الأمير مولاي الحسن يترأس مأدبة غداء أقامها الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى ال69 لتأسيس القوات المسلحة الملكية    بنسعيد:الإصلاحات التي عرفها المجال الإعلامي ساهمت في توفير مرتكزات متكاملة لتطوير مختلف مكوناته    لقاء تواصلي بطنجة بين الجامعة الوطنية لأرباب المقاهي والمطاعم والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لتعزيز الشراكة وخدمة المهنيين    أكبر طلبية طائرات في تاريخ "بوينغ".. قطر تشتري 160 طائرة ب200 مليار دولار    أخبار الساحة    الناخب الوطني لأقل من 20 سنة: "عازمون على المشاركة في المونديال ونحن أبطال إفريقيا"    نهضة بركان يستأنف تدريباته استعدادا لمواجهة سيمبا    إطلاق حملة توعوية لتفادي الغرق في سدود جهة طنجة-تطوان-الحسيمة    حادثة سيرمميتة بالطريق الرابطة بين الصويرة وأكادير تخلف ثمانية قتلى و20 مصابا    اعتقال أستاذ جامعي يدرّس بأكَادير من أجل التلاعب في التسجيل بسلك الماستر ومنح دبلومات مقابل المال    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    مهرجان «يالطا» بروسيا ينحني لصوت مغربي… والدارجة تسرق الأضواء    عامل العرائش يدشن افتتاح معرض العرائش للكتاب    "ربيع المسرح" في تارودانت يكرّم الفنانين الحسين بنياز وسعاد صابر    معهد صروح للإبداع والثقافة يسلط الضوء غلى المنجز الشعري للشاعر عبد الولي الشميري    أمير المؤمنين يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة برسم موسم الحج لسنة 1446 ه    الملك محمد السادس يوجه هذه الرسالة إلى الحجاج المغاربة    15 % من المغاربة يعانون من متلازمة القولون العصبي والنساء أكثر عرضة للإصابة بها من الرجال    رسميا.. حكيمي يمتلك نادي "سيوداد دي خيتافي" ويشارك في انتداب اللاعبين    جلالة الملك يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة بمناسبة انطلاق موسم الحج    المغرب وتنزانيا يعززان التعاون الطاقي    مقاييس التساقطات المطرية المسجلة خلال ال 24 ساعة الماضية    المغرب يقترب من فرض رقابة قانونية على منصات التواصل الاجتماعي لحماية المجتمع    صرخة فنانة ريفية.. اعتزال "مازيليا" بسبب الوسخ والاستغلال في كواليس الفن    استنفار الدرك الملكي بعد العثور على 20 كيلو من الكوكايين على شاطئ    مركز يجود صيانة مواقع الفوسفاط    "النباوي" يجري مباحثات مع النائب العام رئيس المجلس الأعلى للنيابة العامة بجمهورية الرأس الأخضر    ترامب: سوريا "أبدت استعداداً" للتطبيع    لجنة العدل والتشريع بالنواب تصادق على مشروع قانون المسطرة الجنائية    الذهب ينخفض مع انحسار المخاوف بشأن الأزمة التجارية    وداعا فخامة الرئيس    وزارة التربية الوطنية تفرض عقودا مكتوبة لتنظيم العلاقة بين التعليم الخصوصي والأسر    مجلس فاس يقر عقدا مؤقتا للنقل الحضري ويستعد لاستلام 261 حافلة جديدة    تقرير رسمي: الفلاحة الصغيرة استفادت من 14 مليار درهم كدعم مقابل 100 مليار درهم للفلاحين الكبار    "ترانسافيا" تطلق 14 خطا جويا جديدا بين المغرب وفرنسا لتوفير 130 ألف مقعد إضافي سنويا    جامعيون وخبراء مغاربة وأجانب يلتقون في المحمدية لاستجلاء الفكر الإصلاحي عند العلامة علال الفاسي وإبراز مختلف أبعاده التنويرية    المخرج روبرت بينتون يفارق الحياة عن 92 عاما    توتر أمني في طرابلس يجمد مباريات الدوري الليبي.. والهلع والارتباك يُخيمان على اللاعبين المغاربة    دياز في قلب مشروع المدرب الجديد لريال مدريد    باناثينايكوس يتردد في صفقة أوناحي    المغرب يستضيف مؤتمر وزراء الشباب والرياضة