مغرب صاعد: اقتصاديا، اجتماعيا، مؤسساتيا .. المضمون، الفرص، التحديات من المنتظر أن يجتمع مؤتمرو/ات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أيام 17-18-19 أكتوبر تحت شعار قوي ومعبر: «مغرب صاعد: اقتصاديا، اجتماعيا، مؤسساتيا». هذا الشعار لا يعد توظيفا عابرا لعبارة وردت في آخر خطاب ملكي، بل استلهام لعمق دلالة الخطاب، باعتباره إرهاصا لأفق وطني واعد، حيث وردت عبارة «المغرب الصاعد» في خطاب للملك، ضمن تأكيده على المنجزات المرتبطة بالتنمية، والموازنة بين الطموحات والواقع، وبين السرعة وضرورة المساواة، وبين النمو وواجب العدالة ببعديها المجالي والاجتماعي. وبهذا الاستلهام الخلاق، يجد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نفسه، باعتباره حزبا اشتراكيا ديمقراطيا، مطالبا بأن يرقى بهذا الشعار إلى مستوى التحديات التي يطرحها، وأن يبين كيف يمكنه أن يمارس دوره كفاعل سياسي بديل، قادر على المساهمة الفعلية في جعل المغرب صاعدا، لا فقط في الشعارات، بل أساسا في حياة المواطنين اليومية، وفي نجاعة المشروع التنموي الجديد. فمن خلال تفكيك شعار المؤتمر، انطلاقا من أسئلة المضمون والمطلوب والفرص والتحديات، على ضوء المشروع الوطني الديموقراطي للحزب، سيتبين بأننا لسنا إزاء شعار قوي فقط، بل أمام إمكان اقتصادي واجتماعي ومؤسساتي، بمضمون سياسي تقدمي. أما إذا انطلقنا من البعد الاقتصادي، فإن البرنامج الاتحادي لطالما كان يؤكد على أهمية الاستمرار في نسق النمو الاقتصادي المستدام، مع التنبيه إلى ضرورة الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية الكبرى، باعتبارها الضمانة أمام التقلبات التي يعرفها الاقتصاد العالمي. ومن هنا أهمية التذكير الملكي، في الخطاب الأخير، بما تحقق في القطاعات الصناعية التي تجمع بين توطين التكنولوجيات الحديثة وخلق فرص شغل مستدامة، من قبيل صناعة السيارات، والطيران، والطاقات المتجددة، والصناعات الغذائية. وهو ما يسهم في رفع مستويات التصدير، وفي الآن نفسه جذب الاستثمارات سواء المحلية أو الأجنبية، والنتيجة كانت هي توسيع فرص الشباب في الولوج إلى الشغل الحافظ للكرامة، والمطور للكفايات المهنية المستقبلية. وإذا كانت هذه الاختيارات تسهم في خلق فرص للفئات ذات الدخل المحدود والإمكانات المهنية المحدودة، وكذا للفئات ذات الدخل المتوسط والإمكانات المهنية التقنية، والفئات ذات الدخل المرتفع والكفايات التدبيرية العالية، فإنه يجب الانتباه إلى ضرورة الموازنة بين توطين هذه الاقتصاديات والصناعات في مختلف الجهات، بدل الاقتصار على المحاور الاقتصادية المألوفة (الدارالبيضاء/ القنيطرة/ طنجة،،)، والانتباه لمعضلة ضعف استفادة العالم القروي من عائدات هذه القطاعات الصاعدة وطنيا. فنحن، إذن، على هذا المستوى أما فرص تاريخية يجب عدم إضاعتها، كما حصل للأسف في مفاصل تاريخية سابقة أخرى. ولعل أكبر فرصة هي هذه الإرادة الملكية غير المسبوقة في تاريخ بلادنا المتجهة لجعل المغرب واحدا من البلدان الصناعية الصاعدة، وخصوصا على مستويي