من يملك سلطة تسمية الأشياء وتوزيع العلامات اللغوية يملك السلطة الحقيقية اللغة ليست كلامًا مطلقًا على عواهنه، بل هي مسؤولية يتعيّن على المتكلم أن يتحمّل تبعاتها ضمن نسق جماعته اللغوية. فليست اللغة مجرد وسيلة للتعبير، بل هي نظام من الالتزامات والمعايير يُدين فيه القول لمعنى يتجاوز قصد المتكلم إلى ما تُلزمه الجماعة اللغوية على قوله. رغم أن الفلاسفة تناولوا مسؤولية المتكلم، إلا أنهم لم يوضحوا بالشكل الكافي الآلية التي تجعل القول التزامًا اجتماعيًا، كما يظهر في استنتاج مستند إلى أفكار براندوم حول الالتزام ومسؤولية الكلام والطابع العمومي للغة عند فتغنشتاين، الذي يتجاوز مجرد العمومية ليشمل الإكراه المعياري الذي تفرضه الجماعة اللغوية على أفرادها فيما يخص مضمون الأقوال. علاوة على ذلك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار السلطة التي تتمتع بها الجماعة اللغوية (مجتمع ما) في فرض المضامين اللغوية للمفاهيم على باقي أفرادها. ومن ثم فإن مدار الصراع، ونظرًا للسلطة التي للغة في تسمية أشياء العالم والتحكم فيها، يتمحور حول من له الحق في تسمية الأشياء ومن له الحق في تأويلها إذا كان هناك غموض أو عدم وضوح في الأسماء الدالة عليها. حين يقول شخص ما لآخر: «سأقتلك»، فإن هذا القول لا يظل مجرد تعبير لفظي أو انفعال لحظي يمكن التراجع عنه، بل يُحدث أثرًا معيارياً محددًا داخل الجماعة اللغوية التي تحدد — عبر أعرافها وقوانينها — مضمون هذا القول بوصفه تهديدًا بالقتل. لا يستطيع المتكلم أن يمنح لقوله معنى شخصيًا، كأن يدّعي: «لم أقصد القتل فعلاً، كنت أمزح»، لأن السلطة المضمونية للجماعة اللغوية قد سبقت قصده وحددت معنى القول في الاستعمال المتداول. فالمعنى هنا ليس نابعًا من النية الفردية، بل من القواعد العمومية للاستعمال التي تشكّل المرجع المعياري لتحديد المقاصد والمعاني. وفق الفهم البراندومي، القول التزام اجتماعي لا يمكن التملص منه إلا ضمن شروط الخطاب ذاته، ويصبح جزءًا من شبكة الحقوق والواجبات التداولية: يلتزم صاحبه بالبرهنة على قوله ويخضع للمساءلة القانونية والاجتماعية عند الضرورة. فتغنشتاين يجعل اللغة عمومية، بينما براندوم يحوّل هذه العمومية إلى التزام معياري. الجماعة اللغوية تفرض مسؤولية على القول بمجرد التلفظ به، وتحدد ما يعنيه ضمن القواعد المشتركة للمعنى. من هنا، لا يحق للمتكلم التملص من أثر قوله بادعاء معنى خاص به، لأن المعنى ليس ملكه، بل ملك الجماعة التي تملك السلطة على تحديد مضمون القول وفرض العقوبات عند الضرورة. إن من له الصلاحية أو صلاحية تسمية الأشياء أو تأويلها يتمكن بالتالي من فرضها على باقي أفراد الجماعة اللغوية (المجتمع). أما من لا يكون في مقام يسمح له بتسمية الأشياء، حتى ولو كان يملك السلطة السياسية، فإن دوره يكون إنفاذ ما فرضته سلطة تسمية الأشياء. ولذلك تسعى السلطة السياسية للتحكم في تسمية الأشياء، ومن ثم في إنفاذها والالتزام بها. إلا أن هذه السلطة قد تنفلت إلى المجال الثقافي أو القانوني أو الديني (الفقه)، فتترسخ الأسماء تدريجيًا ويقبل بها المجتمع، ومن ثم السلطة السياسية. وكمثال على ذلك ما يحدده الفقهاء في المجتمعات العربية والإسلامية من حقوق وواجبات، سواء بالاجتهاد أو التشبث بآراء اجتهادية سابقة قد لا توافق الدولة القائمة، لكنها تضطر للرضوخ تحت سلطة المسمى المقبول لدى الجماعة اللغوية. مثال ذلك تحريم المعاملات البنكية وتسميتها ربا، رغم أن هذا الاسم قد لا ينطبق على المعاملات البنكية، فاضطرت الدول لخلق ما سمته بالبنوك الإسلامية. اللغة ليست وسيلة محايدة للتعبير، بل بنية معيارية تولّد المسؤولية. فالقول لا يملكه المتكلم وحده، بل يخضع لنظام جماعي يضبط معناه ويُلزم صاحبه، سواء على المستوى الاجتماعي أو القانوني. وبالتالي، يتحول المضمون اللغوي إلى سلطة معيارية تفرض على المتكلم الالتزام بالقواعد، كما يُبرهن عليه القانون حين يُحاسب على تهديد أو إكراه كلامي. لقد نبه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز إلى أن من بين ما يتهدد وجود الدول ويؤدي إلى سقوطها هو تعدد مصادر التشريع، أي تعدد مصادر تسمية الأشياء عبر الإفتاء أو النص الديني، ثم التشريع من مصادر القانون الوضعي (Hobbes, T. Leviathan, 1651). فالتشريع في مجمله هو أبرز أوجه تسمية الأشياء وإعطائها علامات وتصنيفها تحت يافطة المعايير الخلقية والدينية: خير – شر، حلال – حرام. الربط بين الطابع العمومي للغة عند فتغنشتاين والالتزام المعياري عند براندوم، مع الأخذ في الاعتبار سلطة الجماعة في تسمية الأشياء والسيطرة على المعاني، يسمح بفهم القول كحدث اجتماعي ملزم وليس مجرد تعبير لفظي. فما إن يُنطق القول حتى يصبح خاضعًا لإطار معياري يحدّد معناه ويُلزم صاحبه بالتحمل الكامل لتبعاته. وبذلك تصبح اللغة أول قانون أخلاقي للعيش المشترك، إذ تجمع بين المعنى والمسؤولية، وبين الفرد والجماعة التي تمنحه الاعتراف وتطالبه بالمحاسبة، وتؤكد على السلطة الحقيقية في تحديد مضمون القول وفرضه على المجتمع.