للدول الفرنكوفونية    ردا على طرد موظفين فرنسين من الجزائر.. باريس تستدعي القائم بالأعمال الجزائري وتتوعد بالرد بالمثل    رُهاب الجزائر من التاريخ    الاتحاد الأوروبي يفرض حزمة عقوبات جديدة على روسيا    الإمارات تُجدد حضورها في موسم طانطان الثقافي بالمغرب: تظاهرة تراثية تجسّد عمق الروابط الأخوية    رفع كسوة الكعبة استعدادا لموسم الحج    المغرب يحقق المعادلة الصعبة: تكلفة إنتاج السيارات الأقل عالميًا ب106 دولارات فقط للعامل الواحد    المغرب في تصنيف التنمية البشرية لعام 2023: نقطة جيدة وانتظارات قوية    الأمم المتحدة تدعو مجلس الأمن إلى التحرك "لمنع وقوع إبادة" في غزة    كسوة الكعبة المشرفة ترفع 3 أمتار    عندما تتحول القرارات السياسية من حسابات باردة إلى مشاعر مُلتهبة    السكوري: الحكومة تتطلع إلى مواصلة تحسين مؤشرات التشغيل لخفض البطالة إلى مستويات معقولة خلال السنة الجارية    مَأْزِقُ الإِسْلاَمِ السِّيَاسِي    المجلس الوزاري: حول الأسماء والأشياء!    حكم جديد.. 3 ملايين ونصف تعويضاً لسيدة عضها كلب    أزمة دواء اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه في المغرب.. يفاقم معاناة الأسر في صمت    دراسة من هارفارد: شرب الماء الكافي يعزز التركيز الذهني ويقلل التعب والإرهاق    الأغذية فائقة المعالجة تهدد بأعراض "باركنسون" المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بنسالم حميش يكتب عن أركون بين الاختزال والافتراء
نشر في هسبريس يوم 23 - 02 - 2016

إن المعرفة المتماسكة هي نتاج العقل السجالي وليس العقل المعماري. غاستون باشلار
تقديم
إذا كان مفكرو العلوم الدقيقة، كجان توسان ديسنتي وبالأخص غاستون باشلار، قد أقروا داخل الممارسة العلمية بالسّجال (ضد الواقع والخطأ والتعود النظري) كسماد يتغذى به تقدم التفكير العلمي ويتحرر، فما بالكم بوضعه ودوره داخل الثقافة التي لا تحيا إلاّ بالتطارح والتواصل بالأفكار والقضايا، أو ما أسماه التوحيدي "المثاقفة". فرحم الله عهوداً من تاريخ آدابنا كانت القرائح فيها تتقد، والأذهان تنتفض، والمعارك تقوم حول قضايا ومشاغل فكرية جوهرية، فنهضت بها ومعها المعارف في اللغة والتفسير والفقه، وفي الكلام والتصوف والتفلسف، وحتى في العلوم الطبيعية؛ وكان المحرك الأساس الذي هو البحث والنظر يتلقى دفعاته بالذات من التناظر والجدل والسجال...
*
يمكن التسليم بأن محمد أركون كان السبّاق إلى فتح ما يسميه ورش "الإسلامولوجيا التطبيقية"، معارضا الإستشراق التقليدي الذي يدين له بالكثير في تكوينه، خلافا لما يزعمه. ولإنجازه يدعو إلى تسخير ترسانة من المناهج المنتسبة إلى مجمل العلوم الإنسانية التي لا نعتقد أنه كان يلم بها حقا، بسبب شساعة مجالاتها ومناحيها المعقدة الشائكة، والدليل أنه كلما استعصت عليه بعض مفاهيمها ونظرياتها إلا ووصفها بالمرعبة (effrayantes). والدعوة في حد ذاتها قد يجوز جدلا البحث فيها، إلا أن إشكالها يلوح سلبا ما إن نقف على غايات الداعي المتأرجحة بين الكمون والظهور، لكنها لا تخفى على العارف بالموضوع المدروس والمحتك بآليات التحليل ومناهجه وبتاريخ المعطيات والنصوص. وفي حالة أركون الذي كتبتُ عن بعض أعماله سابقا وشاركت في ندوات تكريمية بالفرنسية حوله، هناك أفكار ثابتة صلبة لا يطرحها كفرضيات تجريبية، بل كمقدمات نظرية يتمسك بها بشدة ويبني عليها، منها اختصارا:
