في الوقت الذي تشير فيه الأرقام الرسمية الصادرة عن بنك المغرب والوكالة الوطنية للمحافظة العقارية إلى استقرار أسعار الأصول العقارية على المستوى الوطني خلال الفصل الثاني من سنة 2025، لا تزال الأسعار في الواقع اليومي تسجّل ارتفاعًا محسوسًا، يثقل كاهل الأسر المغربية، ويضع حلم السكن في خانة المستحيلات المؤجلة. هذه المفارقة الصارخة بين المؤشرات التقنية التي توحي بالاستقرار وحتى الركود، وبين الواقع الذي يشهد تصاعدًا متواصلًا في أسعار الشقق والمنازل، تطرح سؤالًا جديًا حول منطق السوق العقاري، وطبيعة القوى المتحكمة فيه، في حالة انفصام تفرض وقفة تأمل. في الواجهة، يبرّر الفاعلون العقاريون هذا الارتفاع المتواصل بغلاء أسعار مواد البناء وتكاليف الإنتاج. وهي حجة لا تخلو من بعض الوجاهة الظرفية، خاصة في ظل الزيادات التي شهدتها الأسواق الدولية في السنوات الأخيرة. لكن الحقيقة التي لا يريد البعض الاعتراف بها، هي أن التبرير الاقتصادي أصبح ذريعة لتكريس جشع لا سقف له، باسم "الربح المشروع". لقد تحوّل هامش الربح، في كثير من مشاريع السكن، إلى فجوة متّسعة لا يبررها لا السوق، ولا القدرة الشرائية، ولا حتى المعايير الأخلاقية للاستثمار. ولم يعد غريبًا أن نجد في بعض المدن أرقامًا فلكية لشقق مصنفة ضمن فئة "المتوسطة"، لكنها تقارب أو تفوق كلفة السكن الفاخر في دول الجوار. والنتيجة واحدة: أسرة مغربية تطارد شبح الملكية بين الإعلانات المضلّلة والمكاتب العقارية التي تعرض ما لا يقتنيه إلا الميسورون. هذا الارتفاع غير المتوازن لا يجد تفسيره فقط في ثمن الحديد والإسمنت، بل في عقلية تسويقية لا تعترف بالمصلحة العامة، ولا تراعي الواقع الاجتماعي لمئات الآلاف من الشباب والأسر الذين ما زالوا يؤجّلون مشروع السكن إلى أجل غير معلوم، في ظل العجز البنيوي الحاصل في العرض المناسب للقدرة الشرائية. ولا يتعلق الأمر هنا بمشكلة ندرة في الإنتاج، فالسوق المغربي شهد في السنوات الماضية انتعاشًا ملحوظًا في عدد المشاريع والمجمعات السكنية، بل إن بعض المدن باتت تعج بوحدات فارغة تُعرض للبيع منذ شهور دون جدوى. الإشكال الحقيقي إذن لا يكمن في حجم العرض، بل في بُعده عن احتياجات الناس الواقعية من حيث السعر والمساحة والموقع. إن ما يجري اليوم في سوق العقار المغربي يمكن وصفه ب"الاختطاف الصامت" لحق المواطنين في السكن، من قبل من أصبحوا يتعاملون مع هذا الحق الإنساني كما لو كان سلعة خاضعة لمنطق المضاربة البحتة. فلا الحديث عن الاستقرار السعري يغيّر شيئًا من حقيقة أن السكن الجيد، وبثمن معقول، بات حلمًا مكلفًا. في مقابل ذلك، نشهد مبادرات رسمية تسعى لتقليص الفجوة، من قبيل برنامج "دعم السكن" الذي انطلق سنة 2024، ويمنح إعانات مباشرة للراغبين في اقتناء سكن أول. لكن هذه الإجراءات، رغم أهميتها، تصطدم بسقف الأسعار المرتفعة أصلاً؛ ما دامت آلية التسعير نفسها تخضع لمعادلة مبنية على تضخيم هوامش الربح، أكثر مما تتأسس على رؤية اجتماعية للسكن كحق، لا كترف. ولعل المفارقة الأبرز، أن أسعار العقارات في بعض المدن المغربية تنافس – بل تتجاوز – نظيرتها في عواصم عالمية ذات دخل فردي أعلى بعشرات المرات. ما يطرح علامات استفهام كبرى: من يشتري؟ من يبيع؟ ومن يضبط الإيقاع في هذا السوق الذي يُفترض أنه يخدم المجتمع لا يستنزفه؟ لا شك أن المنعش العقاري – كأي فاعل اقتصادي – له حق مشروع في الربح، لكن بين الربح المعقول والجشع المدمر، هناك خط رفيع يتجاوزه الكثيرون دون حرج. وفي غياب ضوابط رادعة، ومع ضعف المنافسة الحقيقية، يصبح "السعر" ليس انعكاسًا لتكلفة، بل لتموقع احتكاري يستغل الحاجة، ويضغط على الأمل. إن من يريد أن يربح في سوق العقار دون أن يصطدم بالمجتمع، عليه أن يعيد النظر في فلسفة التسعير وأسلوب التسويق، وأن يدرك أن السكن ليس مجرد متر مربع مبني، بل حياة تُبنى. أما من يصرّ على الاستمرار في سياسة التغول الربحي، متجاهلاً المؤشرات والقدرات والمعاناة، فإنه يساهم في صناعة فقاعة عقارية قد تكون العواقب الاجتماعية لانفجارها أفدح مما يظن. لقد حان الوقت لإعادة الاعتبار للبعد الإنساني في المعادلة العقارية، وتجاوز منطق "البيع بأي ثمن"، فالوطن الذي تتضخم فيه أسعار السكن أكثر من قدرة أبنائه على التملّك، هو وطن يخسر استقراره الأسري والاجتماعي على المدى البعيد.