الطاقات المتجددة والتكنولوجيات الحديثة. مما يجعل دعم المشاريع الكبرى في البنى التحتية، وخاصة في النقل والطاقات المتجددة، يدخل في إطار مشروع أكبر مرتبط بالاستثمار في علاقته بالتنمية المستديمة، ويساعد على الاستقرار الأمني والمؤسساتي والاجتماعي، مما سيحول بلادنا إلى قطب صناعي دائم الجذب، وخصوصا إذا تم استثمار الموقع الجغرافي في إنجاح هذه الاستراتيجيات متوسطة وبعيدة المدى. غير أنه يجب الانتباه إلى أن هذا النمو الاقتصادي ينبغي أن يترجم إلى عدالة اجتماعية، لا تعني شيئا آخر سوى التوزيع العادل للثروات طبقيا ومجاليا. ولذلك لم يعد مسموحا لنا بالفشل في أجرأة مشروع التنمية المجالية المندمجة، والتي من مداخلها الأساسية، تخفيض نسب البطالة، وخصوصا وسط الشباب، وتجويد قطاع التكوين المهني حتى يكون قادرا على مواكبة احتياجات سوق الشغل، والتطورات السريعة التي يعرفها. كما ان الفوارق بين الجهات والمناطق داخل الجهة الواحدة على مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية من صحة وتعليم وبنيات تحتية أصبح عائقا بنيويا أمام إنجاح المسارات الاقتصادية، بما فيها الكبرى. ومما يجب إيجاد أجوبة واضحة عليها، هو: كيف نخفف من أثر التقلبات في الأسواق العالمية على الاقتصاد المحلي؟ وكيف نشق طريقا للتنمية وخصوصا في القطاع الفلاحي دونما تأثر بالطابع البنيوي للجفاف وقلة التساقطات المطرية؟ وإذا انتقلنا إلى الشق الاجتماعي، فإن المغرب الصاعد اجتماعيا لا يعني غير مغرب يحقق التماسك الاجتماعي، حيث يشعر كل مواطن أن الخدمات، والحقوق، والفرص متاحة له بدون تمييز، مع تأمين شبكة حماية اجتماعية قوية، تشمل الصحة، والتعليم، والسكن، والتغطية الاجتماعية، مما يسهم في تضييق الفجوة بين الطبقات، ومواجهة الفقر، ومحاربة التهميش والإقصاء. إن أي حزب سياسي يقدم نفسه بديلا عن السياسات القاصرة للحكومة الحالية، عليه أن يكون واقعيا ومسؤولا، وأن يبتعد عن الشعبوية، وعن تقديم الوعود غير القابلة للتحقيق، متأسيا بالسلوك الملكي، الذي لا يجد غضاضة في الاعتراف بجوانب القصور في السياسات العمومية التي لها ارتباط بالعدالة الاجتماعية والمجالية. وإذا كانت الإرادة الملكية، باعتبارها تجسد إرادة الأمة وأعلى سلطة فيها واضحة في تحويل المغرب إلى صف الدول الصاعدة اقتصاديا، فالإرادة نفسها نجدها في المجال الاجتماعي، الذي يشكل هما دائم التبئير عليه في مختلف الخطابات والتوجيهات والمبادرات الملكية. وهي فرصة أمام القوى الديموقراطية، والمجتمع المدني، الذين لطالما كانوا يطالبون بمزيد من الشفافية، وزيادة الإنفاق العمومي على الخدمات الاجتماعية، في حين كانت القوى الأخرى الريعية تواجهنا بخطاب يمتح من استحالة بناء توازنات اجتماعية دون الإخلال بالتوازنات الماكرواقتصادية، فاليوم، وبفضل الإصرار الملكي على إنجاح المشروع التنموي الجديد، نحن أمام موارد مالية غير مسبوقة مخصصة للقطاعات الاجتماعية، لكن الخلل المسجل على مستوى الحكامة والتدبير، هو ما يحد نجاعتها، فهذه الموارد لو أديرت بطريقة