السياسة، والاغتيال بديلاً عن الحوار، والفوضى بديلاً عن الاستقرار. إسرائيل لا تُصفّي خصومها فحسب، بل تُصفّي معها فكرة الشرعية الدولية، وتحوّل العالم إلى ساحة تحكمها "مافيا الاغتيالات". إن سياسة "انهض واقتل أولاً" الإسرائيلية ليست سوى إعلان دائم بأن الدم هو لغة السياسة، وأن الغد محكوم بالمزيد من الفوضى... لا بالسلام.