1/ النص القرآني، وهو من أهم مدارات أبحاثه، يخضعه، كأي نص مكتوب، لمنهج عُرف به الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (وطبقه على مواضيع مغايرة)، وهو المنهج التفكيكي (أو حرفيا الهدمي أي هدم المبني déconstruction). وتفضيل الدارس لهذا المنهج على المنهج التحليلي المعهود يشي بما يريد إظهاره والتأكيد عليه، وهو أن ذلك النص يستمد بنيته وروحه من تاريخيته (historicité) أي كحدث أو واقعة (un fait) تنسحب عليه كل صفات الأحداث التاريخية الوازنة المؤثرة؛ وبالتالي نراه لا يقيم اعتبارا لما تعارف عليه المفسرون قديما وحديثا، أي للوحي كعنصر مؤسس محايث وبالتالي للإعجاز والإنباء عن الغيب؛ فكل هذه المقولات وما يتولد عنها ويتفرع إنْ هي عند المفكك إلا مقولات "ميثية" (أسطورية وليس قصصية كما يسيء التعريف)، وما يشفع لوقعها وتأثيرها في تمثله صادر رأسا عن طاقتها العجائبية (le merveilleux) ليس غير. وبهذا التوصيف، الذي يكرره على الأسماع حتى في يوتوب، يفسر مثلا الآية 40 من سورة التوبة التي ترمز إلى خبر اختباء الرسول وأبي بكر في غار بجبل ثور (جنوب مكة)، حيث نسجت عنكبوت على مدخله خيوطها فحجبتهما عن رؤية مترصديه وملاحقيه من أعدائه القرشيين،، كما ورد في سير نبوية. ويرى أركون أن هذا الخبر إن هو إلا خبر عجائبي (أي خرافي)، تقاس عليه قصة الإسراء والمعراج وظهور الملك جبريل وما إلى ذلك كثير.
2/ ما تنطبع به الكتابات الأركونية هو نهجها الإختزالي الصارخ، فهو مثلا يُسقط من حسابه التراث الأدبي والصوفي العربي-الإسلامي بكل نصوصه الهائلة وتجلياته الإبداعية الشيقة؛ والأدهى منه والأعجب تقريره الاعتباطي بنهاية الفلسفة في الإسلام مع وفاة أبي الوليد ابن رشد، غير آبه لتراث ضخم أنتجه أعلام عظام برزوا في القرون التالية، من مصف الشيخ الأكبر ابن عربي وابن سبعين وابن خلدون والسهروردي والملا صدرا الشيرازي، وغيرهم كثير، وذلك خلافا لما ذهب إليه باحثون أكفاء (هنري كوربان، لوي ماسينيون، آن-ماري شيمل، كريستيان جامبي، عبد الرحمن بدوي...). ويشمل ذلك المنهج الإختزالي التعسفي قطاعات عديدة من الأعمال الفكرية والدراسية بالعربية، إذ يرميها، حتى من دون اطلاع، في أتون "الإيديولوجيا" التي هي عنده نقيض "العلم"؛ والعلم هو، في اعتقاده الراسخ، ما يضطلع به ويمارسه هو. ويذهب به الأمر إلى ادعاء القدرة على التفكير في ما يظل عند الآخرين، حتى من النخب، طيَّ منطقة "اللامفكر فيه" [كذا!]. ومن ثم فإنه ينظر إلى ثلة من خيرة الأسماء العربية في مجال البحث والفكر بنوع من الإزدراء والإستعلاء السافرين، وهم كما يعدهم عبد الله العروي، أنور عبد الملك، هشام جعيط، إدوارد سعيد (هكذا بالجملة!)، ولا دليل على أنه قرأهم فعلا، فيكتب عن هؤلاء الأعلام المتفوقين عليه معرفةً ودراية: "إنهم إذ ينتقدون المستشرقين لا يأخذون بعين الاعتبار أنهم ينتمون هم أيضا إلى منهجية العلم الغربي وروحه ذاتها. ولكن، لأنهم يتكلمون باسم العرب أو المسلمين فهم يعتقدون أنهم بمنأى عن الزلل". والحق أن لا أحد منهم قال يوما بعصمته، لكنهم بهويتهم، خلافا للمفترى، كانوا معتزين وعنها منافحين. كما أنه بالنهج الإختزالي والاستصغاري نفسه يقر بجرة قلم أن "النهضة العربية" في القرن التاسع عشر إن هي إلا إسم على غير مسمى، مبالغ في وضعه وترويجه، وشتان ما بينها وبين نهضة أوروبا القرن السادس عشر؛ وفي سيل كلامه السائب اللامدقق، يرى أن الدولة الجزائرية (وسواها من الدول العربية) لا تعدو أن تكون دولةً-حزبا (Etat-parti) لا أكثر، تقوم على أساس النزوع الوطني والإيديولوجيا المناضلة، الخ. ولو كان الرجل في كل كلامه ذاك محققا موثقا لأخذناه على محمل الجد وحاورناه بالتي هي أحسن، لكنه في الغالب الأعم إنما يبرع في اللوغوماشيا، أي الكلام المتهافت الملقى على عواهنه إلقاءا.