عادلة يمكنها أن تحدث تغييرا ملموسا في الواقع الاجتماعي. إن التحديات التي تقف عائقا دون وصول ثمار التنمية الاقتصادية إلى سائر الطبقات الاجتماعية تكمن أساسا كما قلنا في ضعف الحكامة، ولذلك فإن المرحلة المقبلة تتطلب أن يكون التركيز على تقديم عرض اجتماعي واضح، يراهن على تقوية المرافق العمومية في المناطق المحرومة والهامشية، وتقليص فجوات الولوج إلى الشغل بين المناطق والطبقات، وبين النساء والرجال، والحد من تفاقم الهشاشة الاجتماعية المرافقة لفترات الأزمات (الجفاف، الأوبئة، الكوارث الطبيعية، الأزمات الاقتصادية الكونية). غير أنه يجب الانتباه إلى أن ضعف مشاركة المواطنين، وخاصة الفئات المهمشة والهشة في صناعة القرار، يجعل الاستثمار الانتخابوي في الفقر والهشاشة مولدا لإعادة إنتاج مؤسسات بنفس الأعطاب المولدة للسياسات المنتصرة للريع والانتهازية.. أما على المستوى المؤسساتي، فإننا نقصد بالمغرب الصاعد مؤسساتيا، ضرورة تقوية المؤسسات الديموقراطية، التي تنبثق عنها السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، كما مؤسسات القضاء والإدارة، ومؤسسات التدبير المحلي للشأن الترابي. وإذا كنا لا نرى في الدعوات إلى تجاوز المؤسسات المنتخبة إلا ضربا من الشعبوية، فإننا في الآن نفسه نرى ضرورة جعل مؤسسات الدولة كفؤة، وشفافة، ومسؤولة، تحترم القانون والحقوق والحريات، وتكون في خدمة المواطن لا في خدمة المصالح الضيقة للمشرفين عليها، وهو ما يقتضي إصلاحات في التشريعات، وفي التنظيم الإداري، وفي الحكامة، وفي القضاء، وفي تدابير ربط المسؤولية بالمحاسبة. هذا مع العلم، أن ثمة ما يساعد على المضي في هذا المسار، الذي ليس بالصعوبة التي يحاول البعض إيهامنا بها، فالإرادة الملكية حريصة على دولة الحق والقانون، وتقوية المؤسسات لا إضعافها، مع الإعمال الأمثل لآليات المراقبة والمساءلة، وهذا جوهر الخطاب الملكي الأخير. ومع هذه الإرادة الملكية، نجد ان الدستور بدوره يمثل وثيقة مرجعية داعمة لهذا المسار، فضلا عن عديد المبادرات التي انطلقت من الدولة لدعم قنوات الشفافية ومحاربة الرشوة والاحتكار والفساد.... وهي المبادرات التي يمكن البناء عليها، إضافة إلى تطلعات المواطنين المشروعة، وخاصة الشباب منهم وكذلك ما تقوم بها الصحافة ومؤسسات المجتمع المدني من أدوار السلطة المضادة، ولو بإمكانيات محدودة. غير أن هذه الفرص، تعترضها الكثير من المعيقات، من قبيل الفساد، والبيروقراطية، وضعف الثقة في بعض المؤسسات، والتناقض الذي يلمسه المواطنون/ات بين القوانين والممارسات، واللامساواة بين الجهات على مسنوى البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية، وضعف المشاركة الانتخابية. إن ما سبق يجعلنا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ملزمين بالجواب عن سؤال: كيف نجعل المغرب قوة صاعدة اقتصاديا واجتماعيا ومؤسساتيا؟ وذلك انطلاقا من مرجعيتنا الإيديولوجية، وبرامجنا الانتخابية، وتجربتنا التاريخية؟ إن كون الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حزبا اشتراكيا ديموقراطيا، يفرض علينا التفكير الجماعي المنتج في خطة اقتصادية بديلة، تتضمن إصلاح السياسات الضريبية لتكون أكثر عدالة، وتشجع المشاريع الصغرى والمتوسطة، وريادة الأعمال خاصة في الجهات المتأخرة تنمويا، ودعم الصناعة الوطنية والطاقة المتجددة، وتحفيز الابتكار، والبحث العلمي، والتكنولوجيا الرقمية، والتصدي لتحكم السوق وانفلاتها، وذلك بتقوية وسائل تدخل الدولة للحفاظ على التوازن بين الربح العام والمصلحة الاجتماعية. إن كون الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ينهل من خط الديموقراطية الاجتماعية، فإن نضالنا في المرحلة المقبلة سواء كنا في الموقع الحكومي أو المعارضة، يجب أن يدعم أولويات توسيع التغطية الصحية والاجتماعية إلى جميع المواطنين، دون استثناء، وتجويد المدرسة العمومية،خصوصا في البوادي والمناطق النائية، وربط التكوين بسوق الشغل المحلي، وإبداع سياسات إسكان تراعي الفقراء والمهمشين، وتهيئة المرافق الأساسية في كل الجهات. وكون الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حزبا وطنيا، يؤمن بالإصلاح حصرا من داخل المؤسسات، فإن المرحلة المقبلة لإنجاح مسار المغرب الصاعد مؤسساتيا، تجعلنا في مقدمة القوى المدافعة عن تعزيز استقلالية القضاء، وتفعيل الرقابة البرلمانية، ومراقبة عمل الجماعات الترابية، ومحاربة الفساد ليس فقط بالقوانين، بل أساسا بالحكامة: الشفافية في الصفقات، والمحاسبة، والحق في المعلومة، مع توسيع مشاركة المواطنين في صنع القرار ( المجالس الجماعية، الجهوية، الإنصات لمقترحات المجتمع المدني). وفي مستوى متقدم، يجب البحث عن أنجع الآليات لمراقبة تنزيل السياسات العمومية، والتأكد من أن المشاريع الكبرى لا تبقى شعارات، بل تترجم إلى برامج فعلية على الأرض، وتقييم هادف وشفاف لنتائج السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية، مع مؤشرات واضحة يستطيع المواطن أن يقيس بها التقدم أو التأخر. وختاما، فإن شعار «مغرب صاعد: اقتصاديا، اجتماعيا، مؤسساتيا» هو دعوة للاتحاد الاشتراكي لتحمل المسؤولية وللتجديد، ليس فقط على مستوى الخطاب، بل على مستوى الأفعال والبرامج. هذا الشعار يؤكد أن المغرب ينتظر منا ما يفوق التصريحات: الانتقال من النمو المتفاوت إلى المغرب المتكافئ، والانتقال من مؤسسات تواجه الانتقاد إلى مؤسسات تمثل ضمانات للعدالة والكرامة، والانتقال في المشاريع الكبرى من استفادة محدودة لمناطق إلى تعميم هذه الاستفادة على كافة جغرافية الوطن. ولذلك يجب أن نكون على قدر التحدي: فمرحلة مغرب الصاعد ليست مرحلة لاحقة، بل هي الحاضر الذي نبنيه معا، والاتحاد الاشتراكي مطالب بأن يكون في طليعة البنائين وليس من المتفرجين. ولذلك فالمؤتمر الثاني عشر للاتحاد الاشتراكي هو فرصة لنجدد العهد مع مواطنينا: أن نجعل شعار المؤتمر ليس رسما على الورق، بل مترجما في السياسات، والبرامج، والخطى التي نخطوها معا، نحو مغرب لا يسير بسرعتين، مغرب للجميع، مغرب متضامن وقوي وصاعد. -الكاتبة الوطنية للنساء الاتحاديات