3- اللافت للنظر عند أركون هو علاقته المتوترة الصدامية مع موضوعته الرئيسية (الإسلام)، شُغْلِ أيامه وأعماله الشاغل، به يتعيش ويتقلب في الألقاب والمناصب؛ إنها علاقة - يا للمفارقة الثقيلة!- مشوبة بالعداء والكراهة، تبعده عن سبل الفكر الفلسفي الصحيحِ العميق، إذ تُحوِّل المنهج التفكيكي بين يديه إلى معولٍ حادٍّ نشيط، يتأدى به مثلا إلى اعتبار سورة التوبة وآيتها الخامسة خاصة متضمنةً بذور العنف الإسلامي عموما، ولا يأبه حقا لأسباب نزولها ولا للسياقات القاهرة التي رافقتها، وعلى رأسها نكث المشركين للعهود المبرمة وإخلالهم بمبادئ السلم والأمان فيها؛ كما أنه -وهذا ما لم ينتبه الدارسون إليه- في أطروحته البكر عن علي ابن مسكويه (وهي للإشارة سليلة المسار الاستشراقي نهجا ومناخا) ذهب إلى ليِّ نصوص هذا المفكر الفذ لتقويله ما لم يقله، وألقى عليه من الإسقاطات الذاتية ما لا يطاق. فعنده -ويحسن أن نزن قوله الآتي كلمةً كلمة- أن ابن مسكويه الإنساني النزعة (humaniste) "سعى إلى عرض الطريق الإغريقي نحو وحدة البشر، أي إلى استبدال الالتزام الجماعي لمجموعة مكلفة من طرف نبي أو خليفته بالالتزام الفردي للإنسان العاقل". وعنده أن الإنسان العاقل تجسده فلسفيا وعمليا المنظومة الأرسطية التي يقوم أسها وبنيانها على اللوﮔوس (logos) أي العقل (لغةً وخطابا وتمثلا) في مقابل الميثوس (muthos) القائم على طاقات الوجدان والحدس والخيال. ويمثل القطبين في الفلسفة اليونانية نفسها أرسطو وأفلاطون. والمشكل عند أركون هو أنه يكد ويستميت في وضع تقابل ثنويٍّ تضادي بين المفهومين، يسخره للتخلص مما يتأباه وينفر منه، مقررا اعتباطيا متى وأين ولدت العقلانية ونشأت، ومتى انتهت وبادت وعلى أيدي من؛ والحال أنها في تاريخ الفلسفة ذاتها، حتى اليونانية وما بعدها، كانت في علاقات تجاذب وتقاطع مع التيارات الحيوية والوجودية تحديدا. ليس هذا وحسب، بل إن الثورة الكانطية النقدية دحضت كل تصور للعقل دوغمائي لا متبصر، كما تعبّده أركون؛ ويعمق هذا الدحض ويدلل عليه فلاسفة من صنف ماركس ونيتشه وبرگسون وفوكو، علاوة على أسماء وازنة في العلوم الإنسانية كفرويد ودوميزيل ولفي- ستروس، وغيرهم. ولعل القاسم المشترك في أعمال كل هؤلاء يكمن في التأكيد على تاريخية العقل البشري وارتباطه الخفي في انبنائه واعتماله بملكات مغايرة، كما مع ما يسميه علم النفس التحليلي منذ فرويد "اللاشعور"، وذلك من منطلق أن الإنسان كائن حي ومتكلم وعامل. وكان لأبي حيان التوحيدي، أن سجل في كتابه المقابسات: " في أن بعض المسائل توجد بالفكر والروية وبعضها بالخاطر والإلهام" (المقابسة 55). وللإشارة فقد كان أركون ينوه بهذا العلَم الألمعي، لكنْ من دون أن يبرهن على أنه استوعب فكره حقا في كليته، ووعى دلالة مؤلفه الإشارات الإلهية، وقاس نبضاتِ وجوديته العميقة وقوة بلاغة لغته المتوهجة وبيانها الأخاذ. ولو تيسر له هذا فعلا لما بلغ في شأن اللوگوس حد الهوس والتعبد، ولما جعل من العقل المولى المطلق المهيمن الذي يعلو ولا يعلى عليه. وهكذا دلل على نزوعه الفلستيني، أي النافر من الذائقة الفنية والجمالية والميال إلى المقاربة التصحيرية في مجال حياة الفكر والمفاهيم. وفي سابقة موغلة في الغرابة (يمكن مشاهدتها على يوتوب) استُدعي محمد أركون لمناقشة رواية جاك أتالي، رابطة اليقظين، شخصيتاها ابن رشد المسلم وابن ميمون اليهودي، وبدل أن يتطرق المدعو للموضوع، لم يفتر عن الكلام في مؤلفاته ومقولاته الأثيرة. وهذا دليل آخر على عزوف صاحبنا عن الانتاج الروائي والأدبي عموما، أي عن فليستينيته. ولو أنه اطلع حقا على الرواية لربما كان اكتشف أخطاءها التواريخية الفادحة ونبه إليها.
عودا إلى ابن مسكويه، لنترك للقارئ مهمة تفقد مظان النصوص حتى تتبين له صورة أخرى من صور الغلو والتلبيس في نمط التفكير الأركوني وطرائقه، وفي ترسانته المفهومية المتحذلقة بقدر ما هي معتلة. وحسبنا هنا أن نحيله إلى أحد أهم مؤلفات ابن مسكويه، الهوامل والشوامل، حيث يجيب فيه عن أسئلة عميقة ثاقبة لمعاصره ومزامله أبي حيان التوحيدي؛ ولينظر أيضا في كتاب آخر، هو تهذيب الأخلاق، بادئا بقراءة مقطع واحد عنوانه "أسباب الانقطاع عن الله"، ويسميها الشقاوات التي يتجنبها الإنسان السعيد الساعي إلى "القرب من الله تقدس إسمه"، فيلامس ذلك القارئ ما ينتهى إليه الباحث الخبير، وقد سقناه.
4- بضاعة الإسلامولوجي أركون من اللغة العربية دون المستوى المطلوب من متخصص، فإن تكلمها أَلَكَنَ ولحن، وعن كتابتها عجز وتأخر؛ ومع ذلك لا يتورع في ادعاء أنه أول من صاغ كلمة أنسنة التي تترجم humanisation وليس humanisme كما يظن، ويخبط خبط عشواء حين يوهم أن هذا المفهوم الأخير يطابق ما يسميه العرب "الأدب"، وكذلك كلمة مخيال فهو مسبوق إليها، ووزنها في العربية مفعال مقرر ثابت. ولو اتصف أمره بغير ذلك لكان -مثل هشام جعيط وعبد الله العروي- كتب بتلك اللغة وألف، ولكان صحح ترجمة أعماله وقوّم، وأنقذها من مزالق الأخطاء والغلطات المستشرية فيها والحائلة دون بلوغها مرتبة البيان والصفاء التي بدونها، خلا عند زمر الحداثيين المزيفين والأطاريحيين المتهافتين، لا إشعاع ولا تأثير، وبالتالي لا قاعدة واسعة من القراء الشغوفين الحقيقيين. وقد وعى هو نفسه بوضعه هذا واشتكى من قلة إقبال القراء عليه، الفرنكوفون وأكثر منهم بالعربية، مع أن ستة عشر مؤلفا نُقل إلى هذه اللغة.
5- رجل بالمواصفات التي أوجزنا أهمها، وبسمْت الرصانة والوقار عليه، وبقدرته على تصريف لغة فولتير والإرتجال بها، لا عجب أن تستقبله أوساط أوروبية، وخصوصا فرنسية، بالترحيب والتهليل، وأن تحتضنه داخليا وعبر مراكزها المبثوثة في العالم العربي، لكن دونها دور النشر الكبرى (وهنا مكمن جرحه الغائر الآخر). وعلاوة على دروسه سابقا في معهد الدراسات الإسلامية بالسوربون3 ومحاضراته ومقابلاته، رأيناه أيضا عضوا في لجنة ستازي (Stazi) المكلفة من طرف حكومة جاك شيراك (2003) بتقديم تقرير عن اللائكية، تستصدر على ضوئه السلطات العمومية قانونا لمنع العلامات الدينية في المدرسة والفضاءات العمومية، وأبرزها ما سمي "الحجاب الإسلامي"؛ ثم ها صاحبنا واحد من أشد المدافعين عن قانون اللائكية لسنة 1905، ويذهب تحمسه لها إلى حد انتقاد فرنسا (ونادرا جدا ما ينتقدها) لكونها لم توسع وقتذاك تطبيق تلك اللائكية على الجزائر، فتشمل بأنوارها مستعمرتها القديمة؛ وهذا الانتقاد المتأسف فاه به جزائريان آخران هما مالك شيبل وبوعلام صنصال، وفي تقديرهم جميعا أن فرنسا لو فعلت ذلك ورعته –يا لرعونة الفكر!- لكونت منذ ذاك الوقت مع الجزائر قوة عالمية من مائة مليون نسمة، ولكانت وضعت لها الشروط والدروع للحؤول دون نشوء التيار الأصولي وترعرعه [كذا!]. ولقد كان أركون يشعر بأهميته لدى السلطات الفرنسية، فذهب إلى حد مطالبتها بإنشاء معهد وطني للدراسات العلمية للإسلام، لكنها لم تستجب لعرضه اقتناعا منها، ولا شك، أن معالجتها للديانة الثانية في فرنسا سوسيو-سياسية وليست إبستمولوجية وتفكيكية، إذ مكان هذا الصنف الدراسي الطبيعي هو الجامعة ومراكز الأبحاث في الديانات بشعبها وتخصصاتها؛ هذا علاوة على أن صورة الرجل عموما ظلت سلبية عند مجموعة مسلمي فرنسا وحتى خارجها، وتقر بكونه، بغض النظر عن ادعاء تعاطيه البحث العلمي، إنما يستعمل ترسانة من المفاهيم والمناهج (يمكن تسميتها أركونيات arkounoïdes) تروم في آخر التحليل تقويض أساسيات الإسلام دينا وثقافة.
لو أن مدار البحث عند أركون كان حول ما حفل به "علم الكلام" من قضايا جسيمة كقضية خلق القرآن عند المعتزلة الذين ذهب أحد أقطابهم، هو إبراهيم النظّام، إلى القول بأن الإعجاز القرآني ليس في لغته ونظمه بل قي معانيه وإنبائه عن الغيب؛ لو أن مدار البحث عنده كان في الناسخ والمنسوخ وفي الآيات المتشابهات، رغم أنها ليست أم الكتاب، أو كان في المضامين المتعارضة، منها مثلا: الإنسان خُلق من تراب/ الإنسان خليفة الله في أرضه// ملازمة الله للعالم/ تعاليه عنه// التخيير/ التسيير// العقل/ الإيمان// لا إكراه في الدين/ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... لو أن أركون في هذه المواضيع وأخرى كثيرة من صنفها فكر وبحث وصنّف إذن لأجاز المتخصصون ذلك وناقشوه فيه وجادلوا؛ لكن هذا يصير غاية في الصعوبة بل الاستحالة حين يذهب صاحبنا إلى حد نفي الأصل الإلهي عن القرآن وإرجاع كثير من أساسياته، كالوحي والغيوب والإعجاز، كما أشرنا، إلى العقلية الميثية والعجائبية. ومن نصوصه الأخرى الدالة ما ورد في إحداها، بعد لف ودوران مفاهيمي ومناهجي وتمارين تفكيكية، من أن نظرة اللامؤمن مخالفة تماما لنظرة المؤمن في مسألة عجائبية القرآن (ومن قال يوما بغير هذا؟) وعلى إثر موازنة بينهما رأى أن الأول يعمل في استيعاب القرآن وفهمه بعاطفته ووجدانه، فيما الثاني يشغّل إدراكه الحسي وطاقته العقلية. ويكشف المحلل-المفكك عن تحيزه للموقف الثاني وذلك من خلال دعوته الملحاحة إلى نزع الطوابع الميثية والمغالطتية والإيديولوجية أو ما يراه كذلك في دراسة الإسلام عقيدة وشريعة.
إن سلوك أركون المستميت والمدمن على استعمال أفكار ومقولات متشنجة راسخة والترويج لها يبعده عن دوائر الفكر الفلسفي، وحتى عن البحث القويم والموضوعي في الإنسانيات، ويدخله في المقابل بين طيات الكتابات المؤدلجة التي لا تفيد الفكر ولا العلم، ولا تصمد أمام رياح التصفيات النهائية فالنسيان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.